لبنان العلمانيّ – د. كوستي بندلي

mjoa Thursday December 12, 2019 1171

مقتطف من كتاب “لماذا أتلهّف كمسيحيّ إلى ولادة لبنان الجديد” غير المنشور للدكتور كوستي بندلي والذي سيتمّ نشره قريبًا، ننشره بمناسبة الذكرى السادسة لانتقاله إلى الأخدار السماويّة.

 

ّلبنان العلماني

العلمنة أوّلًا. كم من التشويش يكتنف هذا المفهوم في بلد لم يسمح التعتيم الفكري الذي فرضته العهود البائدة، للكثير من أبنائه بأن يصلوا إلى مستوى التفكير الموضوعيّ والتحليل الواضح. ليست العلمنة، كما يدّعون، عداء للدّين أو إلحادًا، إنّما هي استقلال المجال الدينيّ عن المجال السياسيّ، دون أن يمنع هذا الاستقلال من التفاعل بينهما. هذا يترجَم في الساحة اللبنانيّة إزالة للطوائف من حيث هي دويلات تتقاسم الحكم والإدارة وتتصارع عليهما، مصدِّعة وحدة الوطن وسلطة الدولة، ومن حيث هي كيانات حقوقيّة تفرض شرائعها بقوة القانون على كلّ من انتمى إليها بالولادة دون أن تأخذ بعين الإعتبار قناعاته الشخصيّة. ولكن إزالة الكيان السياسي للطوائف لا يعني إطلاقًا التعرّض لها كجماعات دينيّة يتعاون أفرادها على عبادة الله والتقرّب إليه وتتميم وصاياه ونشر تعاليمه والشهادة لإيمانهم به في المجتمع وترجمته أعمالَ تربية وبِرّ ومساعدة. إنّما يعني فقط أن يكون المواطنون، في ميدان الحياة العامّة، متساوين في الحقوق والواجبات، بصفتهم بشرًا ومواطنين، دون اعتبارٍ لإنتمائهم الطائفيّ الذي يخوّل البعض امتيازات دون سواهم ويوجِد الشقاق والتناحر بين أبناء الوطن الواحد.

العلمنة هي أن يُفسَح المجال أمام كلّ مواطن بأن يعطي الدولة وفقًا لمواهبه وأن يأخذ منها وفقًا لحاجاته دون أيّ تمييز فئويّ، كذاك الذي كان يخصّ أهمّ المراكز القيادية بطائفة دون سواها ويوزّع مشاريع الدولة على المناطق بتفاوت يمليه المنطق الطائفيّ. العلمَنة هي أيضًا الحؤول دون فرض الشرائع السماويّة التي تسير عليها الطوائف بضغط القانون وفعل أجهزة السلطة، حتّى على أبناء هذه الطوائف عينها، وذلك مراعاة لكرامة الشخص الإنسانيّ واحترامًا لحرّية الضمير، ممّا يفترض كحدّ أدنى وضع قانون مدنيّ اختياريّ للأحوال الشخصية يسمح لمَن لم يعد مؤمنًا بعقيدة الطائفة التي وُلد فيها أن لا يضطرّ إلى إذلال كرامته وممارسة النّفاق بعقد زواجه مثلًا في ظلّ شريعة إلهيّة لم يعد يؤمن بها أو بالتظاهر على البقاء في دينه لئلّا يُحرم من إرث والده، وممّا يتيح للمؤمن نفسه أن لا يتقيّد بالشريعة الدينيّة التي تسير عليها طائفته إلّا مختارًا، وفقًا لقناعته الشخصيّة، لا مغلوبًا على أمره، مُكرهًا بسلطة القانون.

تلك العلمنة التي تفترض إذاً كحدّ أدنى لها إلغاء الطائفيّة السياسيّة وطائفيّة الوظيفة وإصدار قانون مدنيّ إختياريّ للأحوال الشخصيّة، لماذا أتلهّف إليها كمسيحيّ؟ ذلك لأسباب متعدّدة ترتبط كلّها بالإيمان، أوجزها بما يلي:

أوّلاً: لأنّ العلمنة تعيد للشخص الإنسانيّ كرامته، إذ تعتبره مهمًّا بحدّ ذاته، بغضّ النظر عن الفئة التي ينتمي إليها وبالإستقلال عن ظروف ولادته، فترفَعه إلى أعلى المسؤوليّات إذا كان قادرًا على ممارستها، بغض النظر عن حجم الطائفة التي ينتمي إليها، وتهتمّ بحاجاته بقطع النظر عن مكانة ونفوذ الجماعة التي وُلد فيها. إنّ إعادة الاعتبار هذه للشّخص الإنسانيّ في كلّ مواطن، على اختلاف انتمائه الفئويّ، إنّما تنسجم إلى أبعد حدّ مع النظرة الإيمانيّة المسيحيّة التي تنظر، في كلّ إنسان، إلى كيانه العميق الأبعد من كلّ أوضاعه وظروفه الإجتماعيّة، فنقيم هذا الكيان إلى أبعد حدّ، إذ ترى فيه، على وضعه الترابيّ، تجلّيًا للحضور الإلهيّ في الكون، صورة فريدة لله جديرة بكلّ احترام واهتمام.

ثانيًا: إنّ اعتبار هذا الشخص الإنسانيّ يفرض احترام مواقفه الوجدانيّة بحيث أنّه لا يجوز أن نفرض عليه موقفًا دينيًّا لا ينسجم مع قناعته الداخليّة. فالدّين، وما يمليه من مواقف في كافّة مرافق الحياة وخاصّة ما هو حميم منها كقضايا الزواج والطلاق، إنّما يمسّ الإنسان في صميم كيانه، لأنّه يتعلّق بالمعنى الأخير الذي يعطيه هذا الإنسان لوجوده. لذا لا يمكن فرضه على الإنسان وإلّا تحوّل إلى رياء وعبوديّة. لو شاء الله أن يفرض ذاته على الإنسان فرضًا، لكان أعطى لوجوده ضغط البداهة الحسيّة أو العقليّة، ولكنّه لم يفعل ذلك بل شاء أن يكتشفه الإنسان ويتقبّله بملء اختياره، بفعل إيمان حرّ لا يتحوّل، ولا في وقت من الأوقات، إلى تحصيل حاصل، بل عليه أن يجدّد ذاته باستمرار ككلّ حبّ والتزام حقيقيّ. الله يعرض ذاته على الإنسان ولكنّه لا يدخل إليه عنوة ولا يغتصبه اغتصابًا: “إنّي واقف على الباب وأقرع، يقول السيّد المسيح في رؤيا يوحنّا، فإن فتح لي أحد، أدخل وأتعشّى معه وهو معي”، ممّا يقابله في القرآن الآية الكريمة: “لا إكراه في الدّين”. هذا الإنسان لا يجوز لنا بالتالي أن نفرض عليه أحكام الدين فرضًا، وإلّا شوّهنا الدّين في الصميم مسقطين على الله صورة التسلّط المقيت الذي نمارسه باسمه، منتهكين حرّية الضمائر التي يحترمها الله نفسه، باسم سلطة دينيّة مدججة بسلاح قيصر.

 (…) العلمَنة تعيد إذًا للإنسان في لبنان كرامته وحرّيته، وهذا كما رأينا من صلب الإيمان، ولكنّها تساهم أيضًا في إعادة الطوائف إلى أصالتها الدينيّة، إلى حقيقتها الإيمانيّة التي طالما حجبتها حمّى التهافت على المكاسب والنفوذ. فالنظام الطائفيّ لم يكن تقزيمًا للإنسان اللّبناني فحسب، إنّما كان أيضًا وبالًا على الطوائف عينها إذ أفقدها إلى حدّ بعيد هويّتها الحقيقيّة (…)

284 Shares
284 Shares
Tweet
Share284