الأرشمندريت إلياس مرقص
في صلوات الكنيسة الأرثوذكسيّة التي نردّدها كلّ يوم درر تكاد تكون مجهولة.. فيحسن لفت النظر إليها، لأنّنا إذا ما عرفناها واستوعبناها رتّلناها (أو استمعنا إلى ترتيلها) بفهم آخر، بفهم جديد يغني حياتنا الروحيّة.
بين هذه الدرر القطع المسمّاة “كاطافاسيّات” أو “أراميس”، وكيفيّة ترتيبها في قوانين صلاة السحر[1].
هذه الكاطافاسيّات والأراميس تختلف من عيد إلى عيد ومن يوم إلى يوم. ولكنّها تعبّر كلّها عن رؤية واحدة، هي بعض مراحل الحياة الروحيّة الأساسيّة كما نراها في مسيرة الشعب المختار منذ خروجه من مصر، وكما يعيشها اليوم في مسيرته الشخصيّة كلّ مَن قصد الخروج من عالم الخطيئة والتزم الحياة الروحيّة التزامًا كاملًا. إذ يبدو أنّ ما عاشه شعب إسرائيل خلال مئات السنين كما هو مدوَّن في الكتاب المقدّس، علينا أن نعيشه بدورنا، على الصعيد الروحيّ، كلّ بمفرده، لحسابه الخاصّ.
الكاطافاسيّات (والأراميس)، مبنيّة على بعض الأحداث الرئيسة في تاريخ إسرائيل ومستوحاة من التسابيح التي سبَّح الرب بها في تلك الأحداث[2].
الكاطافاسيّا الأولى:
مستوحاة من تسبحة موسى لمّا غادر إسرائيلُ مصرَ واجتاز البحر الأحمر، ناجيًا من فرعون وجيشه (خر ١٥: ١ – ١٩). وهذا واضح جدًّا في معظم الكاطافاسيّات الأولى: “إنّ موسى لمّا رسم الصليب ضرب بالعصا مستوية فشقّ البحر الأحمر وأجاز إسرائيل ماشيًا، ولمّا ضربه مخالفًا ضمّه على فرعون ومركباته…” (في عيد رفع الصليب)[3].
لقد هرب إسرائيل من مصر “أرض العبوديّة” حيث كان مستعبَدًا للمصريّين: إنّها الخطوة الأولى في المسيرة نحو أرض الميعاد، إنّها الإنطلاقة. كذلك على مَن يبتغي وجه الربّ أن يبدأ بالانطلاق من عبوديّة الخطيئة ويتحرّر[4].
سوف تقام في وجهه عوائق كثيرة لتمنعه عن المسير. ولكن لا بدّ من الاجتياز… بقوّة الربّ.
وهذا يتمّ بقوّة الصليب (“إنّ موسى لمّا رفع الصليب..”) أي بإنكار الذات (“مَن أهلك نفسه يخلّصها”)… فمَن كان غير مستعدّ للتخلّي عن مشيئته، ومجاهدة أهوائه وراء المسيح لا يقدر على أن ينطلق، فيبقى في أرضه…
الكاطافاسيّا الثانية:
ليس هناك في الواقع كاطافاسيّا ثانية، بل بعد الأولى نرتّل مباشرة الكاطافاسيّا الثالثة، ما عدا أيام الصوم الكبير ذلك ربّما لأنّ التسبحة الثانية من التسابيح التسع سبّحها موسى عند كتابة الناموس (أنظر تثنية ٣٢: ١ : ٤٣)، ونحن ما عدنا في عهد الناموس. أمّا في الصوم الكبير فكأنّنا نتدرّج نحو خلاص الآلام والقيامة. نحو عهد النعمة – عبر مرحلة الناموس. فنرتّل مع موسى: “أنصت يا شعبي إلى ناموسي…” أو “أنصتي يا سماء فأتكلّم…” (أنظر أراميس الأودية الثانية في كتاب التريودي).
ذلك بأننا بعد مغادرة أرض العبوديّة نحتاج إلى معرفة أصول السير (“قانون السير”) في صحراء الجهاد الروحيّ، نحتاج إلى “ناموس”: وهذا ضروريّ ليس فقط من ناحية معرفة فرائض الله ومخاطر الطريق بَل أيضًا من ناحية الالتزام والإنضباط والجدّيّة. فإذا لم نتّبع أصول الحياة الروحيّة نتعرّض للتيه والضياع والعودة إلى دنيا الخطيئة.
الكاطافاسيّا الثالثة:
تستند إلى صلاة حنّة أّمّ صموئيل النبيّ لمّا ولدت صموئيل ولادة مذهلة بعد أن كانت عاقرًا (أنظر ١ ملوك ٢: ١ – ١٠): “إن صلاة حنّة النبيّة قديمًا المقرّبة بروح منسحق قد حلّت رباطات حشا العادمة التوليد…” (في خميس الصعود). “أمّا الآن فقد أزهر عود الصليب للكنيسة العاقر قبلًا عزّةً وثباتًا” (في عيد رفع الصليب).
لقد شدّدت حنّة في صلاتها على الثبات: “قلبي تشدّد بالربّ” وعلى قداسة الربّ الذي لا يردّ ملتمسيه: “ليس قدّوس مثل إلهنا وليس عادل سواك يا ربّ”[5].
كذلك النفس متى انطلقت وسارت قدمًا في الطريق، اكتشفت سريعًا أنّها عاقر وعقيمة لا تستطيع شيئًا من ذاتها، وإذا ما تضرّعت إلى الربّ تضرّعًا حارًّا منسحقًا، باكية مثل حنّة (أنظر ١ ملوك ٢: ١٠- ١٥) يشدّدها الربّ ويعزّيها فتلهج بقداسته وتتابع المسير.
الكاطافاسيّا الرابعة:
“إن حبقوق النبيّ لمّا عرف إرادتك الإلهيّة غير المدركة أيّها العلي التي هي تجسّدك من البتول هتف صارخًا: المجد لقدرتك يا ربّ” (كاطافاسيّا السيّدة).
هذه الكاطافاسيّا الرابعة مستوحاة من صلاة حبقوق النبيّ عندما تراءى له تنازل الكلمة فقال: “يا ربّ لقد سمعت خبرك ففزعت.. أنت معروف بين حيوانين.. عند دنوّ الزمان تظهر.. خرجت من أجل خلاص شعبك.. فالمجد لقدرتك” (حبقوق ٣: ٢ – ١٢).
فالتطلّع إلى سرّ التجسّد هنا يقوّي عزائم السالكين إليه بل هو تطلّع كيانيّ لأنّ رجاءنا هو في الربِّ وحده. ونحن بهذا الرجاء نمتدُّ إلى الأمام ونتزوّد. إزاء تجارب الشيطان الكثير الحيل ليس لنا سبيل إلّا أن نرسّخ حياتنا كلّها على المسيح القدير وسرّه الرهيب صارخين: “المجد لقدرتك يا ربّ”.
الكاطافاسيّا الخامسة:
تستند إلى صلاة أشعياء النبيّ لمّا سبق فعاين وصلّى قائلًا: “أيّها الربّ الإله أعطنا سلامًا فإنّك أعطيتنا كلّ شيء… من الليل تبتكر روحي إليك يا الله لأنّ أوامرك نور على الأرض” (أشعياء ٢٦: ٩ – ٢٠)، فجاءت كاطافاسيّا الميلاد: “أيّها المحبّ البشر بما أنّك إله السلام وأبو المراحم فقد أرسلت لنا رسول رأيك العظيم مانحًا إيّانا سلامك، ولذا إذ قد اهتدينا إلى نور المعرفة الإلهيّة فنحن ندَّلج من الليل ممجّدين تنازلك”[6].
أكثر ما يحتاج إليه الناس هو السلام. ونحن في جهادنا لم نبلغ بعد إليه، إلى السلام الكامل.. وما نزال في ظلمة الأهواء، لكنّنا نعي ذلك ونتحسَّر عليه. ومن الليل نشتاق وندَّلج إلى السلام والنور. إنّها مرحلة أخرى نختبر فيها افتقارنا الكيانيّ إلى السلام والنور، أي إلى الله، ونلتمسها من صميم القلب. “في سبيل أحكامك يا ربّ انتظرناك. إلى اسمك وذكرك اشتياق النفس. نفسي اشتاقتك في الليل” (أشعياء ٢٦: ٨ و٩). وبهذا يزداد اقترابنا من الله.
الكاطافاسيّا السادسة:
مستوحاة من حادثة يونان في بطن الحوت: “إنّ يونان لمّا كان في جوف الحوت البحريّ”. (في عيد رفع الصليب). “إنّ الحوت البحريّ قد قذف من أحشائه يونان” (في عيد الميلاد). كما هي مستوحاة من صلاته: “أسكب أمام الربّ تضرّعي وأبسط قدّامه أحزاني لأنّ نفسي قد امتلأت من الشرور وحياتي دنت من الجحيم فإليك أتضرّع مثل يونان هاتفًا: أنهضني من الفساد يا إلهي” (في صلاة البراكليسي). “… فمثل يونان أهتف إليك أصعدني من العمق المميت.” (من العنصرة).
إنّها مرحلة متقدّمة جدًّا في المسيرة الروحيّة (التقدّم في الحياة الروحيّة ليس صعودًا بل نزولٌ في معظم الأحيان). فتجارب الشيطان التي ترافق المرء طول الطريق تشتدّ عمقًا كلّما تقدّم، وهي هنا تبلغ إلى “الهاوية السفلى” : “من جوف الحجيم أنا صرخت… في أعماق قلب البحر طرحتني… جميع لججك وأمواجك جازت عليّ… رأسي انحدر إلى شقوق الجبال… أرجع أيّها الربّ إلهي حياتي الهالكة” (يونان ٢ : ٣ – ١٠).
يسمح الله بذلك، وربّما كان لا بدّ منه، لكي يعرف الإنسان حقيقة “ضعفه” الأقصى ويختبر عدمه، وينسحق حتّى الجحيم… ذلك من دون أن ييأس لأنّ يونان “لمّا بسط يديه بشكل صليب سبق فرسم الآلام الخلاصيّة بوضوح، ولمّا خرج في اليوم الثالث مثّل القيامة الفائقة العالم… ” (في عيد رفع الصليب). إنّه الطريق إلى القيامة. هذا فضلًا عن أنّ المحنة تأتي بيونان إلى رجوعه إلى طاعة الربّ والاعتراف به: “أمّا أنا فإنّي أقرّب لك ذبائحي بصوت الحقّ والشكران، وكلّ ما نذرته سأوفيك إيّاه يا ربّ خلاصي”. هذه أيضًا من معالم الطريق…
الكاطافاسيّا السابعة:
مستوحاة من الثلاثة الفتيان الذين أطفأوا اللهيب في الأتون (دانيال ٣: ٢٦ – ٥٦): “…إلّا أنّ الثلاثة الفتيان لم يرعهم الغضب الوحشيّ ولا النار الآكلة” لكنّهم إذ كانوا في النار الناسمة فيها ريح نديّة كانوا يرتّلون: أيّها الفائق التسبيح مبارك أنت يا إله آبائنا” (في عيد رفع الصليب). المحنة هنا تجعل الفتية يعترفون بخطيئتهم، بل بخطيئة الشعب كلّه متضامنين معه، فيعودون إلى ابتغاء الربّ وحده: “لأنّك بالحقّ والإنصاف جلبت هذا كلّه علينا من أجل خطايانا… لأنّنا قد خطئنا وأثمنا وابتعدنا عنك وأذنبنا في كلّ شيء”. كما تجعلهم ينسحقون (أيضًا وأيضًا): “والآن فليس لنا أن نفتح فمنا… فاقبلنا لانسحاق نفوسنا وتواضع أرواحنا…” ويحدّدون حرارة ابتغائهم للرب: “إنّنا نتبعك اليوم بكلّ قلوبنا ونتقّيك ونبتغي وجهك…” وتنتهي صلاتهم بالتسبيح ومباركة الله في وسط الآتون: “مبارك أنت يا ربّ إله آبائنا”.
على هذا المنوال المجاهد الأمين الذي يستمرّ في الطريق إلى النهاية يجوز أتون النار الحارقة “بشجاعة” (بعد الماء والنار : جزنا بالنار والماء فأخرجتنا إلى منتجع راحة) ويتندّى في وسط اللهيب… ويتضامن مع شعب الكنيسة كلّه مسبِّحًا “لإله آبائنا” لأنّ الذي أنقذ الفتية من الأتون لمّا صار إنسانًا تألّم كمائت، بآلامه سربل المائت جمال عدم الفساد، أعني به إله آبائنا تبارك وتمجّد وحده” (في عيد الفصح). بعد النزول إلى قلب البحر النزول إلى الأتون. إنّه الطريق.
الكاطافاسيّىا الثامنة:
امتداد للسابعة إذ تتناول تسبيح الثلاثة الفتية في الأتون (دانيال ٣: ٥٧ – ٨٨): “أيّها الفتيان المساوون عدد الثالوث باركوا الآب الإله الخالق وسبّحوا الكلمة الذي تنازل وحوّل النار إلى ندى وزيدوا رفعةً الروحَ الكليّ قدسه المانح الحياة للجميع على مدى الدهور” (في عيد رفع الصليب).
إنّه مثل تتويج لكلّ الجهاد والسباق والبلوغ إلى اليوم المبارك يوم الغلبة والتسبيح: “نسبّح ونبارك ونسجد للربّ. إنّ هذا اليوم المدعوّ المقدّس… إنّما هو عيد الأعياد وموسم المواسم…” (في عيد الفصح). “لتبارك الخليقة بأسرها الربّ ولتزده رفعة مدى الدهور” (في عيد الميلاد).
ثمّ إنّ هذه المرحلة تنبئ بقرب حلول الربّ وسكناه فينا بواسطة العذراء مريم “العلّيقة غير المحترقة” (كما جاء في كاطافاسيّا العنصرة) “إنّ مولد والدة الإله قد حفط الفتية الأطهار في الأتون سالمين إذ كان حينئذٍ مرسومًا وأمّا الآن فقد حصل مفعولًا فهو ينهض المسكونة بأسرها إلى الترتيل هاتفة: يا جميع أعمال الربّ سبّحوا الربّ وزيدوه رفعة مدى الدهور” (كاطافاسيّا السيّدة). فتأتي التسبحة التاسعة التالية تثبيتًا لذلك: “يا مَن هي أكرم من الشاروبيم…”.
الكاطافاسيّا التاسعة:
مخصّصة لوالدة الإله: “يا والدة الإله أنت الفردوس السرّيّ إذ إنّك أنبتِّ بغير فلاحة” (في عيد رفع الصليب). “إنّني أشاهد سرًّا عجيبًا مستغربًا المغارة سماءً والبتول عرشًا شاروبيميًّا” (في عيد الميلاد).
كلّ ما سبق كان يهيّئ مجيء المسيح ويتجّه نحوه. والآن الأمّ البتول “التي هي زهرة العهد القديم، نسبّح ابنها وإلهها المولود فيها”: “تعظّم نفسي الربّ وتبتهج روحي بالله مخلّصي” (لو ١: ٤٧ – ٥٥).
كذلك نحن في جهادنا الروحيّ كلّه إنّما ننتظر حضور الربّ يسوع إلينا. لقد جاهدنا بنعمته وقوّته والإيمان به، ولكنّه الآن يحضر شخصيًّا لينقذنا من آثامنا ويحلّ فينا بروحه القدّوس. فإنّه كما حلّ في بطن العذراء مريم يحلّ فينا بندى الروح (حسب قول القدّيس إسحق السريانيّ).
وهكذا نرى أنّ الكاطافاسيّات والأراميس قد رتَّبتها الكنيسة في صلاة السَحَر بإلهام الروح لتذكّرنا يوميًّا بهذه المسيرة: أين نحن منها، وتزيدنا فهمًا لما نحن فيه وكيف ينبغي أن نعيشه بعمق وبصورة سليمة.
علمًا بأنّ التسع المراحل، التي أتينا على ذكرها، كثيرًا ما تتداخل وتُراجَع… فتعود بنا إلى الوراء، فتزداد خبرتنا وتتعمّق… ولذا ترتّلها الكنيسة كلّها يوميًّا في الكاطافاسيّات أو في الأراميس.
فالجهاد مستمرّ ويتطلّب مزيدًا من الفهم الروحيّ واليقظة والأمانة مع الانفتاح الدائم لنعمة الروح… على أن تدعم كلَّ ذلك الفضيلةُ الأساسيّةُ التي هي الاتّضاع: “لأنّه نظر إلى تواضع أمته فها منذ الآن تطوّبني جميع الأجيال”…
المرجع : مجلّة النور، العدد السادس، ١٩٩٣.
[1] أراميس: مفردها أرمس أي لازمة. وفي الأعياد تسمّى كاطافاسيّات ومعناها النزول عن الكرسيّ عند ترتيلها.
[2] هي التسع تسابيح التي نتلوها في صلاة السحَر في أيّام الصوم الكبير (راجع كتاب السواعي الكبير).
[3] وعلى هذا المنوال “إنّ الرب المقتدر في الحروب قد كشف قعر اللجّة…” (في عيد الظهور الإلهيّ). و”إنّ عمق اليابسة المولّد اللجج قد اجتازت فيه الشمس قديمًا…” (عيد دخول السيّد إلى الهيكل).
[4] الخطوة الأولى في الحياة الرهبانيّة هي مغادرة العالم إلى الدير. لكن هناك مغادرات متنوِّعة سواء في الكهنوت أو في الحياة الروحيّة أو سواهما: عزم داخليّ حاسم على التحرّر من الخطيئة وحفظ وصايا الربّ باجتهاد والتماس ملكوته على ملكوت الأرض.
[5] من هنا “ثبّت كنيستك غير متزعزعة”… (في عيد رقاد السيّدة)، و”يا مَن رفع شأننا قدّوس أنت يا ربّ” (في عيد الميلاد).
[6] وعلى هذا المنوال: “… المانح السلامة لنفوسنا” (في عيد رفع الصليب)… و”… هذا النور الذي لا يعلوه مساء وسيّد السلامة” (في عهد دخول السيِّد إلى الهيكل).