كلمة الأمين العام رينه أنطون في المؤتمر الحركي الحادي والخمسين “الالكترونيّ”

mjoa Thursday December 3, 2020 700

٢٠٢٠/١١/٢٨

أيها الأخوة
سلام بالربّ الذي “انسكبت محبته في قلوبنا بالروح القدس المُعطى لنا”، وبها صرنا في “رجاء لا يُخزي رغم كل الضيقات”. (رومية ٥: ٣ -٥.
ينعقد مؤتمرنا هذا العام، رغم هذه الضيقات، بشكلٍ يتآلف وأوضاعنا اليوم ومعجونًا بالهواجس التي تطرحها. وقد شئنا انعقاده رغمَ كلّ الظروف، وباصرارٍ ليس مردّه الى ضرورات ادارية وانما لتأكيد أنّ ما يُصيبنا من شدائد ويحوطنا من صعوبات، مهما بلغَت قوّته، يزيدنا حاجةً إلى الأخوّة الجامعة في المسيح، ويدفعنا إلى مزيد من التوثّب إليها في مداها الانطاكيّ. هذا التوثّب هو هواءُ الحركة وغذاؤها وغِناها، والذي لنا فيه، في الشدائد، الفرح في الربّ والعزاء. لقاءاتُنا هي المصلُ الذي يمدّنا بالمحبّة ويُغني فينا مواهب الروح اللذَين لا حياة للحركة ولا استقامة لمسيرتها دونهما.
نُعنى في هذا المؤتمر، اليوم، بفترةٍ تقلّ عن التسعة أشهر بدأت في اذار. عناوين هذه الفترة تُختَصر في بلدينا سوريا ولبنان بالوباء والأزمات الاقتصادية المؤلمة، مُضافًا إليهما في لبنان الانفجار الغير مسبوق في بيروت. فنشكر الله، بدايةً، على سلامة كلّ من سلم من هذه الشدائد، وخاصة مَن أصيب وشُفي، وندعو لكلّ الضحايا بالرحمة، ونسأل الربّ أن يتلطّف بعالمنا ويُبعِد عنه الشرور. وأجدها مناسبة لأتوّقف أمام موضوع الوباء (الكورونا) وموقف كنيستنا منه، المُعبَّر عنه بما صدر عن غبطة البطريرك يوحنا العاشر والمجمع المقدس من توجيهات، وهو الموقف الذي تحلّى بانحيازٍ الى العلمِ المُختَصّ وبما يحرّر إيماننا ممّا يُلصِقه فيه البعض من أوهام، ويشدّدنا بالرجاء بالربّ، مُحيِّيًا التزام الإخوة في كافة المراكز به وآملاً التقيّد الدائم بتوجيهات الكنيسة والتزام الاجراءات العامة التي تدعونا إليها السلطات المختصّة.
أيها الاخوة،
لأجل استغلال الوقت بشكل نافع لن أسرد الخطوات التنفيذية في الأصعدة الحركية المختلفة. فكلُها أُدرجت، بشكلٍ وبآخر، في مواقعنا الاعلامية في حينه، وتضمَّن خلاصَتَها تقرير امانة السر التنفيذية لهذه الفترة والذي وُزّع عليكم. وبسبب خصوصية هذا المؤتمر (وقتًا وصيغةً) سأكتفي بما أضافَته هذه الفترة إلى حياتنا الحركيّة وفاقَمته من تحدّيات. وأبدأ من تقدير الجهود الكبيرة التي بذلها رؤساء المراكز والمسؤولون في الأمانة العامة، كلّ في نطاق مسؤوليته، في هذه الأوضاع الاستثنائية. وأنحني لما بادرَت إليه شبيبتنا الحركية من “”ثورة” تفاعل ومشارَكة في مسح الخراب والجراح بُعيدَ لحظة انفجار بيروت. وهي المبادرة التي لفتَتنا وقادَتنا الى ورشة الخدمة التي فتحناها بهذا الشأن، والتي كانَ قد سبقها توجّه للإخوة في سوريا، في أكثر من محلة وصعيد. ولعلّ حماس الشباب الذي شهدناه لهكذا مبادرات، كالتي شهدناها في بيروت، يطرح علينا بعض التساؤل عن أصعدةٍ جديدة لحضورنا الاجتماعي والمجتمعي نُدعى للتفكير بها.

أيها الأخوة، بداية هذه الفترة شاركتكم في خطة أولت الأولوية لشأنَين: الوحدة، وهي الهمّ الدائم، وصون الحركة ممّا قد يُبعدها عن هويتها ويغرّبها عن أهدافها وغاية وجودها. والخطر الأخير هو قائم ومُقلقٌ دائماً وطالما أن السنين تتراكم في عمر الحركة ونواجه في يومياتنا ما هو جديد في اهتماماتنا. وانطلاقًا من يقيني أن الأصالة والوحدة الحركية شأنان لا ينفصلان، وأنَّ الأصالة انما هي في التحلّي بالهويّة ووعي الأهداف والغايات التي شاءها المؤسّسون، والتزامَها، ارتأيت من ضمن التوجّه تكليف الامناء العامين المساعدين بحمل هذا الهاجس، بشقيّه، إلى المراكز وفق رؤية مُتّفق عليها معهم. ورغم ان صعوبة التنقّل واللقاءات المباشرة لم تُفسحا المجال بعد للانطلاق بالخطوة، عمليًا وكما يجب، والحكم على نجاحها أو عدمه، فأنَّ هذا الهاجس ترسّخ لديّ بعدَ ما عايشته هذه الأشهر.
في العام ٢٠١٥، صارحتكم بأنَّ لا يكفي أن نعبّر عن وحدتنا بالشكل والنية، وإنما بمفاهيم واحدة لعناوين أساسية ورؤى مُشتركة لها، وتساءلت أمامكم عمّا إذا كنّا نحدّد أولوياتنا بموجب تعريفنا أنّ الحركة “هي ورشة لبناء الشخص والجماعة في يسوع المسيح بغاية أن تصل بهما الى امتلاك الرؤية الايمانية العميقة التي بها ينهضون ويساهمون في تعميد مجتمعهم ونهضة كنيسة المسيح”.
اليوم، باختصار، أرسَخ في هذا التساؤل ويزيد القلق لجهته، بعدما أضيفَت أسباب تدفع الى ذلك غير تلك التي تعود لتأثّر أولوياتنا بمحلّياتنا وانشغالنا بالأشكال المؤسّساتيّة للحركة. ومن هذه الأسباب سأتوقف عند واحد وهو الأزمات والانهيارات الاقتصادية والمجتمعية.
باختصار، حدّة هذه الأزمات دفعتنا في السنوات السابقة، على صعيد الأمانة العامة وبعض المراكز، الى التوجّه بشكل كثيف نحوَ الشهادة على صعيد العمل الاجتماعي منغمسين في بُعده المؤسّساتي ومتطلباته، وساعين خلف جهات مانحة لدعمه. هذا ما جعل هذا العمل، حيث هو قائم، يحتلّ مساحة كبرى من اهتمامنا ويشغل الكثير من أوقاتنا. اشكالية هذا الشأن تنبع، برأيي، ممّا أمكن أن تعكسه هذه الحال من مخاطر على أصالةِ الحركة. فكم يسمح لنا هذا التوجّه، إن استمرَّ ونما، بالاستمرار في الحفاظ على التربية النهضوية، بركيزتها الارشادية، كهمّ أولويّ أساسيّ في شهادة الحركة. وألا يجعلنا هذا في خطر ان نزيدَ الحدّة المؤسساتية في الحركة حدّةً، بدل التخفيف منها، وأن ندنو من أن نكون مؤسّسة مجتمعية وليس تلك الورشة؟ كما، ورغم أننا نسعى الى توضيح وتنظيم وضبط متطلبات وآليات وقواعد التعاطي مع المؤسّسات المانحة، عبر لجنةٍ تنهي عملها اليوم وستبتّ الأمانة العامة في اقتراحاتها خلال اجتماعها الأول بعد المؤتمر، ألا يُشكلّ هذا التوجّه خطرًا على استقامة رؤيتنا للعمل الاجتماعي إن أمسى ركيزته؟ بمعنى ألا يعطّل هذا وجهَه الرعائي وبُعدَ الالتزام الشخصيّ لدى الحركيين بالعطاء، البُعد الذي وجب أن يتجلّى كثمرة هامّة للتربية النهضوية، ثمرة محبّة “مُكلفةٍ” للمحتاجين؟ وكيف لنا أن نصون الهويّة إزاء هذه المخاطر؟ يقيني أننا نحتاج إجابة مبدئية جريئة صريحة تعكُس القناعات وتُقرّ بالواقع والمخاطر، بحقيقتهما، دون تجميل أو تشويه متذكّرين أن فعل المحبة تجاه المحتاجين إنما يُدعى كلّ منا اليه، بشكل شخصيّ، وكأفق شهاديّ لايمانه.
حدّة هذه الأزمات ذاتها، أيقظت لدينا ما سبق وشغل الحركة في فترة تأزّمات وتمخضّات سياسية واجتماعية كُبرى سابقة. سنة 1970 أصدرت الحركة وثيقة “التزام شؤون الأرض” بهدف أن توضح للحركيين ما يدفعنا إليه الانجيل في ظلّ هذه التمخَضات من دور شخصيّ شهادي، وتحثّهم على التزام هذا الدور. وعلى ان يكونوا، في شهادتهم، راسخين في هويّتهم الايمانية ومتشبّثين بهداية الانجيل لهم، والانجيل فقط.
ليسَ من شكّ أن هذه الوثيقة لم تتخذ مكانتها وما تستحقّه من ترجمة في ضمير الحركة، جماعةً وأفرادًا. والمجال ليس متاحًا هنا لسرد ما يمكن أن تكون الأسباب. لكنني واثق أن أحد الأسباب الأساسية هو أن القناعات الفكرية حولَ الوثيقة ومضامينها ليست واحدة، وأنّ الحوار، ما قبل الوثيقة وما بعدها، لم يكن بالقدر والوضوح المطلوبين لجعلها راسخة في الضمير.
اليوم بعد نصف قرن بالتحديد يتضاعف، وبمرّات، حجم التمخَضات عن تلك التي أحاطت بتلك الفترة. هذا من جهة. ومن جهة أخرى ولّدت هذه التمخّضات آفاقًا لما انطلقت منه الوثيقة تُضاف الى ما ذكرَته من آفاقٍ ثلاث، كأمثلة. هذه الآفاق نستشفّها ممّا واجَهنا خلال عشرات السنين من تحديات حياتية يومية منها مثالاً، الحرية، الاستهلاك، العنف، الأصولية، الظلم، الفقر، الفساد، البنى الجائرة، البيئة، حقوق الانسان، العولمة، الاعلام، التواصل الاجتماعي الخ…) وأضاءت عليها كتابات العديد من الأخوة الحركيين. هذه الكتابات يجمع بعضَ خلاصاتها الملفُ الذي أرفقه لكم، وأودعني إياه الأخ ريمون رزق مشكورًا.
ما يُواجهنا اليوم بهذا الشأن يتفرّع على ثلاث مستويات:
الأول، وهو كيف نكون على قناعةٍ واحدة مُستمَدّة من تعليمنا، وهي حتمية اهتمامنا بهذا البُعد انطلاقَا من كون كلّ ما خصّ الانسان والحياة والخلق إنما التزامه هو من صلب هويتنا، وجزء من صلاتنا لأنه خصّ الانجيل وارتبط بدعوته لنا الى أن نجعل ملامح ملكوت الربّ، حيث “العدل والحرية والفرح ولا وجع ولا حزن”… تسود في الأرض.
الثاني، وهو كيف نربّي ونتعهد بعضنا البعض ليطلّ كلّ منا بهذا البُعد معمِّدًا له بالصلاة، متحليًا بالتحرّر من الحقد وتقبّل الرأي والصوت الآخر، ومتجليًا فيه صدق الموقف وشفافيته الشهادية وشخوصه إلى ما هو أسمى من كلّ تطلّع شخصيّ أو حزبيّ ومصلحة. أذكر هذا خصوصًا بعد ما نشهده من امتداد لروح التحزّب، والاصطفاف السياسيّ الحاد، بين شريحة من الأخوة في لبنان.
الثالث، كيف للحركة ان تكون “هاديةً لأبنائها وضابطة”. بمعنى كيف توفّق بين تشديدها على البُعد الشخصي لهذا الالتزام الشهاديّ، ولكلّ التزام شهاديّ تدعو أبناءها إليه، وبين مسؤوليتها في أن تحفظَ أبناءها في استقامة شهاتهم هذه وأمانتها لفكر الانجيل.
اليوم بتنا نحتاج هذا الحوار الصريح والعميق رغم اختلاف الأوضاع والبُنى التي تحوط بحركتنا حيث تنتشر، ودون تجاهل خصوصيات الأوضاع هنا أو هناك، لنُنعش الأسس التي رسمتها وثيقة التزام شؤون الأرض ونطلقها من الادراج متحصّنين بها لنقل المسيح الى عالمنا. لقد بدأت لجنة من بعض الأخوة باكورة حوارٍ، صعبٍ، على هذا الصعيد. ولربما مقاربة هذا الشأن تحتاج تطوير هذا الاطار في حال توافقنا على محورية هذا العنوان في ما يتحدّانا اليوم.

أيها الاحبة، من المشروع أن تطرح علينا فترة ثمانية وسبعين عامًا من عمر الحركة الكثير من التساؤلات حول مدى وحدتنا وأمانة حضورنا اليوم لما شاءه الله للحركة من حضور. ومن غير المشروع ألا نُقرّ بهذا ونعي أنّ هذه الأمانة، أو تلك الوحدة، ليست آلية. هي تولد من المخاضات المستمرة، وتثبت من تغذّيها بالمُصارحةِ والمحاوَرة. هذه المصارحة هي ما يُخرجنا من نفق التشرذم “الفكري” الذي يهدّدنا، وتربّينا على سعة الآفاق وفضيلة الاصغاء والثقة بالأخ والبحث عن ومضات الحقيقة في كلّ طرح.
على هذا الرجاء أدعكم في عهدة ربّنا يسوع المسيح والسلام.

46 Shares
46 Shares
Tweet
Share46