الأرشمندريت إلياس مرقص
(دير الحرف)
- إنّ العيد الخمسين الذي تحتفل به حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة لهو مناسبة ذهبيّة لنفحص فيه ونتبيّن دور الحركة في الكنيسة، ونعمل تاليًا على تجديد هذا الدور وتكثيفه في السنين المقبلة في خدمة الكنيسة ولمجد الله.
- بوصفي من الحركيّين الأوائل الذي أعطاهم الله أن «يتمخّضوا» بالحركة – إذا جاز القول – ويذهبوا بها، في مسيرتهم الشخصيّة، إلى مراميها الحقيقيّة. أعني التكريس الكامل في خدمة نهضة كنيسة أنطاكية (سواء نجحوا كلّيًّا في ذلك أم لم ينجحوا)، فإنَ ما أستطيع قوله في هذا الصدد وما أريده هو قول واحد، وهو أنّ حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة كانت، أساسًا، «حدثًا» في تاريخ كنيسة أنطاكية وحياتها: «حدثًا»(événement) لا «مؤسّسة» (institution)، ويجب أن تبقى الحركة كذلك. هذا لأنّ الكنيسة أساسًا وجوهرًا، هي حدث وليست مؤسّسة. ولأنّ الحركة انطلقت من قلب الكنيسة الحدث لا المؤسّسة.
- «حدث» أي شيء «حديث» جديد. إنّي ما أزال أذكر، وكأنّه اليوم، ذلك التعجّب (émerveillement) الذي اعترانا أمام «اكتشاف» الأرثوذكسيّة وكأنّنا أمام عالم جديد: عالم الكنيسة الأرثوذكسيّة بفرادة طقوسها وعقائدها وروحانيّتها. كان معظمنا قد تربّى في مدارس إرساليّات غربيّة، وكنّا تاليًا غرباء عن جوّ الأرثوذكسيّة إلى حدّ بعيد. فلمّا بدأنا نكتشف شيئًا من جمال صلواتها (أذكر منها أوّل الأمر صلاة «يا من في كلّ وقت وفي كلّ ساعة …»)، وصواب عقائدها (وهنا أذكر كيف «ابتلعنا» كتاب اللاهوتيّ الروسيّ سرج بولغاكوف عن «الأرثوذكسيّة»)، وعمق روحانيّتها (وقد أولعنا بكتاب «آباء البرّيّة» لبريمون)، كنّا فعلًا أمام عالم جديد، فسلكناه وتوغّلنا فيه شيئًا فشيئًا نتعلّم ونذيع. نمارس وننشط ونعيش، ونحن باقون على توثّب روح الجدّة هذه، جدّة عالم وجدّة حياة. هذا وإنّ الجدّة المستمرّة هذه هي التي أتت بالبعض منّا إلى أن يكونوا كهنةً أو رهبانًا وراهبات أو مؤمنين ما يزالون بعد عشرات السنين يتحرّقون في سبيل النهضة ويبذلون من أجلها الغالي والرخيص.
- إلّا أنّ الخطر الذي يتربّص بنا في كلّ حين، في الحركة والكنيسة، هو بالضبط أن نفقد طابع الجدّة، طابع الحدث هذا، ويغلب علينا طابع «التأسّس»، أعني التحوّل إلى مؤسّسة. إنّه خطر قائم دائمًا لأنّ «الروح نشيط وأمّا الجسد فضعيف» .
فالإنسان يضعف ويفتر وينسى، أو يثقل وينعس وينام … الإنسان سريعًا ما يفقد «هويّته»، وكما يقول بردييايف «يشيّئ» الأمور تشييئًا (Objectivation) أي أنّه يحوّلها إلى «شيء» ، فتقوم المؤسّسة شيئًا جامدًا محدودًا. شيئًا منظّمًا مقنونًا، منغلقًا، مدّعيًا، شيئًا رتيبًا، «عتيقًا» تخمد فيه وثبات الحياة وتموت.
- إنّ هذا الخطر الكثير الخبث يلاحقنا في كلّ أوجه حياة الكنيسة. سواء أكان في صفوف الشباب أم في الأديرة والرهبنات أو في ميادين الرعاية في الرعايا والأبرشيّات… فيشلّنا فيها الرتابة والجمود، أو «القانون»، أو الاكتفاء الذاتيّ والانكفاء، وتاليًا غياب الانفتاح وغياب الرحمة واللطف والاتّضاع … وبالنتيجة غياب الروح وغياب الحياة، في حين أنّ المسيح دعانا إلى أن نتبعه «في التجديد». منذ العهد القديم كان الانبياء يؤكّدون على الامانة الحيّة المتجدّدة للربّ. «ترتيلةً جديدةً أرتّل لك يا ربّ»: هذا ما يردّده في المزامير داود النبيّ الذي كان «على قلب الربّ». وهذا ما تحتفل به الكنيسة بعد قيامة الربّ يسوع وقد أباد الموت: عهد جديد، ولادة «من فوق»، إنسان جديد، «مشروبًا جديدًا»، «أورشليم جديدة»، «أرضًا وسماء جديدتين»، هبوب الروح، «ناسين ما وراء وممتّدين إلى قدّام»… هذه هي كنيسة المسيح. وقد جاءت الحركة تلك بالروح، نابعةً من صميم الكنيسة لتحرّك تلك الروح الملازمة للكنيسة في الصميم .
- واضح، إذًا، دور الحركة في الكنيسة. فهو كان وما يزال وينبغي أن يبقى تحريك جدّة الروح ووثبيّته في كلّ مجالات حياة الكنيسة. وهذا طبعًا بقدر توغّل الحركيّين والتزامهم الشخصيّ في تلك المجالات٭. إنّ استمرار الحركة على أمانتها وأصالتها يتطلّب مزيدًا من التوغّل في حياة الكنيسة. وذلك لا كمؤسّسة بل كحدث. هذا وإن لم تعطِ الحركة مزيدًا من المتكرّسين والملتزمين «حياتيًّا» في الكنيسة، عَتِقت وبطلت ان تكون حدثًا. أمّا إذا أعطت، وأعطت بسخاء، وأصبح معظم الكهنة في الكرسيّ الأنطاكيّ، وكذلك الرهبان والراهبات والعاملين في حقل الكنيسة كافةً، يعملون بروح الحركة أي بروح الكنيسة الأصيل، فهذا ما نتمنّاه وما نعنيه بقولنا (كما كتبتُ مرّة منذ السنين االأولى) «إّن الحركة وجدت لكي يأتي يوم لا يكون لها فيه مبرّر وجود». إنّه حلم وما أروعه إن تحقّق!
- ختامًا، وإن كان لي أن أبدي نصيحةً في هذا المجال، فنصيحتي للحركيّين أن يتّجهوا أكثر فأكثر إلى الداخل. إنّنا في الواقع غالبًا ما نحيا حياتنا في الخارج، خارج «القلب الخفيّ». إنّه داء «الخارجانيّة». (extériorité) الذي يرضي الإنسان الخارجيّ ويعيق الإثمار الروحيّ الحقيقيّ ويبقينا في الوهم. الرجوع إلى الذات بغية معرفة الذات حقًّا وتنقية القلب حقًّا وتجديده على الدوام، والانطلاق من نقاوة القلب هذه إلى ذكر الله، والأمانة له في أعمال الخدمة والمحبّة، هذا هو الجهاد المطلوب منّا في السنين المقبلة، الجهاد الأساس لأنّه الجهاد الذي لا بدّ منه للوصول إلى القداسة، وإن لم تزهر في كنيستنا القداسة فَلَسنا بشيء.
_______________________
سواء في صفوف الإكليروس أو الرهبان والراهبات، أو في ميدان مجالس الرعايا وغيرها من المجالس الكنسيّة، وكذلك في التعليم والنشر، وبصورة خاصّة في دخول حياة العبادة الأرثوذكسيّة (إتقان فتح الكتب الطقسيّة، والتراتيل والقراءة)، وفي التزام الحياة الروحيّة الشخصيّة، بجد (بما فيها البنوّة لأبٍ روحيّ والتقيّد بقانون صلاة ومطالعة يوميّة للكتاب المقدّس والآباء وغيرهم)، وروح الخدمة والعطاء والمحبّة.. وما يثلج الصدر أنّ لهذا كلّه بوادر طيّبة كثيرة عند الشبّان والشابّات الحركيّين في الآونة الأخيرة.
المرجع : مجلّة النور، العدد الأوّل، ١٩٩٢.