حول الشيوعيّة (١)

الارشمندريت إلياس مرقص Monday August 17, 2020 137

الارشمندريت إلياس مرقص

لا شكّ في أنّ الشيوعيّة من أهمّ المواضيع التي يجدر بحثها في أيّامنا الحاضرة. إنّها مبدأ فلسفيّ ومبدأ حياة في آن واحد. وهي تنتشر في العالم أجمع. فيحسن أن تكون لدى كلّ شخص مفكّر فكرة واضحة عنها، وسنحاول هنا إعطاء هذه الفكرة بقدر ما هو ممكن في هذا المجال الضيّق، بإيجاز النقاط الرئيسة في المذهب الشيوعيّ الماركسيّ ثمّ ينقد هذا المذهب على ضوء المسيحيّة.

 ١- ايجاز النقاط الرئيسة في المذهب الشيوعيّ الماركسيّ:

نشأت الماركسيّة في الأصل لغاية نبيلة هي تحرير الإنسان من الظلم والاستغلال. ثمّ أصبحت فلسفة جديدة للكون. ليست الماركسيّة مذهبًا اقتصاديًّا فقط بل مذهبًا فلسفيًّا أيضًا، لأنّ الماركسيّة لا تعنى بالاقتصاد فحسب بل تحاول تفسير كلّ الحياة، وهي لا تبحث في الاقتصاد إلّا وتفسّر به تاريخ الكون ومصيره. ولذلك فهي مذهب كامل وكلّ مرتبط الأجزاء لا يمكن تجزئته.

 ١- كيف تفهم الماركسيّة الإنسان والمجتمع:

تعرّف الماركسيّة الإنسان بأنّه صانع ومنتج في الأساس قبل كلّ شيء آخر. هو يتميّز عن الحيوان عندما يبدأ بأن يصنع وينتج وسائل عيشه. وبقدر ما ينتج ويحسن إنتاجه بقدر ما يكون إنسانًا أكمل. فالإنتاج هو النشاط الإنسانيّ الأصليّ والحقيقيّ والأكمل. وبه يثبت الإنسان ذاته ويحقّق كيانه. ولذلك فإنتاج الإنسان يحدّد احتياجه لا الحاجة تحدّد الإنتاج. أي لا يحتاج الإنسان ثمّ ينتج لكنّه يعمل وينتج ثمّ يحتاج.

الإنسان عامل (Ouvrier) في جوهره.

والإنتاج أساس الحياة الاجتماعيّة أيضًا، فالعلاقات القائمة بين الناس هي في الحقيقة علاقات إنتاج وصناعة يتبادلون وسائل الإنتاج وثمرات الإنتاج والصناعة.

نعم هناك علاقات أخرى معنويّة كعلاقات الحقوق والسياسة والثقافة والفنّ والدين والعلم… لكنّ العلاقات الصناعيّة الاقتصاديّة هي أساس المجتمع، أمّا الاخرى فهي «شكل» المجتمع فقط، وهي ثانويّة وفرعيّة بالنسبة إلى الاولى وتنتج من الأولى. وتسمّيها الماركسيّة Super-Structure الطبقة الثانية مقابل Infrastructure  الطبقة الأساسيّة.

وعلى هذا فوجدان الإنسان – أي هذا الوعي الداخليّ الذي فيه – ليس هو أساس كيانه كإنسان إنّما كيان مجموع الناس الاجتماعيّ هو الأساس وهو الذي يوجد وجدان الإنسان ويكوّنه.

 ٢- مادّيّة الماركسيّة:

الماركسيّة مادّيّة. والمادّيّة في الماركسيّة مبدأ فلسفيّ. أي أنّ الماركسيّة تؤمن بالمادّيّة وتقوم على المادّة كمبدأ للكون كلّه. في البدء كانت المادّة «الشيوعيّة لا تنكر الروح» ولكنّ المادّة في نظرها أساس الروح. وهي سبب وعلّة الروح بكلّ مظاهره وأشكاله كما هي سبب وعلّة نفسها. الروح انفتاح المادّة والمادّة تعطي الروح كما تعطي الشجرة ثمرها. الشيوعيّة لا تنكر حقيقة الروح وتأثيره على المادّة، ولكنّ المادّة هي الأصل. الماركسيّة تنكر «الروح» (L’Esprit) الروح المطلق، المستقلّ عن المادّة، الروح الجوهريّ. هي تؤمن بأنّ لا روح جوهريّ. الروح ينتج من المادة ويبقى منسجمًا معها.

ومن ناحية أخرى الماركسيّة تؤمن بمعرفة العالم الخارجيّ من طريق العقل. أي تؤمن بأنّ تصوراتنا عن العالم الخارجيّ تطابق الواقع والحقيقة. لكنّها تقول بأنّنا لا نعرف سوى الحوادث والأشياء المادّيّة فقط وإنّ كلّ معرفة روحيّة هي حلم ووهم وخيال. وبعبارة أخرى ليس الوجدان (أي وعي الإنسان الداخليّ النفسانيّ) هو الذي يحدّد الحياة بل الحياة تحدّد الوجدان.

٣- كيف تتطوّر الحياة؟ مبدأ المادّيّة التاريخيّة:

قلنا إنّ الأوضاع الاجتماعيّة (الحقوقيّة والثقافيّة والسياسيّة والدينيّة والفنّيّة) تتبع الأوضاع الاقتصاديّة وتتكيّف بها.

فعندما تتطوّر الأوضاع الاقتصاديّة بتطوّر وسائل الانتاج وتحسّنها، تتناقض الأوضاع السابقة أي تصطدم بالعلاقات الإنتاجيّة والملكيّة القائمة لأنّها ما عادت تلائمها. فيختلّ توازن الحقوق والملكيّات الراهن، وعندما يتوسّع التنافض ويشتدّ تنتج منه ثورة تغيّر الوضع الاقتصاديّ. ثمّ بفعل هذا التغيّر يتغيّر الوضع الاجتماعيّ الناتج منه. وهكذا دواليك. وبهذه الصورة يصير التاريخ. وتقول الماركسيّة إنّ هذا ما جرى فعلًا منذ بدء العالم حتّى الآن وهذا ما سيجري أيضًا: الوضع الاقتصاديّ المادّيّ وتطوّره يصنع تاريخ الإنسانيّة، وتسمّي الماركسيّة هذا المبدأ بالمادّيّة التاريخيّة.

٤- الطبقات الاجتماعيّة ودورها في تطوّر الإنسانيّة:

أمّا عامل الثورة والتطوّر فهو الطبقات الاجتماعيّة، الطبقات الاجتماعيّة هي عامل التناقض والاصطدام وتاليًا عامل الحركة وعامل سير المجتمع إلى الأمام في التاريخ. إنّ رباط الطبقة هو أعمق رباط بين البشر. أعمق من أيّ رباط آخر عائليّ أو قوميّ أو دينيّ أو مهنيّ أو غيره. هو أعمق رباط إنسانيّ يشدّ الإنسان إلى الإنسان. والطبقات بصورة إجماليّة فئتان: فئة مستغِلّة وفئة مستغَلّة. ففي عصرنا هذه الطبقة المستغِلّة هي البورجوازيّة والطبقة المستغَلّة هم العمال.

وبين هذه الطبقات لا يمكن أن يكون إلّا عداء وصراع: هذا شيء محتّم. صراع الطبقات يؤلّف معركة التاريخ. المعارك الأخرى (الفلسفيّة والدينيّة والسياسيّة) ليست إلّا نتيجة لهذا العداء الأوّل بين الطبقات. وهذا العداء وهذا الصراع هو المحرّك الأوّل للحوادث في سير التاريخ. ثمّ إنّ الطبقة العاملة هي طبقة الفعاليّة الثوريّة، هي عنصر مصير المجتمع. ومن هنا نفهم معنى رسالة (البروليتاريا) وأهمّيّتها.

   ٥- ماذا بعد انتهاء صراع الطبقات الاجتماعيّة:

التاريخ الآن ليس إلّا مقدّمة للتاريخ الحقيقيّ. وحينئذِ تنتهي حرب الطبقات وتزول الطبقات جميعها ولا يكون بعد استغلال من الإنسان للإنسان بل يكون عصر الحرّيّة والكمال. وتزول فيه الSuperstructures وأوّل ما تزول منها الدولة لأنّ الدولة عادة ما تكون دولة الطبقة الأقوى، الطبقة المسيطرة اقتصاديًّا، وتاليًا المسيطرة سياسيًّا على الأخرى والمستبدّة بها. فهدف الثورة إلغاء الدولة مع استبدادها. ولكن لا يمكن الوصول عمليًّا إلى هذا الهدف دفعة واحدة، ولا بدّ من مرحلة تقوم فيها أوّلًا دولة الطبقة العاملة، وهي ما تسمّيه الماركسيّة دكتاتوريّة البروليتاريا حتّى تستطيع أن تستولي على وسائل الإنتاج والصناعة وتصادرها من أيادي البورجوازيّة. وهذه المرحلة الأولى هي مرحلة عنف، يستعمل فيها العنف. وعندما يتمّ الأمر بعد استعمال العنف تزول الدولة وتنحلّ شيئًا فشيئًا إذ تصبح عديمة النفع، وعندئذٍ في هذا العصر الذهبيّ يصبح العمل لا وسيلة للعيش كما هو الأن، بل حاجة الوجود الأولى أي لا يعود الإنسان يعمل ليعيش إنّما يعيش ليعمل.

٦- حتميّة التطور على الصورة المبيّنة أعلاه، الديالكتيكيّة المادّيّة:

تطوّر الإنسانيّة على الصورة المذكورة أعلاه تطوّر حتميّ لا يمكن إلّا أن يتمّ كذلك. وليس للإنسان إمكانيّة منعه أو تعديله. يستطيع الإنسان أن يجعل في التطوّر بعض الشيء فقط، لكنّ التطوّر لا بدّ صائر لأنّه خارج عن إرادة الإنسان. إنّه يجري بموجب قانون طبيعيّ، قانون سير العالم العضويّ الداخليّ. النظريّات والأفكار لا علاقة لها بالأمر. الأفكار ليست بالأصل إلّا الحقيقة الخارجيّة منقولة إلى رؤوس الناس ومترجمة إلى أفكار. أمّا الحقيقة فهي كما يلي: متناقضات في الواقع الاقتصاديّ منذ القديم، المتناقضات تولّد حركة ومصيرًا، وهذه الحركة تصبح ثورة تحلّ المتناقضات، ثمّ تقوم متناقضات جديدة للوضع الجديد فحركة أخرى فثورة وهكذا دواليك في تطوّر وتحسّن مستمرّ… وهكذا يصير التاريخ فالحقيقة ثوريّة بالأساس والأصل، الثورة قانون الحياة شئنا أم أبينا. وليس من حقيقة مطلقة نهائيّة أخرى. الشيوعيّة تؤمن بالثورة فلسفيًّا قبل أن تؤمن بها اجتماعيًّا. إنّها الفلسفة الديالكتيكيّة التي جاء بها هيجل مثاليّة فكريّة Idéalisme  أمّا الديالكتيكيّة الشيوعيّة فمادّيّة بحتة لا مثاليّة فيها. ليست موجّهة من قبل «فكرة» Idée أو «مثال» بل هي سائرة بالمادّة، المادّة الكائنة في البدء والصائرة إلى نهاية التاريخ بموجب قانون تطوّر ذاتيّ داخليّ، تكتمل به شيئًا فشيئًا بعد مرورها في مراحل عديدة متتالية ومحتّمة الوقوع كما قلنا.

أمّا دور الإنسان في كلّ هذا، في تطوّر المادّة الديالكتيكيّ وفي مصير المادّيّة التاريخيّة، أن يعي المراحل التي يصل إليها التطوّر. ويشعر بحدوث التغيير، فيساعد على إتمامه ليتمّ التطوّر بسرعة.

   ٧ – مفهوم الملكيّة في الماركسيّة:

الملكيّة مشكلة أساسيّة في الشيوعيّة. بالإجمال تقول الشيوعيّة بإلغاء الملكيّة الخاصّة، ولكنّها تبقي على ملكيّة مرابح العمل (ملكيّة بيت السكن، أشياء الاستعمال اليوميّ والشخصيّ..). المقصود بالملكيّة التي يجب إلغاؤها في الماركسيّة هي الملكيّة البورجوازيّة القائمة على أسس فاسدة. القيمة الأساسيّة الوحيدة هي العمل. فقيمة أيّة بضاعة تحدّد بكمّيّة العمل وبزمن العمل اللازمين لصنعها، (ويقاس العمل هنا بالمعدّل الوسطيّ الاجتماعيّ للعمل اللازم). إذًا العمل هو أساس قيمة البضاعة لا الحاجة إليها. تبادل البضائع هو تبادل كمّيّة العمل وزمنه اللذين لزما لصناعتها. إنّه بالنتيجة تبادل عمل إنسانيّ وحقيقة إنسانيّة ومادّة إنسانيّة بل تبادل الإنسان نفسه بشكل بضاعة، ولذلك فإنّ ثمرة العمل لا يجوز أن تكون إلّا ملكًا للعامل، وهذا بالمعنى العضويّ الكيانيّ، بصرف النظر عن أيّ حقّ أو عدل أو قانون. وكلّما لا تنطبق الملكيّة على العمل والعمل على الملكيّة يكون هناك خلل عضويّ في المجتمع، كما هو الحال في الملكيّة البورجوازيّة. ففي الملكيّة البورجوازيّة تناقض بين إنتاج إجماعيّ من جهة وملكيّة فرديّة من جهة أخرى، ثمّ بين منتجين ومالكين. المنتجون الحقيقيّون أي العمال، فقدوا ملكيّة وسائل الإنتاج فاضطرّوا كي يعيشوا إلى بيع قوّة عملهم لأصحاب وسائل الإنتاج فاستغلّهم هؤلاء بأن شغّلوهم أكثر ممّا أعطوهم أجرة لقاء عملهم. فحصل عمل إضافيّ زائد بدون أجرة مقابلة له يسمّيه الماركسيّون فائض القيمة plus-value , sur travail وبهذا العمل الإضافيّ يزداد رأسمال المالك. فالعامل يبيع قوّة يديه وهو كلّ ما يملكه والمالك يطمع في زيادة رأسماله باستمرار. ومن هنا يتراكم المال باطّراد في أيدٍ قليلة تحتكره، كما تزداد وتنتشر أكثر فأكثر الطبقة الفقيرة العاملة إلى أن ينتهي ذلك إلى الثورة. فغاية الشيوعيّة إعادة رأس المال من أيدي البورجوازيّة إلى المجتمع بكامله وذلك بإلغاء ملكيّة الأرض وملكيّة وسائل الإنتاج والصناعة وإبقاء ملكيّة الإنتاج أي موادّ الاستهلاك. فلا يكون بعد ذلك استغلال ولا طبقات.

٨- الشيوعيّة والدين:

تعتقد الشيوعيّة أن ليس لله أيّة حقيقة كيانيّة. والإنسان هو الذي يصنع لنفسه إلهه. والدين ظاهرة اجتماعيّة تنتج من الأوضاع الاقتصاديّة المادّيّة الخاصّة بكلّ فترة من الزمن وتتكيّف بها. وإنّه ليس سوى نتيجة لاستغلال الإنسان للإنسان وواسطة لهذا الاستغلال، إذ أوجد ليحافظ على الأوضاع الاجتماعيّة الفاسدة القائمة ويدافع عن حقوق الطبقة الحاكمة المستغلّة. فالإيمان بحياة أخرى يصرف الطبقة المظلومة عن القتال في هذه الحياة في سبيل تحطيم قيودها. كما هو نتيجة لعجز هذه الطبقة ولذلك «فالدين أفيون الشعوب».

لكنّ الدين مرحلة تاريخيّة ضروريّة في تطوّر الإنسان. وهذه المرحلة ستزول بزوال الأوضاع الاقتصاديّة التي أنتجتها. فزوال الدين محتّم في نظر الماركسيّة. وعلى هذا لا ضرورة لمحاربته مباشرة بل يكفي محاربة الأوضاع الاقتصاديّة. ولهذا السبب يمكن السماح بممارسة الدين بل يمكن السماح للمؤمنين بالانتساب إلى الحزب الشيوعيّ. قال لينين «لا تعطوا مسألة الدين أهمّيّة وشرفًا لا تستحقّهما» محاربة الدين تكون بالدعاية ضدّه وتربية النشء بعيدًا عنه، من دون اضطهاد الإيمان مباشرة. هذه هي العقيدة الشيوعيّة الأساسيّة. وإذا كانت قد حدثت في الواقع اضطهادات للدين ورجال الدين فقد كانت باسم الشيوعيّة لا بفعل العقيدة الشيوعيّة… كما يحدث في جميع المذاهب.

هذه هي أهم النقاط الأساسيّة الرئيسة في المذهب الماركسيّ الشيوعيّ سردناها بإيجاز. وهناك ولا شكّ نقاط غيرها لكنّها ناتجة من تلك وقد يتّضح بعضها في تعرض البحث لها عند نقد المذهب الماركسيّ.

 

 

المرجع: مجلّة النور، العدد السابع، أيلول، ١٩٦٥.

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share