الأب الياس مرقص التماعات أنطاكيّة .!. (٣٠)

الأرشمندريت توما (بيطار) رئيس دير القديس سلوان الآثوسي Sunday December 15, 2019 206

كان الأب الياس على حكمة فذّة. والحكمة الحقّ تأتي من المحبّة، وغرضها المحبّة. لا تلتمس الحكمةُ العدالةَ، بمعناها البشريّ. تلتمس البرّ..!.. لذلك همّها البنيان.!. جاء ابن الله إنسانًا ليخلِّص ما قد هلك، ليبرِّر الفجّار بالإيمان والتّوبة.!. “كلّ خطيئة تُغفر لبني البشر…”. البرّ أن تصير مَرْضيًّا لدى ربّك “المحبّة”، تقتدي بعطاء زكّا بعد عشارته، وبمحبّة المرأة الخاطئة بعد زناها، وبدموع بطرس بعد جحوده، وبإيمان توما بعد شكّه.!. هذا لأنّه “يكون فرح في السّماء بخاطئ واحد يتوب أكثر من تسعة وتسعين بارًّا لا يحتاجون إلى توبة” (لوقا 15: 7).!. المحبّة تلغي العدالة.!. ما كانت العدالة إلّا لتبلِّغنا المحبّة، فإن بلغنا المحبّة لم تعد هناك حاجة للعدالة.!.

هذه كانت القاعدة الّتي كان الأب الياس ينطلق منها في تعامله مع الّذين يتّخذونه أبًا روحيًّا لهم، ليَلِدهم في المسيح.!. إن أخطأ إليك أخوك سبع مرّات في اليوم، ورجع إليك سبع مرّات في اليوم قائلًا: أنا تائب، فاغفر له (لوقا 7: 4).!.

كاهنٌ، مرّة، على ما أخبرني، سقط في تجربتين قاسيتين، خلال يومين، فاضطرب اضطرابًا شديدًا.!. دُعي إلى عشاء فاخر فعثر وأدان أصحاب الدّعوة ولم يستطع أن يأكل شيئًا لأنّه ذكر الفقراء فلمّا يستطع احتمال البذخ بإزائهم، وخرج يضرب أخماسًا بأسداس.!. وفي اليوم التّالي، إذ كان يعمل في وظيفته، لأنّه كانت له وظيفة مدنيّة، أصرّ عليه زملاؤه أن يشاركهم لعب “الورق” بِرُهان. فخسر معاشه، الّذي كان قد قبضه في ذلك النّهار، واستبدّ به شعور بالغيظ والقرف، لا سيّما أنّه نادرًا ما كان يقامر.!. وإذ شعر، في اليوم التّالي، بحاجة إلى معونة روحيّة صعد إلى دير الحرف ليرى الأب الياس.!.

دقّ جرس الباب الحديديّ الأسود، فإذا بالباب، عند نقرة كهربائيّة من الدّاخل، ينفتح غَلَقُه. وإذ دفع الكاهن درفة الباب ودخل، رأى، في أعلى الدّرجات الثّلاث، داخل القنطرة المقابلة، الأبَ الياس، واقفًا يستطلع مَن الآتي. كان الكاهن متجهِّمًا، على صمت مريب، على غير عادته، في كلّ طلّة سابقة، أن يكون منفرج الأسارير، على صوتٍ مرتفع بَهِجٍ لمطالعة وجه الأب الياس.!. فأدرك الأب الياس أنّ ضيقًا صعبًا لا بدّ أن يكون قد اعتور نفْسَ الآتي إليه، فتركه يتقدّم منه. كان المشهد، إلى الأب الياس والكاهن، للدّاخل، هناك، إلى اليسار، مشهدَ حديقة أشجار الدّرّاق والشّجيرات والورود والأزاهير الّتي جرى تقليمها، والأغصان المقلَّمة تملأ المكان. وكان الأب الياس، بغمباز العمل، يعمل على لملمتها ونقلها إلى مكان آخر. وما إن بلغ القادمُ الأبَ الياس حتّى بادره هذا الأخير: أما تساعدني في لملمة هذه الغُصينات.؟. فأجاب الكاهن بحدّة وللتوّ: لستُ في هذا الوارد، الآن، ولا أستطيع.!. فأردف الأب الياس: ساعدني، الآن، وبعد ذلك نتكلّم.!. أما تساعد راهبًا مسنًّا تَعِبًا.؟. لمستْ هذه اللّهجةُ قلبَ الكاهن، فقال نصفَ مبتسم: حسنًا، كما تشاء.!.

أخذ الإثنان في العمل، في صمت ثقيل، وصاحبنا متكدّر.!. لا الكاهن نبس بكلمة، إذ أراد أن يوحي بأنّه متضايق جدًّا، وكان متضايقًا فعلًا، ولا الأب الياس حَكم بأنّه من الموافق له أن يقتحم صمت الرّجل.!. استمرّ العمل بعض الوقت، ثمّ دَلَفَ من الصّمت سؤالٌ هنا وسؤال هناك: ماذا أفعل بهذه.؟. أين أضع تلك.؟. لا شكّ أنّ الأب الياس، في مقابل انقباض نفس الكاهن وتلوّيه في مرارته، كان يصلّي من أجله.!. ثمّ، في لحظة، بدأ جليد لهجة الكاهن ينحلّ، وأخذ بعض الكلام ينساب لديه، كما من هدأة في نفسه شرعت تعتوره.!. وإذ بدا للأب الياس أنّ ضبابًا، في طويّة الرّجل، أخذ ينقشع، قال له: يكفي هذا القدْر من العمل الآن.!. – ولكنْ، أمامنا عمل كثير بعد.!. – لا همّ.!. لقد تعبتُ.!. هيّا بنا إلى الدّاخل.!.

على هذا، غسلا أيديهما في المغسل المحاذي لغرفة الجلوس القديمة.!. وإذ دخلاها، توجّه الأب الياس إلى الزّاوية الّتي وُضعت فيها لافتة صغيرة تقول: “الرّجاء الامتناع عن التّدخين”، وأدارها في الاتّجاه المقابل.!. ثمّ قال لضيفه: الآن، بات بإمكانك أن تدخّن سيجارتك.!. – ولكنْ، أليس التّدخين ممنوعًا هنا، يا أبانا.؟. أجل، للعموم.!. ولكنْ، السّبت للإنسان، يا بنيّ، وليس الإنسان للسّبت.!.

عند هذا الحدّ، وبعد نفختين أو ثلاث من السّيجارة، بات الكاهن في وضع، لا فقط مَن يستطيع أن يتكلّم، بل، بالأولى، مَن يريد أن يتكلّم وينفّس عن مكنونات قلبه.!.

وروى الكاهن للأب الياس ما حدث له البارحة وما قبل البارحة، والأب الياس يسمع ولا يقاطع محدّثه بكلمة.!. الأب الياس سمّاع كبير.!. تركه يُفرغ ما في جعبته على سجيّته، وهو يُصغي إليه بلطف وهدوء وانتباه كثير.!. فلمّا انتهى الكاهن من الكلام، سأله الأب الياس: أأنت معتاد على المقامرة، يا بنيّ.؟. – كلّا، أبدًا، يا أبانا.!. بالعكس، أنا أكره لعب القمار.!. لذلك أَكره نفسي لأنّي وقعتُ في ما لا تحبّه نفسي.!. – لا بأس عليك، إذًا، يا حبيبي.!. اعتبرها مجرّد تجربة تعلّمك الاتّضاع، وأن تكون أكثر انتباهًا لنفسك في المستقبل، وأن تحاذر مسايرة الآخرين في ما هو للإثم.!. ثمّ التّجربة، يا أخي، يَسمح بها الله للمنفعة.!. يكفيك أن تقول، من قلبك: “سامحني يا معلّم”، وتعترف بخطيئتك، فيسامحك.!.

ثمّ، المائدة الّتي دُعيتَ إليها، أأنت مَن صنعها.؟. – طبعًا لا.!. – إذًا، لا بأس عليك.!. جيّد أن تتحسَّس جوع الفقراء وحاجتهم متى تناولت الطّعام، لا سيّما الأطايب.!. ولكنْ، يا أخي، “كلوا ممّا يُقدَّم لكم”، بشكران.!. مَن دعاك بحاجة، أيضًا، إلى محبّتك ودُعاك، أكثر ممّا هو بحاجة إلى اللّوم والتّذمّر.!. الفقراء بحاجة إلى بنيان والأغنياء، أيضًا.!. وهذا مدعاة لا إلى الفكر النّاقد، بقدر ما هو مدعاة إلى الصّلاة بوجع: من أجل الفقير، لكيما، بلطف المقتدرين والصّلاة، يتعزّى؛ ومن أجل الغني، لكيما يفتح الرّبّ الإله قلبه على عمل الرّحمة، ويحسب الفقيرَ شريكًا له في النِّعَم الأرضيّة، فيتسنّى له، إذ ذاك، أن يحظى بالنِّعم الإلهيّة الّتي يُفيضها الرّبّ الإله على الّذين يكرمونه في فقرائه والمتّكلين عليه.!.

على هذا، يا بنيّ، لا تحزن.!. خفِّف عنك.!. لا تيأس.!. من دون تجارب، لا أحد يخلص.!. التّجربة الّتي توجع، في نهاية المطاف، مَن يحبّون الله، تنفعهم.!. تعالَ أُعطيك الحلّ من الخطايا، وابدأ من جديد.!. وجعل الأب الياس يده والبطرشيل على رأس صاحبنا، وحلّه، بنعمة الله، من خطاياه، فعاد إلى بيته فرحًا متهلِّلًا، ودموعُ الشّكران في عينيه.!.

هذا هو الأب الياس.!. لم يدفع أحدًا، يومًا، إلى اليأس.!. كثيرًا ما سمعناه يردّد القول: خطايا البشريّة كقبضة رمل تُلقى في أوقيانوس محبّة الله.!. اليأس ممنوع.!. لا بل اليأس، في العمق، هو الخطيئة الوحيدة الكامنة في جذر كلّ الخطايا لأنّها تنفي الإيمان بالرّبّ يسوع المسيح.!. وحيث لا إيمان لا خلاص.!. في مقابل اليأس عندنا الرّجاء، ولا نقول الأمل.!. الأمل من الجسد.!. الرّجاء من الرّوح.!. لذا الجسد لا ينفع شيئًا، والرّجاء بالله لا يُخزي.!. “ارأفوا بالخطأة”، على قولة القدّيس أمبروسيوس أسقف ميلان.!. الخطيئة من ذات اليمين، حين يؤخذ النّاس بزهوهم بأنفسهم، وحبّهم لذواتهم، وانتفاخهم، ولو كانوا في قلب الكنيسة، وكذا الخطيئة من ذات اليسار، متى كفروا بربّهم وألغوه وسيَّدوا أنفسهم على الدّنيا، لا فقط تأتي من ضلال في الفكر، بل، بالأولى، من كون أنّهم لم يَنعموا بمحبّة مَن يحبّهم بمحبّة الله.!. وهم يزدادون، في مواقعهم، قسوة وتشدّدًا لأن لهم، في المقابل، مَن يزداد قسوة في الحكم عليهم، وتشدّدًا في إدانتهم.!. ولو كان، ولو واحد، في أقصى الأرض، يصلّي لهم من قلب موجوع بدموع، ولو لم يعرفهم في البَشَرة، لكان الرّبّ الإله يعطي المتقسِّين في الخطيئة رقّة قلب ورفقًا من عنده من فوق بفعل تلك المحبّة، إذ لا يمكن لوهج الصّلاة في المسيح أن يخبو حتّى ينير القابعين في الظّلمة وظلال الموت، ليخرجوا إلى نور ربّهم الوضّاء.!.

هكذا نما الأب الياس، في حياته، بالصّليب، في الرّأفة والحنان وإشاعة الفرح، ليُعين الآخرين على التّوبة والرّجاء والعزاء.!. كانوا يأتون إليه بأتعابهم وكان همّه أن يريحهم لأنّه أحبّهم.!. تعالوا إليّ يا جميع المتعَبين والثّقيلي الأحمال وأنا أريحكم.!. ليست خطيئة بلا مغفرة إلّا الّتي بلا توبة.!. اذهبي ولا تخطئي بعد.!. الله يشاء أنّ الجميع يخلصون وإلى معرفة الحقّ يُقبلون.!. لكي تعلموا أنّ لابن الإنسان سلطانًا أن يغفر الخطايا، قال للمفلوج: قم احمل سريرك واذهب إلى بيتك.!. فقام وحمل سريره ومضى إلى بيته.!.

… لتستمرّ القصّة.!.

الأرشمندريت توما بيطار
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسيّ
الأحد 15 كانون الأوّل 2019

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share