خواطر حول الحجر المنزلي والتباعد الاجتماعيّ (3)

ريمون رزق Wednesday April 8, 2020 1030

 بقلم الأخ ريمون رزق

المناولة بالملعقة أو بدونها

قبل إغلاق الكنائس بقليل، سمعتُ أحد المؤمنين في رعيّتي يتساءل عن إمكانيّة نقل العدوى بوساطة ملعقة المناولة. وانتفض آخر قائلًا إنّ جسد الربّ ودمه ينقذان من الموت، فلا يمكن أن يتسبَّبا به. شخصيًّا، أوافق كلّيًّا على هذا الكلام. لكن يبقى أنَّ بعض المؤمنين يُشَكِّكون. ويقول الربّ: “مَن أعثر أحد هؤلاء الصغار المؤمنين بي، فخير له أن… يُغرَق في لجّة البحر… فويل لذلك الإنسان الذي به تأتي العثرة… فإن أعثرتك يدُك أو رجلُك… أو عينُك… فخير لك أن تقلعها” متّى (18 : 6 – 9).

هذا القول ينطبق كذلك، برأيي، على الرعيّة وجماعة الكنيسة إذا ما سبّبت العثرة. فإذا كان استعمال الملعقة، وهو شأنٌ ثانويّ ومجرَّد وسيلة لا بُعد إيمانيّ لها ولا قدسيّة، يسبّب عثرة، فبمَ يخدمُ الكنيسة الابقاء عليها؟ بالرّغم من اقتناعي أنّ المناولة لا تنقل العدوى، يبقى علينا، برأيي، ورعايةً بالمشكِّكين، معالجة سبب الشَّك لديهم والعثرة. وللتذكير، أنّ عادة الملعقة أدخلها الذهبيّ الفم، بدلًا من التقليد القديم الذي كان يقتضي أن توضع القُدُسات في يد المؤمن. والسبب الذي دفع قديسَنا إلى ذلك هو تفادي استعمال القُدُسات من قبل غير المؤمنين لأغراض سحريّة. وهو السَّبب الذي زال كلّيًّا في أيّامنا. لقد وصَف أكبر لاهوتيّي المدرسة الأنطاكيّة، ثيودوروس، أسقف مبصيصة، آليَّةَ المناولة في القرن الخامس، قائلًا: “نمدّ الكفّ اليمنى احترامًا لاستلام القدُسات. أمّا الكفّ اليسرى، فنضعها تحت اليمنى… لإسنادها عندما نستلم الجسد… ” وكلّما يوزّع الكاهن القدُسات يقول: “جسد المسيح”،… فعليك عندها أن تتقدّم باحترام شديد ومحبّة فائقة، باحترام من أجل كرامة القدُسات، وبمحبّة من أجل النعمة،… وتقول: “آمين”، مؤكّدًا قوله بجوابك… وعندما تستلم الجسد في يديك، تقدّم له العبادة، معترفًا بالسلطان الكونيّ لمَن في يديك… وتتأمّل الجَسَدَ بمحبّة عظيمة وصادقة، وتقبّله وتقدّم صلاتك لربّنا يسوع المسيح الملاصق بك… فتنعّم به عندما تلمسه… وصلِّ إلى الله ومجّده لأنّه أفعمك، أنت الخاطئ، بمثل هذا الفضل” (العظة 16، 27 -29). وكان المؤمنون يشربون آنذاك مباشرة من الكأس، ما يصعب إتمامه الآن تفاديًا للعثرة. فليس ما يمنع إذًا أن تستعيدَ كنيستُنا الأنطاكيّة تقليدها الأصيل، وتسمح للكهنة، مثلًا، أن يضعوا، في يد المتقدّم للمناولة وليس في فمه، الجسد الإلهيّ ممزوجًا بالدم الكريم.

العقل أو القلب أو كليهما معًا؟

لا يفوّت البعض مناسبةً لينتقدَ موقف الكنيسة من العقل، معتبرًا أنّها تشجِّع المؤمنين على الاستخفاف به. يفتقد هذا الانتقاد، برأيي، إلى الكثير من الدقّة لأنّه يُحمِّل الكنيسة وزرَ تصرّفات وممارسات خاصّة يتعلّق، بعضها، بمواقف استلقائيّة وخرافات موروثة منذ القِدَم تُصبَغ، أحيانًا، بالقدسيّة. فالاستناد عليها لوصم الكنيسة بالمعادية للعقل هو تجنٍّ. ليس مِن مجال في تعليم كنيستنا لتفضيل عنصر من عناصر المكوِّن الإنسانيّ على  آخر. الكنيسة تنظر دومًا إلى الإنسان كوحدة بجميع مكوّناته، وتعلّم بالحفاظ على مكانة العقل، المُعطَى من الله، شرط “إنزاله” إلى القلب. أيّ شرط استعماله كعنصر من العناصر المكوّنة للإنسان، يُرشد إلى الطريق ويرسم مخاطرها ومزاياها وآفاقها، دونَ أن يحدّد، وحده، مجراها. لا قول للعقل في ما يتعلّق بالسرّ، وعليه أن يصمتَ أمامه طوعًا وينكسر، كما أنّ عليه أن يقبل الانحناء إذا اختار إنسانه التواضع.

تركزّ الثقافة المعاصرة العالميّة على عنصرين أساسيّين، هما العقل المحرَّر من كلّ القيود، والحريّة المطلقة. مع احترام الكنيسة الفائق للعقل والحريّة، إلّا أنّها تعتبر أنّ لهما، أمام سرّ الله وسرّ الإنسان وكرامته، حدودًا. فهبة الرُّوح القدس التي تؤهّل لمعرفة الأسرار ليست هي بمواجهة العقل، بل تُعمِّده وتتعدّاه وتفوقه. لذلك لا أرى لزومًا لانتقادات تُبنى على ممارسات خاطئة، وفصلٍ غير موجود، ولا “لمباحثات ومماحكات، الكلام التي منها يحصل الحسد والخصام والافتراء والظنون الرديئة والمنازعات 1 تيموثاوس (6 : 4).

يقول باسيليوس الكبير، الذي كان يشجّع على العلم والفلسفة، إنّه “علينا أن نفضّل بساطة الإيمان على مظاهرات العقل” (العظة الأولى في أيّام الخلق الستّة). وينبّه القدّيس باييسيوس الآثوسي من خطر الانغماس في “المنطق والعقلانيّة والانتقاد والاكتفاء الذاتي”، ويدعو إلى “ممارسة المحبّة بكلّ بساطة، والتسلّح بالصبر من دون الانجرار إلى الأحكام والدينونة، ليصنعَ إيمانُنا المعجزات”. ويطلب أفرام السّرياني من الله أن “يفتح فمه لا ليتفحّص بل ليعترف” (في البتوليّة 26،1) هذا بخصوص أمور الإيمان. أمّا في ما يتعلّق بالأمور الأخرى فعلى الإنسان المؤمن أن يعطي كلًّا من العقل والقلب ويربطهما معًا، ليعطي لكلّ شيء حقّه، وينظر إليه بعطف الله.

 

الوحدة مع الكلّ

هل يُسمح لنا أن نلاحظ، في وسط السلبيّات التي تنتج عن الحجر المنزليّ والتباعد الاجتماعيّ، أنّه ثمّة بعض الإيجابيّات الّتي يُمكن أن نستخلصها. يبدو لي أنّها ثلاث. أوّلًا، استعمال الوقت المتوفّر لنا للدخول إلى ذواتنا فمعرفة مدى قربنا أو ابتعادنا من الربّ، الذي طالما نعتبر أنّ ممارساتنا الطقسيّة تجعلنا حكمًا مقرَّبين إليه. أن نعرف أين نحن منه، ليس فقط بميزان الممارسة، بل بمدى الاتّصال الشخصيّ والامتثال الحياتيّ به وملاقاته بمَن أحَبّ. أمّا الأمر الثاني، فهو الشعور أنّ معظم سكّان المعمورة “محجوزون” مثلي، وأنّ ذلك يبني بيننا وحدة قلّما نشعر بها في الأيّام الطبيعيّة. ويكون الأمر شأنًا إيجابيًّا إنْ بحثنا بالسبل العمليّة لتجسيده في الحياة بعد عبورنا أزمة الكورونا. والأمر الثالث هو التأمّل بتأثير هذا التوقّف الجبري الإيجابيّ على تنقية البيئة، علّنا نلمس باليد فظاعة الضرر الذي تحدثُه تنقّلاتِنا وما نستعمله من أدوات لا تحترم الطبيعة. تكون هذه الأمور من الإيجابيّات إذا صمّمنا على عدم نسيانها عند الخروج من عزلتنا، وقرّرنا المساهمة في ابتكار نمط حياة يحترم البشر والمحيط، واستمرَرْنا بشملهم بصلواتنا.

 

 

 

16 Shares
16 Shares
Tweet
Share16