الأب إلياس مرقص
(دير مار جرجس الحرف)
من لم يشعر ذات يوم أنّ خير ما في الحياة، في نهاية المطاف، هو فرح الصداقة، الفرح الصافي والثابت، أقصد «الأبديّ»، الناتج من اجتماع الإخوة والتئامهم في سلام وتآلف ووفاق، مفتوحي القلوب، متجاوزين كلّ انفصال وبُعد، في اتّحاد وجوديّ نهائيّ؟ أجل، المشاركة الكاملة بين الناس، «الجماعة» البشريّة، تبقى ولا شكّ أعمق أمنية في قلب الإنسان. واليوم بوجه خاصّ، تلك الوحدة المنشودة يُسعى إليها، في الإنسانيّة المعاصرة وفي الكنيسة على السواء، بصورة واقعيّة وألم كثير.
ولكنّها قصّة قديمة أيضًا: فمنذ البدء، وحدة المحبّة، تلك التي بدأت بين الجدّين الأوّلَين في الفردوس، ثمّ تحوّلت بفعل الخطيئة إلى تعدّديّة وخصام، كان علينا أن نستردّها. ولكن منذ البدء أيضًا، منذ تجسّد الكلمة، المرسوم منذ الأزل في تصميم الله، كما يقول القدّيس مكسيموس المعترف، وحدة البشر في ما بينهم قد «أعيدت» و«روجعت» في المسيح، وهي تاليًا هنا، معنا وفينا. وعلينا أن نكتشفها من جديد دائمًا. نعم منذ التجسّد الإلهيّ أضحت البشريّة هي هي جسد المسيح، والكنيسة المكان التاريخيّ والروحيّ حيث تعي البشريّة المتجدّدة كيانها الحقيقيّ ودعوتها: أعني أنّ البشر هم أعضاء بعضهم لبعض في جسد واحد. هذا الملء، وهذا الواقع الأخير لوحدة البشر التي إنّما تتحقّق– داخل الجماعة الكنسيّة– في الإفخارستيّا، هو ما يتطلّب منا بحثه.
١) الإفخارستيّا في أدب الكنيسة القديمة تعرّف أيضًا كمحفل، كجماعة مقدّسة، أي أنّها في آن واحد مناولة جسد الربّ وشركة بين الحاضرين. وعند القدّيس بولس، كما في كلّ نصوص أدب القرن الأوّل، ربطٌ مطلق ومطابقة كاملة بين الإفخارستيّا والكنيسة. وفي الأساس العبارة اليونانيّة الواردة في سفر أعمال الرسل (٢: ٤٤) «جميع الذين آمنوا كانوا معًا» EPI TO AFTO هي عبارة فنّيّة خاصّة استعملت للدلالة على الجماعة الإفخارستيّة: «وكان الربّ يضمّ كلّ يوم إلى الكنيسة (إلى الذين كانوا معنا) أولئك الذين يخلصون» (أعمال الرسل ٢: ٤٧).
هذا ومن الواضح في رسائل القدّيس إغناطيوس الأنطاكيّ، وعند القدّيس يوستينوس بخاصّة، الذي يقول بهذا صراحة، أنّ المسيحيّين لا يجتمعون في الكنيسة مجرّد اجتماعات «بصورة عامّة» بل من أجل أن يقيموا الإفخارستيّا. وهذا التطابق بين الجماعة الإفخارستيّة والكنيسة كجماعة، يتّضح أيضًا بجلاء من وصف يوستينوس وذيونيسيوس الأريوباغيّ، لطقس الانضمام إلى الكنيسة المتكوّن من معموديّة تعقبها فورًا إفخارستيّا، حيث الانتماء إلى الكنيسة بالمعموديّة يتّخذ شكل الدخول إلى الجماعة الإفخارستيّة. فعند مسيحيّي القرون الأولى، كان المبدأ الأساس لحياة الكنيسة أن يكونوا معًا، مجتمعين من أجل غاية واحدة. بعبارة أخرى، اجتماعهم ككنيسة هو اجتماعهم لأجل الإفخارستيّا؛ واجتماعهم لأجل الإفخارستيّا هو اجتماعهم ككنيسة… ويقول أفناسييف: صحيح أنّ الكنيسة، دائمًا وفي كلّ مكان، تقيم أسرارها بصفة كونها جماعة شعب الله في المسيح، ولكنّ الإفخارستيّا هي بصورة خاصّة «سرّ» الكنيسة.
٢) لا جرم أنّ هذا الاتّحاد الكامل في المسيح بالإفخارستيّا له شروط وأسباب سابقة ضروريّة تُعدّه، وتساهم أيضًا في تحقيقه. فالمؤمنون يجتمعون أوّلًا حول ذكر الربّ الذي قام من الأموات، يسوع الذي تبعوه وأحبّوه وآمنوا به، يجتمعون باسمه الحيّ الذي يجعله حاضرًا بينهم: «إذا اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي أكون في وسطهم». ويجتمعون أيضًا (يجب أن يجتمعوا) متصالحين وفي سلام مع بعضهم البعض: «إذا قدّمت قربانك إلى المذبح وذكرت هناك أنّ لأخيك عليك شيئًا فدع قربانك هناك أمام المذبح وامض أوّلًا فصالح أخاك وحينئذٍ ائت وقدّم قربانك» (متّى ٥: ٢٣، ٢٤) (هذا شرط أساس لا بدّ منه). وأيضًا في سلام كلّ مع ذاته، أي متصالحين وموحَّدين مع أنفسهم باعترافهم بخطاياهم وبالتوبة المتواضعة: فإنّ جسد المسيح ودمه إنّما يناولان «لمغفرة الخطايا».
ثمّ يجتمعون «ليصغوا» معًا إلى وصايا الربّ، إلى كلمة الإنجيل التي توحدّهم في النور الذي تبثّه في الذهن، وفي الحياة التي تمنحها بسخاء. وأيضًا يجتمعون للعبادة والاحتفال في التهليل والشكر: «قدّوس، قدّوس، قدّوس الربّ الإله… الحمل المذبوح والحيّ… مستحقّ أنت أن تأخذ المجد والكرامة والقدرة… لأنّك اشتريتنا لله بدمك… » هكذا تجتمع الخليقة بأسرها حول حمل سفر الرؤيا وتسبّح لحمده (رؤيا: الإصحاح الرابع والخامس). لكنّ وحدة المؤمنين هذه (القائمة باسم الربّ، في المصالحة، والتوبة والتسبيح، تُرويهم «كلمة» واحدة وحضرة واحدة) لا تتمّ وتكتمل حقًّا وحقيقة إلّا في الإفخارستيّا.
٣) ذلك بأنّ الوحدة التي نحن مدعوّون اليها (وقد خُلقنا من أجلها وعلى صورتها) ليست وحدة أخلاقيّة معنويّة أو نفسيّة، حتّى ولا وحدة وجوديّة، بل هي وحدة عضويّة، وحدة الجوهر الكيانيّة: جسد واحد. هذه العبارة جسد، الكنيسة جسد المسيح، لها عند بولس الرسول أساس إفخارستيّ: «لأنّه يوجد خبز واحد، نشترك جميعًا فيه، نشكّل كلّنا نحن الكثيرين جسدًا واحدًا» (كو ١٠: ١٧) وبالإفخارستيّا ننضمّ كلّنا إلى جسد المسيح (أفسس ٣: ٦).
يقول القدّيس كيرللس الإسكندريّ إنّ المناولة، «بتغذيتها إيّانا من جسد واحد»، تخلق الشركة التي هي اتّحاد حقيقيّ بجسد المسيح ودمه؛ اتّحاد نصبح فيه، بواسطة الخبز والخمر، جسد المسيح. كنيسة الله هي «في المسيح» لأنّ الله جمعها في جسد المسيح، وكلمة كنيسة لا يمكن أن تفهم حقيقة، في كلّ مداها، إلّا على ضوء عقيدة الكنيسة كجسد المسيح بالمعنى الحقيقيّ والواقعيّ وليس فقط جسدًا سرّيًّا. «الجميع يندمجون ويذوبون في بعضهم البعض، إذا جاز التعبير»، يقول القدّيس مكسيموس المعترف. والقدّيس أثناسيوس الإسكندريّ يقول: «نحن جميعًا أجزاء بعضنا لبعض نكمّل بعضنا بعضًا».
الكنيسة إذًأ كانت معتبرة ليس فقط كشركة المؤمنين، بل كجسد المسيح. في كتاب تعاليم الرسل الاثني عشر، وهو من أقدم النصوص الإفخارستيّة، نقرأ هذه الصلاة: «كما أنّ هذا الخبز المكسور، الذي كان سابقًا منتشرًا على الهضاب، قد جُمع ليصير خبزًا واحدًا، هكذا أيضًا اجمع كنيستك من أطراف المسكونة». والقدّيس إغناطيوس الأنطاكيّ يصف أعضاء الكنيسة المجتمعين في هيكل واحد، كأنّهم مجتمعون حول مذبح واحد وفي يسوع المسيح الواحد- لأنّ المذبح هو المسيح- ويقول: «من لم يكن داخل المذبح يُحرم من خبز الله».
٤) هذا كلّه كم ينبغي أن يحثّنا على أن نحقّق من جديد ونمارس، في حياة الكنيسة الواقعيّة، مفهوم الكنيسة الأوّل. لأنّ هذا المفهوم الأصيل قد أظلم منذ زمن إلى درجة كبيرة بفعل الموجة الفرديّة الجارفة، فأصبحت الحياة الكنسيّة في وقت من الأوقات مجموعة حياة أفراد، وأدّى تاليًا اختفاء عامل «الجماعة»، في الغرب بخاصّة، إلى تفكّك الإفخارستيّا.
فيجب أن نفهم أكثر فأكثر، وبصورة أفضل فأفضل، أنّ المناولة عمل تقوم به الكنيسة كجسد واحد. «عندما نتناول معتقدين بأنّنا نقوم بعمل فرديّ فنحن ننفصل عن الآخرين؛ وعندما لا نتناول مطلقًا فنحن ننفصل عن جسد المسيح (مع كوننا أعضاءه)». الإفخارستيّا هي في قلب الحياة الكنسيّة: إنّها لا تتمّ من قِبل أفراد منعزلين ومستقلّين عن بعضهم البعض، بل تتمّ في الكنيسة، وبواسطتها يصبح الذين يشتركون فيها كنيسة. مسيحيّ منفصل عن الآخرين لا ينتمي إلى المسيح، لأنّ الكلّ ينتمون إليه معًا كأعضاء في جسده، أعضاء لا يقدرون على أن يعيشوا أو يعملوا بعضهم من دون البعض الآخر.
أكثر من ذلك: كان القدّيس إغناطيوس يتكلّم على الجماعة الإفخارستيّة التي تجمع الكلّ معًا، ويقول إنّها دواء الخلود، أي أنّه لم يكن يقدر على أن يتصوّر إفخارستيّا مقامة من أجل فئة واحدة فقط من المؤمنين… وقيام إفخارستيّا أخرى في مدينة واحدة كان دائمًا يدلّ على وجود انشقاق فيها. إقامة إفخارستيّتين في كنيسة رعيّة واحدة كان شيئًا لا يُعقل.
هذا يعني أنّ الاجتماع الإفخارستيّ، برئاسة الأسقف، كان هو الكنيسة «الواحدة» و«الكاملة»، «المجتمعة كلّها» (كو ١٤: ٢٣). وأساسًا تلك هي الحقيقة الكثيفة التي تعبّر عنها في دستور الإيمان لفظة «الجامعة» ذات الاتّساع البديع.
٥) شركة- جماعة مثل هذه تحقّقها فينا الإفخارستيّا يجب أن نبتكرها ونستعيدها دائمًا من جديد… لكيما، يومًا بعد يوم، تصيغنا أكثر فأكثر على صورتها. وهكذا تعمل جدّة الله الكلّيّة تدريجيًّا في العالم فتحوّل الإنسان العتيق إلى «إنسان جديد» يحيا في المحبّة وبالمحبّة. إنّها، إذا جاز القول، وحدة ديناميكيّة يجب أن ندخل تيّارها، يقدّمها لنا الروح القدس في الأسرار الكنسيّة، وعلينا أن نقرّها، ونتلمّسها ونحقّقها شيئًا فشيئًا.
ذلك بأنّ الجماعة بتناولها الخبز والخمر تتحوّل في صيرورتها أيضًا إلى جسد المسيح ودمه. إنّها تتحوّل أثناء سيرها عينه، وهي سالكة في المسيح مسيرة غدها. المؤمنون بتناولهم الخبز والخمر المحولَين إلى جسد المسيح، لا يخطون خطوة إلى الأمام في حياتهم وحسب، بل يخطون خطوة حاسمة في عمليّة تحوّلهم هم في المسيح. الخبز والخمر، بتقديمهما للمسيح، يكوّنان ليس فقط استمرار الحياة، بل الارتقاء إليه.
فالليتورجيا تاليًا هي نموّ للمؤمنين في اتّحادهم بالمسيح، والقدّيس مكسيموس يقول إنّ المناولة «تخلقنا من جديد وتنسجنا في أعمق أعماق كياننا، حتّى لو لم نكن لهذا واعين».
٦) هناك أيضًا «تشابهٌ» بين هذه الوحدة الكنسيّة الإفخارستيّة التي يجب أن نمتدّ إليها، وحياة الثالوث. ينبغي أن تكون وحدتنا على صورة الثالوث، وشركة الجماعة بالنهاية مشاركةٌ في تيّار الحبّ الذي في الثالوث.
لا ننسى أنّ في شخص الإنسان تطابقًا بين وحدة مطلقة واختلاف مطلق، أعني أنّ الناس جميعهم واحد وفي الوقت عينه مختلفون في ما بينهم. يقول القدّيس يوحنّا الدمشقيّ «الأقانيم في الثالوث متّحدة لا لكي تختلط ولكن لتحوي بعضها بعضًا». الناس بصورة عامّة ليسوا متشابهين ولا أعداء، بل هم مختلفون إلى ما لا نهاية وواحد إلى ما لا نهاية. كذلك في الله الثالوث، الوحدة المطلقة لا تنفصل عن اختلاف الأقانيم المطلق. من ناحية أخرى، اتّحادنا بالمسيح في الإفخارستيّا، على كماله، لا يُنشئ حالة خلط وعدم تمييز بينه وبيننا، ومن أجل ذلك نبقى راغبين في أن نتّحد به أكثر.
إذًا من طريق الاتّحاد الإفخارستيّ، يُكشف لنا الثالوث ويُعلن ليس بصورة مجرّدة، كمعرفة فكريّة، بل كشرعة الحياة عينها: تجاوز الذات، الخروج من الأنانيّة، الانفتاح لله، هذا يؤول إلى تفتّح الذات وانشراحها وازدهارها وتقبّلها في قرارتها العميقة الحضرة الإلهيّة ذات السخاء اللامحدود.
فيصير المرء، على نحوٍ ما، شفّافًا لروح الثالوث بتحرّره قليلًا قليلًا من حدوده الفرديّة، بتوسيع حياته على قياس وحدة «الجسد»، «بفقده» إيّاها حبًّا بالمسيح وبالإخوة. وهكذا تصير «معرفتنا» لا معرفة فرديّة بل مشتركة، معرفة «في المشاركة». ونكتشف أنّ الوجدان الشخصيّ ليس هو وعيًا للذات، بقدر ما هو وعي للمشاركة، وعي كنسيّ: حياة كلّ إنسان تتّسع بلا حدّ لتصبح حياة أناس آخرين، وتاليًا شركة قدّيسين.
٧) واضح أنّ تحقيق هذا كلّه يتطلّب شروطًا وأوضاعًا أساسيّة يجب إيجادها أكثر فأكثر بين المسيحيّين والناس بعامّة. الوحدة بواسطة تناول القربان المقدّس لا تحدث وكأنّها خلاصة فيزيائيّة واحدة يشترك فيها الذين يتناولون. إنّها لا تتمّ بين أفراد مجتمعين بشكل عرضيّ أو عاطفيّ وسطحيّ، من دون رغبة منهم في أن يصيروا واحدًا في إيمانهم وحياتهم. ولكنّها تتويج وحدة روحيّة، وحدة فكر ومحبّة يصل إليها المؤمنون بنعمة الروح القدس من طريق الصلاة معًا، وتسبيح الله معًا، والإقرار معًا بإيمان واحد، صائرين على هذا المنوال «جسدًا واحدًا وروحًا واحدًا» مع المسيح.
أمّا إذا استبقنا بالفكر الشركة، الجماعة الحقيقيّة، من أجل إقامة اشتراك في المناولة بصورة سطحيّة، فتضعف الانطلاقة الأساسيّة نحو وحدة الكنائس الحقيقيّة، وننزلق نحو حالة نسبيّة تجعلنا نتخلّى عن طلب الوحدة الأكثر سموًّا لنكتفي بالوضع الراهن… ولعلّ هذا يكون فعل وحدة وهميّ.
من أجل ذلك حلّ مشكلة اشتراك الكنائس في القدسات يقتضي، على صعيد عامّ، أن تدخل كلّ من الكنائس في حضرة المسيح الكاملة، ومن ثمّ تتّحد ببعضها البعض. بقدر ما نعمل، كلّ في كنيسته، من أجل أن يعود العشاء الإفخارستيّ إلى ملء وحدته واتّزانها، بهذا المقدار تحصل الوحدة.
في غضون ذلك ينبغي أن نضاعف بيننا «مناولة مشتركة روحيّة»، أعني علاقات وصداقات تتّصل بواسطتها حياتنا في المسيح أكثر فأكثر، ويزداد بها تشابهنا. إقامتنا الإفخارستيّا، كلّ على حدة، ستكون مرتبطة بالمشاركة التي نسعى لنعيشها وبالأمل الذي لنا في أن نهدم «الجدران الجزئيّة» التي ما تزال تفصلنا. إفخارستيّاتنا المختلفة ستكون بالضبط الخميرة التي تتيح لنا أن ندرك ملء المشاركة.
لأنّه بالنتيجة السعي إلى الوحدة هو السعي إلى الله والسعي إلى الله هو السعي إلى الوحدة.
المرجع: مجلّة النور، العدد الأوّل، ١٩٧٣.