حول الرهبنة (١)

مرسيل مرقص Monday August 17, 2020 118

 مرسيل مرقص

دير مار جرجس الحرف

ضرورة اختبار الرهبنة

١ – الرهبنة كالحقيقة. قديمة وجديدة في آن واحد. قديمة، وقد ملأت تاريخ المسيحيّة منذ جماعة المسيحيّين الأوّلين الموصوفة في أعمال الرسل إلى يومنا هذا، كما ملأت الأقطار المسيحيّة في الشرق والغرب، وما تزال. ولكنّها جديدة لمن لا يعرفها ولم يختبرها، كما هي الحال في كرسيّنا الأنطاكيّ المقدّس منذ عشرات السنين. ولذلك نلاحظ في محيطنا الأرثوذكسيّ شيئًا من سوء فهم الرهبنة وأهمّيّتها، بل والتساؤل عن منفعتها، وقد سمعنا الكثيرين يقولون: «العزلة والصلاة والتأمّل. شيء جميل! ولكنّنا نريد عملًا وإنتاجًا، نريد شيئًا محسوسًا». قد يكون هؤلاء الأصدقاء الكثيرون، من حيث هم، على حقّ في رأيهم. فنحن الذين دخلنا الدير لم نكن، قبل دخوله، نعي تمام الوعي ما هي الرهبنة. سأبوح بسرّ إذا قلت لكم إنّي شخصيًّا لم أدخل الدير من نفسي، بل كانت هنالك قوّة خفيّة تدفعني وتقودني وترتّب لي كلّ شيء، هي بلا شكّ القوّة المنبعثة من ضمير النهضة الأرثوذكسيّة، قوّة منطق النهضة الداخليّ، هي بالنتيجة، إرادة الله. ولذلك نستطيع القول بأنّنا، انا ورفاقي الأربعة في دير مار جرجس الحرف، والراهبات التسع في دير مار يعقوب ددّه، مهما كان عددنا ضئيلًا، ومحاولتنا متواضعة، لا نختبر الرهبنة باسمنا ولحسابنا، ولا باسم حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة ولحسابها وحسب، بل باسمكم جميعًا، باسم الكرسيّ الأنطاكيّ المقدّس ونهضة الله فينا..

الرهبنة هي الحلّ ولكنّها ليست الحلّ!

٢ – ما أزال أذكر زيارتنا لأحد الوجهاء الأرثوذكسيّين الذين يتوقون إلى النهضة ويعملون لها قولًا وفعلًا، فلمّا سمع بمحاولتنا جعل يقول ويكرّر، وكأنّه وجد ضالته المنشودة: « كنت أتساءل كثيرًا ما الذي سينقذ هذه الطائفة الصائرة إلى الزوال، ولم أجد، ولكن هو ذا الجواب: أنتم الحلّ». وكان يقصد طبعًا لا نحن شخصيًّا بل الرهبنة. صحيح أنّ الرهبنة هي الحلّ لأنّ موطن الضعف في هذه الكنيسة إنّما هو الافتقار إلى أشخاص كرسوا أنفسهم لله تكريسًا كاملًا نهائيًّا بتجريد كلّيّ، إلى أشخاص أضحى معنى وجودهم التفتيش عن الله والخدمة لوجهه تعالى، ومهما جدّوا وعملوا ونجحوا يحسبون أنفسهم عبيدًا بطّالين بكلّ إخلاص نيّة. صحيح أنّ الرهبنة هي الحلّ لأنّ وجود بعض الأشخاص القلائل الذين يخدمون الكنيسة بهذه الروح لا يغني عن جوع ولأنّنا بحاجة إلى كثرة، إلى أفواج متتالية منتظمة، إلى مصنع للرجال المكرّسين لله والعاملين لمجده تعالى، ولأنّ الرهبنة قد تكون، دون غيرها، ذلك المصنع. الرهبنة هي الحلّ، ولكن بشرط: بشرط ألّا تكون أداة وطريقًا للحلّ، ألّا نكون فقط وسيلة للحلّ.

 

(١) أُلقيت في الذكرى السابعة عشرة لتأسيس الحركة في بيروت.

 

الرهبنة غاية بحدّ ذاتها وهي وجه المسيحيّة الأخير

٣ – ذلك بأنّ الرهبنة قد بدت لنا غاية بحدّ ذاتها. ليس الراهب كطالب الطبّ يدخل المعهد لكي ينال الشهادة ويخرج ويطبّب. الرهبنة موجّهة إلى الله أوّلًا وأخيرًا، وإذا شاء الله أن تقوم الرهبنة بخدمة محسوسة للكنيسة، فخدمتها تكون لا هدفًا بل نتيجة، تكون فيضًا من حياة.. ولهذا عينه تكون أكثر أصالة وديمومة. لقد وضعنا في مشروع قانوننا أحكامًا تتيح للرهبنة خدمة الكنيسة في مختلف الميادين الروحيّة والتربويّة والخيريّة والتأليف والنشر، بل تسمح لها بانتداب بعض أعضائها للعمل خارج الدير واستلام أو إدارة مختلف المؤسّسات الكنسيّة والمعاهد الإكليريكيّة وغير الإكليريكيّة إذا لزم الأمر. ولكن متى توفّرت، لا شروط العدد وحسب، بل الشروط الروحيّة الداخليّة التي تجعل من الراهب راهبًا ومن الرهبنة رهبنة.. ذلك بأنّ الرهبنة شيء قائم بذاته، شيء أصيل في المسيحيّة. لقد بدت لنا الرهبنة بوجهها الحياتيّ تتّصل بطبيعة الحياة المسيحيّة العميقة الواحدة المشتركة بين جميع المسيحيّين، بل قد نرى فيها الوجه الحقيقيّ للمسيحيّة والحياة الروحيّة المثلى والأخيرة لكلّ مسيحيّ ولكلّ مجتمع مسيحيّ على السواء، رغم استغراب الناس لها.

الرهبنة والتكريس لله

٤ – قلنا إن طابع الرهبنة الأساس هو التكريس للربّ. لكنّ كلّ مسيحيّ مكرّس للربّ. إنّ الأرثوذكسيّة- عدا عدم تمييزها بين طبقة تعلِّم وطبقة تعلَّم في الكنيسة- لم تصبغ الرهبنة بصبغة الإكليروس. فالراهب في الأرثوذكسيّة أقرب إلى العلمانيّين منه إلى رجال الإكليروس. بل تعتبر الأرثوذكسيّة كلّ مسيحيّ راهبًا إذا كرّس لله بالمعموديّة وطبع بخاتمه. أمّا الراهب فيذهب بهذا التكريس إلى أبعد حدوده. عندما أُعجب بشخص وأحبّه حبًّا كبيرًا، أفكّر به على الدوام، بجماله أو محاسنه، وأؤمن به وأعمل ما يرضيه وأتفرّغ له ساعيًا إلى الالتصاق به والحياة معه، وأجد السعادة، أو لا أجدها، بهذا الالتصاق. فلماذا أستبعد أن أفكّر بالله وأتأمّل فيه على الدوام، وأؤمن به وأعمل ما يرضيه، متفرّغًا له، وساعيًا إلى الالتصاق به، والله تمجّد وتعالى مصدر كلّ خير وجمال وسعادة، وليس الخير والجمال في البشر إلّا انعكاسًا لخيره وجماله الذي لا يوصف؟ لماذا أستغرب ذلك وقد قيل تحبّ الربّ من كلّ قلبك ومن كلّ نفسك ومن كلّ ذهنك ومن كلّ قوّتك ؟ فالراهب إذًا يكرّس نفسه لله لأنّ هذا إنّما هو حقّ، وهو يكرّس نفسه بالدرجة الأولى لا ليخدم الكنيسة والمجتمع بل ليكون في الحقّ. ودعوة الحقّ هذه دعوة كلّ مسيحيّ، إنّما يخوضها الراهب بشكلها الأخير المطلق..

الرهبنة ومحبّة القريب

٥ – ثمّ على الراهب، كما على كلّ مسيحيّ، أن يخدم الآخرين ويحبّ قريبه كنفسه. ولكن من أين للإنسان بالمحبّة؟ المحبّة نازلة من عند الله. كيف لا وهي العطيّة الكبرى و«كلّ عطيّة صالحة وموهبة كاملة منحدرة من العلو من لدنك يا أبا الأنوار». فعلى من يريد اكتساب المحبّة أن يفتح ذاته لتيّار محبّة الله العاملة في الكون ويكون أداة طيّعة لها. ولكنّ الراهب، بحياته مع الله، يختبر عدمه، يختبر عيوبه ونواقصه والحواجز العديدة التي تمنع تدفّق محبّة الله فيه. ولكي يصبح أناء لمواهب الله ومحبّة للبشر يترتّب عليه أوّلًا أن يطهّر ذاته من خطاياه ويفرغها لله ولسلطان نعمته، بقدر ما يتسنّى ذلك للإنسان. وحينئذٍ فقط إذا تكلّم فالكلام الذي يُعطاه به يتكلّم، وإذا فعل وأحبّ فبروح الله يفعل وبمحبته يحبّ. أمّا إذا لم يترسّخ في الرهبنة وأرسل نفسه للعالم فيكون حينذاك رسولًا كاذبًا، يُعثر ولا يبني، لأنّه رسول نفسه. وهذا شأن كلّ خدمة مسيحيّة في هذه الحياة: أن أعمل لا أنا بل الله يعمل فيّ، وإذ ذاك فقط تكون خدمتي خدمة أصيلة لا يتخلّلها المزيّف.

الرهبنة والصلاة

٦– ثمّ بصرف النظر عن خدمات الرهبنة، فالرهبنة بمجموعها مكرّسة للصلاة. الرهبنة تصلّي إلى الله من دون انقطاع من أجل الكنيسة والبشر أجمعين. ومن هذا الطريق تخدم المجتمع. كثيرون يشكّون في منفعة الصلاة ويستهزئون بها مع أنّ علاقات البشر جميعها مبنيّة على الصلاة. الصلاة في اعتقادي هي الرباط الحقيقيّ الذي يربطني بالناس. وقد تكون الرباط الوحيد الذي يربطني بالناس. عندما يفكّر المرء بأهله وأحبّائه ويتمنّى لهم الصحة والتوفيق والحماية من كلّ شرّ، فهذا نوع من الصلاة. وعندما يفكّر بخصومه واعدائه ويقلّب في داخله أفكار البغض والكراهية نحوهم، فهذه صلاة سلبيّة. ثمّ إنّ علاقاته الخارجيّة مع أحبّائه وأعدائه، ومعاملته المادّيّة لهم، ليست بالنتيجة سوى تعبير جزئيّ بسيط عمّا يكنّه لهم في قلبه من حبّ أو كراهية، وما يربّيه في قلبه أو يخمده من هذا الحبّ أو هذه الكراهية. الصلاة هي الرباط العميق بين البشر. عندما أعرف أنّ شخصًا ما يحبّني أو يصلّي من أجلي، وإن لم يعبّر لي البتّة عن شعوره، يتكوّن لديّ بمجرّد علمي بذلك بدء شعور محبّة نحو هذا الشخص وبالعكس فالشخص الذي لا أعبأ له ولا أفكّر به لا بخير ولا بشرّ، فليس بيني وبينه أيّ رباط ولو خالطته جنبًا إلى جنب، في مكتب ما، طول النهار.. أمّا الرهبنة فتصلّي من أجل الجميع من دون استثناء، وتحبّ الجميع وتريد الخير والخلاص للجميع، وكثيرون يعرفون ذلك. يعرفون أنّ الرهبنة تصلّي من أجلهم، فينشأ بينهم وبين الراهبات في العالم رباط خفيّ، رباط محبّة وسلام، هي شبكة السلام الكبرى في الأرض.

٧ – ثمّ إنّ الصلاة، أي صلاة، ترتفع طبيعيًّا إلى فوق، إلى مصدر ما نتمنّى منه حفظ أحبّائنا أو إبادة أعدائنا. ترتفع من حيث ندري أو لا ندري، إلى الله. كنت مرّة نازلًا من الدير إلى بيروت، وعند وصولي إلى المدينة لاحظت مدخنة ضخمة، مدخنة مصنع ما ولا شكّ، يتصاعد منها الدخان إلى السماء، فشبّهتها بمحرقة مصعدة إلى الله. ثمّ فكرت بالمداخن الأخرى الصغيرة أمامي، بدخان المطعم أو المطبخ، بدخان المدفأة، بدخان السيّارة ودخان الأقذار، وإذا بكلّ شيء في المدينة ويجسّد الإنسان نفسه يحترق ببطء ويُصعد أنفاسه محرقة لله.. شئنا أم أبينا إنّ أعمالنا وحياتنا هي محرقة وذبيحة للربّ، فإمّا أن تكون ذبيحة هابيل أو تكون ذبيحة قايين.. أمّا الرهبنة فتتذكّر قول بولس الرسول: «قدّموا أجسادكم ذبيحة حيّة مقدّسة مرضيّة عند الله»، فتقدّم نفسها على الدوام ذبيحة حيّة مع الجميع وعن الجميع، مع هابيل وعن قايين، باسم الخليقة جمعاء، من أجل سلام كلّ العالم واتّحاد الجميع إلى الربّ نطلب…

الرهبنة والمجتمع

٨ – ثمّ إنّ الرهبنة، كمجتمع صغير، تؤلّف مجتمعًا مثاليًّا يسعى إليه. ينذر الراهب نذورًا ثلاثة: العفّة والفقر والطاعة، يتنازل بها عن كلّ شهوة وكلّ ملك وكلّ إرادة خاصّة، فلا يحقّ له أن يشتهي ولا يحقّ له أن يملك ملكًا خاصًّا ولا يحقّ له أن يعمل إرادته. لا مجال هنا لأتبسَّط في شرح هذه النذور ومبناها المسيحيّ وحكمتها وجمالها، لكن كلّ ما أريد تبيانه هو أنّ جميع الخلافات والخصومات بين البشر ناتجة من الإخلال بها. فجميع الخلافات، سواء أكانت بين شخص وشخص، أو عائلة وعائلة، أو حيّ وحيّ، أو دولة ودولة، وسواء أكانت عتابًا رقيقًا أو حربًا ضروسًا، فهي تدور حصرًا إمّا حول الشهوة والحبّ الجنسيّ، أو حول الأملاك والحقوق الملكيّة، أو حول الإرادة الخاصّة والطموح والنفوذ الشخصيّ. ولا يمكن أن تزول الخصومات من الأرض ما دام لا تسود فيها العفّة والفقر والطاعة. ولذلك تستطيع الرهبنة الحقّ أن تقول مع المرتّل: ألا ما احسن وما أجمل أن تسكن الإخوة معًا! وهي تبقى في وسط العالم مجتمعًا نموذجيًّا شاهدًا لحياة المجتمع المسيحيّ الأخير حيث، كقول دوستويفسكي  «تتسع جدران الدير حتّى أقاصي الأرض»…

الرهبنة والآخرة

٩ – بقيت النقطة الأخيرة في بحثنا: الرهبنة على صعيد الآخرة. الرهبنة تنتظر الآخرة. الراهب الحقيقيّ يفكّر يوميًّا بالموت. هو يقول لنفسه كلّ صباح سأموت هذا النهار، وكلّ مساء سأموت هذه الليلة. كلّنا نعلم أنّ هذا ليس بافتراض مجّانيّ، وأنّه في الواقع يمكن أن نموت في كلّ لحظة. ولكنّنا، كما يقول بردييايف، رغم أنّ الناس منذ آلاف السنين قد سلكوا على أن يولدوا ويموتوا بصورة منتظمة من دون استثناء أحد، فإنّنا ننظر إلى كلّ ميتة جديدة كشيء جديد وغريب، ذلك بأنّ الموت يضادّ صميم طبيعة الإنسان المخلوقة للخلود. ولا يستطيع الإنسان التغلّب على الموت إلّا بمجابهته وانتظاره فالراهب عندما يفكّر يوميًّا بقرب الموت يضع نفسه في حالة أخرى: يريد أن يكون قد أتمّ واجبه على أكمل وجه، وأن يكون على وفاق مع الجميع غير مسيء لأحد، ولا يعود يتعلّق بشيء أو يعلق عليه أهمّيّة مطلقة، فيصبح في حالة سلام وراحة، ويتقرّب من الله، ويعيش حياة جديدة مع الله.

١٠ – وهذه الحياة الجديدة مع الله قد تكون له- ولأيّ إنسان إذا أراد- حياة الآخرة. الرهبنة تعيش الآخرة. تؤمن الأرثوذكسيّة بأنّ بإمكان المسيحيّ أن يعيش منذ هذه الأرض الحياة الأبديّة. الحياة الأبديّة حياة نوعيّة يمكن أن نذوقها ونختبرها منذ الآن. «لقد قام يسوع ومنحنا حياة أبديّة». ليس فقط الحياة الأبديّة، بل حياة أبديّة. قال أحد آباء الكنيسة إنّ الحياة المسيحيّة احتفال دائم، كاحتفال الملائكة في السماء. وقيل أيضًا إنّ القدّاس الإلهيّ الأرثوذكسيّ سماء على الأرض. فالرهبنة بتكريسها الكلّيّ للربّ وتسبيحها له تسبيحًا دائمًا، وانفتاحها لملكوت محبّته، وتضحية ذاتها ذبيحة عبادة لعزّته، وانقطاعها لعشقه والافتقار إليه وطاعة مشيئته، وانتظارها مجيئه وظهوره في المجد، إنّما تسعى، باسم المسيحيّة جمعاء إلى أن تحقّق السماء على الأرض…

 

 

المرجع: مجلّة النور، العدد الرابع، نيسان، ١٩٥٩.

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share