هرطقة مكدونيوس أو ألوهيّة الروح القدس

مرسيل مرقص Wednesday February 3, 2021 717

مرسيل مرقص

دير مار جرجس الحرف

لا بدّ أوّلًا من لمحة تاريخيّة عن هذه الهرطقة، نتبيّن بعدها فحواها وحججها، ثمّ ننتقل إلى الردّ عليها موضحين ألوهيّة الروح القدس بالاستناد إلى الكتاب المقدّس ثمّ إلى التقليد الكنسيّ والآباء القدّيسين ثمّ إلى الليتورجيا. وأخيرًا نرى أهمّيّة الروح القدس في حياتنا المسيحيّة.

١ – لمحة تاريخيّة عن الهرطقة

آ – مقدّمات الهرطقة:

دستور الايمان الذي وضعه المجمع المسكونيّ الأوّل المنعقد في نيقيا العام ٣٢٥ توقّف عند عبارة «وبالروح القدس»، فنتج من ذلك عدم وضوح تامّ. كان جميع المسيحيّين يستعملون كلمة «ثالوث»، كما أنّ المعموديّة كانت تعطى باسم الآب والابن والروح القدس، وكان مفهوم هذه العبارة التساوي بين الأقانيم الثلاثة. لكن كان ينبغي أن يعلن ذلك بكلّ وضوح لمنع أيّ التباس أو انحراف في الموضوع. لم تكن الهرطقات بعد قد تناولت الروح القدس مباشرة. هرطقة آريوس التي تنكر ألوهيّة الابن والتي ظهرت نحو عام ٣١٨ – ٣٢٣ كانت تتضمّن إنكار ألوهيّة الروح القدس أيضًا. لكنّها انصبّت أوّل الأمر على الابن وحده.

الاهتمام بأقنوم الابن وبحث لاهوت الابن تفصيلًا ظهرا في الكنيسة منذ القرن الثاني. أمّا الاهتمام بأقنوم الروح القدس وبمهّمته وعمله فلم يظهر إلّا في النصف الأوّل من القرن الرابع وذلك بتأثير الحياة النسكيّة التي انتشرت في مطلع القرن الرابع. ويبدو أنّ الهرطقة الآريوسيّة وتفرّعاتها تناولت موضوع الروح القدس بالإضافة إلى الابن نحو ٣٥٦ أو بعده بقليل. وما يلفت النظر أنّه كلّما كانت العقيدة الأرثوذكسيّة المثبتّة في مجمع نيقيا تسير نحو الغلبة في ما يتعلّق بالابن كان المعارضون يحاولون تثبيت أنفسهم كما في معقل دفاعيّ أخير في عقيدة تتحفّظ على الأقلّ بالنسبة إلى الروح القدس وتنكر عليه بأكثر أو أقلّ قوّة الطبيعة الإلهيّة. وكان في ذلك الحين قد أكّد على أزليّة الروح القدس وعدم كونه مخلوقًا كلّ من غريغوريوسThaumaturge  وأوريجنوس وأثناسيوس الإسكندريّ وباسيليوس الكبير. لكن يبدو أنّه حين انتشرت وقبلت فكرة أقنوم الروح القدس الإلهيّ كثيرون اعتبروا من الأسهل اعتبار الروح القدس خليقة ذات كرامة وسلطان أو كائنًا وسطًا لا إلهًا ولا خليقة أو آثروا السكوت وعدم خوض الموضوع. فهذه الجماعات الثلاث ممثّلة غالبًا في ما يسمّونه «الهرطقة المكدونيّة».

ب – مكدونيوس:

سمّيت الهرطقة المكدونيّة باسم مكدونيوس وهو أحد أساقفة القسطنطينيّة، انتخب أسقفًا عليها العام ٣٤٢. ويقول ثاوذوريتوس في «التاريخ الكنسيّ» إنّ الآريوسيّين رفعوا مكدونيوس إلى كرسيّ القسطنطينيّة ظانّين أنّه منهم لأنّه كان يجدّف مثلهم على الروح القدس، بقوله إنّه مخلوق ولكنّهم طردوه عاجلًا لأنّه لم يكن يحتمل إنكار لاهوت الابن وعزله الآريوسيّون نهائيًّا العام ٣٦٠. ويبدو أهّ لم يكن له دور كبير في الهرطقة التي تحمل اسمه. فليس هناك أيّ أثر لتسمية محاربي الروح القدس باسمه قبل العام ٣٨٠ بل كانوا يُعرفون باسم  Pneumatomaques أي محاربي لاهوت الروح القدس. ولا نعرف مدى علاقته ومسؤوليّته بالهرطقة، ويقول البعض إنّه على أثر عزل مكدونيوس من كرسيّ القسطنطينيّة رفض قسم من مسيحيّي القسطنطينيّة الاعتراف بخلفه أفذوكيوس، فأطلق عليهم اسم المكدونيّين، ثمّ امتدّ هذا الاسم لأصحاب الهرطقة إذ كانوا بأغلبهم موجودين في تلك المنطقة.

ج – التروبيك Les Tropiques

وكانت هناك فئة أخرى تحارب لاهوت الروح القدس. هؤلاء ظهروا في مصر. ويبدو أنّ حركتهم مصريّة محلّيّة. كانوا أوّلًا من محاربي عقيدة نيقيا المتعلّقة بلاهوت الابن ثمّ انفصلوا عنهم العام ٣٥٨ إلّا أنّهم بقوا ينكرون لاهوت الروح القدس. ولم يكونوا كثيرين ولا ناجحين. وعمل أثناسيوس الكبير بطريرك الإسكندريّة على القضاء عليهم، فقام مجمع محلّيّ في الإسكندريّة العام ٣٦٢ وحكم عليهم محرمًا الذين يقولون بأن الروح القدس مخلوق ومفصول عن جوهر المسيح، وقد سمّاهم أثناسيوس «التروبيك» في رسائله إلى سيرابيون أسقف قويس نسبة إلى كلمة يونانيّة تعني اللعب على الألفاظ وتفسير الآيات بغير موضعها. ولولا رسائل أثناسيوس المذكورة، لما كان اسمهم وصل إلينا.

د – ما آلت إليه الهرطقة:

أمّا في آسيا الصغرى فكانت الحالة حرجة، بخاصّة بين ٣٧٣ و٣٨٠ إذ كان المكدونيّون كثيرين ونشيطين. وكان على الآباء المدافعين عن لاهوت الروح القدس أمثال باسيليوس الكبير وغريغوريوس النازينزيّ أن يخوضوا الموضوع بكلّ حيطة إذ لم يكن بعد لدى أكثريّة المؤمنين رأي واضح محدّد حول لاهوت الروح القدس. وكان المكدونيّون يحتجّون بأنّه ليس في الكتاب المقدّس آية واحدة تسمّي الروح القدس بلفظة إله بدون شرط. وكان الأباطرة البيزنطيّون يتدخّلون في الأمر بشكل سافر وعنيف ومتناقض. ويعود الفضل الأوّل في شرح عقيدة الروح القدس إلى القدّيس باسيليوس الكبير في كتابه «عن الروح القدس» الذي كتبه العام ٣٧٥ واستند فيه إلى كثير من حجج القدّيس أثناسيوس الكبير في رسائله إلى سيرابيون. إلى أن انعقد في القسطنطينيّة المجمع المسكونيّ الثاني العام ٣٨١ وثبّت عقيدة لاهوت الروح القدس وحرم المهرطقين.

٢– فحوى الهرطقة ضدّ الروح القدس

آ – بصورة عامّة:

الهرطقة بصورة عامّة إنكار للاهوت الروح القدس. ولكن ليست هنالك عقيدة موحّدة واضحة، وذلك لكثرة التفرّعات الهرطقيّة وتطوّرها في الزمن. غير أنّها تستند إلى بعض الحجج المشتركة بين الكلّ. ويمكن القول إنّ عقيدة التروبيك أوضح من عقيدة المكدونيّين التي مرّت في مراحل متناقضة.

ب – التروبيك:

يقول التروبيك إنّ الروح القدس ليس ٳلهًا كالآب والابن وليس من جوهر وطبيعة الآب والابن وليس شبيهًا بالابن، لكنّه من الكائنات التي أوجدت من العدم. إنّه خليقة. هو ملاك بين الملائكة، وإن كان أرفع بدون شكّ وأكثر كمالًا من بقيّة الملائكة ولكنّه لا يختلف عنهم إلّا في الدرجة، وهو مثلهم أحد «الأرواح الخادمة» المذكورة في الكتاب المقدّس.

ج –  المكدونيّون:

أمّا المكدونيّون فيعتقدون بأنّ الروح القدس «مشابه» للآب والابن ولكن ليس في جوهرهما وطبيعتهما. إنّهم يرفضون إدخال الروح القدس في ألوهيّة الثالوث الأقدس ويؤكّدون أنّ الروح أدنى من الآب والابن في الكرامة، وأنّه خادم ويطبّق عليه كلّ ما يقال عن الملائكة القدّيسين. تعليم المكدونيّين متردّد وغامض ومتناقض: فالروح لا يُدعى ربًّا ولا يمجّد مع الآب وليس هو قوّة الله لأنّه لا يخلق ولا يعطي الحياة وهو خادم مثل الملائكة، ومع ذلك لا يُعتبر ملاكًا، ولا خليقة من أيّ نوع، وليس هو «غير شبيه» بالآب والابن. قال أفستاثيوس أحدهم «لا اسمّي الروح القدس باسم الله ولا أجرؤ على تسميته خليقة». يستند المقدونيّون في هرطقتهم إلى عبارة المعموديّة التي جاء فيها ترتيب الروح القدس ثالثًا، بعد الآب والابن.. وعلى أنّ الابن هو الحبيب الوحيد للآب وعلى سكوت الكتاب المقدّس عن ألوهيّة الروح القدس..

د – النصوص المشتركة:

أمّا الآيات المشتركة التي يحتجّ بها التروبيك والمكدونيّون فهي الآتية:

١ ) عاموس ٤: ١٣: « فإنّه هوذا الذي صنع الجبال وخلق «الروح» وأخبر الإنسان ما هو فكره، الذي جعل الفجر ظلامًا ويمشي على مشارف الأرض، يهوه إله الجنود اسمه». (الكلمة اليونانيّة تعني «روح» أو «ريح» حسب معنى الجملة..

٢) ثيموثاوس الأولى ٥: ٢١: «أناشدك أمام الله والربّ يسوع المسيح والملائكة المختارين أن تحفظ هذا بدون غرض ولا تعمل شيئًا بمحاباة».

٣ – زكريّا ١: ٩ و١: ٧: « وكانت كلمة الربّ إلى زكريّا… فقلت يا سيّدي ما هؤلاء، فقال لي الملاك الذي كلّمني أنا أريك ما هؤلاء» ( أو زكريّا ٤: ٥ – ٦، وهي بالمعنى عينه).

ه – عدم فهمهم حقيقة المشكلة اللاهوتيّة

ويمكن القول هنا كملاحظة عامّة إنّ الهراطقة ضدّ الروح القدس لم يتفهّموا حقيقة القضيّة، وإنّ العامل الأصليّ في محاربتهم لاهوت الروح القدس لم يكن سوى تجنّب الوضوح وتجنّب الدقّة في تحديد التعليم عن الروح القدس ولذلك لم يجابهوا المشكلة وتاليًا لم يقدّموا لها جوابًا حقًّا. فإذا لم يكن الروح القدس إلهًا فباطلة حياتنا في المسيح وباطلة قداستنا وقد وعدنا المسيح بها قائلًا: «خير لكم أن أنطلق…». كما أنّ إيماننا يكون باطلًا لو لم يقم المسيح أو لم يكن الإله الابن.

٣ – ألوهيّة الروح القدس في الكتاب المقدّس.

أ – ملاحظة عامّة:

لا بدّ من القول إنّ الكتاب المقدّس ليس صريحًا كلّ الصراحة، وليس واضحًا كلّ الوضوح بالنسبة إلى لاهوت الروح القدس. ويجدر التنبيه هنا إلى عنصر الزمان في الإعلان الإلهيّ. إنّ الله تعالى لم يعلن ذاته للبشر دفعة واحدة بل على مراحل. العهد القديم أعلن لنا الله الآب بوضوح وأشار إلى الابن، والعهد الجديد أظهر الٳله الابن ولمّح تلميحًا عن لاهوت الروح القدس. والآن فالروح القدس يحيا في الكنيسة، في جماعة القدّيسين. ثمّ إنّ الإعلان «شخصيّ» أكثر ما هو «كتابيّ». ليس الكتاب الذي نزل من السماء إنّما المسيح الإله الكلمة بذاته، حتّى «لمسته أيدينا»، وكذلك الروح القدس.

ب – الآيات الكتابيّة:

عديدة هي آيات الكتاب التي يُستنتج منها لاهوت الروح القدس أو صفاته الإلهيّة:

١) أعمال الرسل ٥: ٣ – ٤: « لماذا ملأ الشيطان قلبك (الكلام موجّه إلى حنانيا حتّى تكذب على الروح القدس. إنّك لم تكذب على الناس بل على الله».

٢) مقابلة أعمال ٢٨: ٢٥: «لأنّه حسنًا تكلّم الروح القدس على لسان أشعياء قائلًا: انطلق إلى هذا الشعب» مع أشعياء ٦: ٩ حيث المتكلّم هو السيّد الربّ إله الصباؤوت وربّ الجنود: «اذهب وقل لهذا الشعب…».

٣) مقابلة كورنثوس الأولى ٣: ١٦: «أما تعلمون أنّكم هيكل الله وروح الله يسكن فيكم».

مع كورنثوس الأولى ٦: ١٩: «أم لستم تعلمون أنّ جسدكم هو هيكل للروح القدس الذي فيكم الذي لكم من الله».

٤) ١ كورنثوس ٢: ١٠ و ١١: «إنّ الروح يفحص كلّ شيء حتّى أعماق الله… لا يعلم أحد أمور الله إلّا روح الله».

ويوحنّا ١٦: ١٣: «وأمّا متى جاء ذاك روح الحقّ فهو يرشدكم إلى جميع الحقّ». فالروح القدس عالم بكلّ شيء.

٥) مزمور ٣٢: ٦: « بكلمة الربّ تشدّدت السموات وبروح فيه كلّ قوّاتها» فالروح القدس قادر على كلّ شيء.

٦) رومية ٨: ١١: «إن كان روح الذي أقام يسوع من الأموات ساكنًا فيكم، فالذي أقام المسيح من الأموات سيُحيي أجسادكم المائتة أيضًا بروحه الساكن فيكم». الروح القدس مُحيي.

٧) حكمة ١: ٧: «روح الربّ ملأ أقطار الأرض»: إنّه حاضر في كلّ مكان.

٨) بطرس الثانية ١: ٢١: «بل تكلّم أناس الله القدّيسون مسوقين من الروح القدس».

وبطرس الأولى ١: ١١: «الذين تنبّأوا بالنعمة لأجلكم باحثين أيّ وقت أو ما الوقت الذي كان يدلّ عليه روح المسيح الذي فيهم»: إنّه مُلهم الأنبياء.

٩) مزمور ١٠٣: ٣٠: «ترسل روحك فيُخلقون». الروح القدس خالق.

١٠) متى ١٢: ٢٨: «بروح الله أُخرج الشياطين»: هو صانع العجائب.

١١) ١ كورنثوس ٦: ١١: «لكن اغتسلتم بل تقدّستم بل تبرّرتم باسم الربّ يسوع وبروح إلهنا»: بالروح القدس يتمّ الميلاد الثاني ومغفرة الخطايا.

١٢ ) لوقا ١: ٣٥: «الروح القدس يحلّ عليك وقوّة العليّ تظلّلك»: به صار الحبل بيسوع وهو فاعل النعمة.

ج – الردّ على حجج الآيات المشتركة

تولى هذا الأمر الآباء القدّيسون الذين حاربوا هرطقة مكدونيوس والتروبيك وتوسّعوا في ذلك وبخاصّة القدّيس أثناسيوس الكبير في رسائله الأربع إلى سيرابيون، والقدّيس باسيليوس الكبير في مؤلّفه عن الروح القدس وقد استند فيه كثيرًا إلى أثناسيوس وسنورد في ما يلي بعض هذا التفنيد:

١ – عاموس ٤: ١٣: «هوذا الذي صنع الجبال وخلق ( الروح )…». الكلمة في الأصل اليونانيّ تعني «روح» أو «ريح» بحسب معنى الجملة. فيجيب أثناسيوس بأنّ الروح القدس لا يُسمّى في الكتاب «روح» فقط بل روح الله أو روح الآب أو روح المسيح أو «روحي» أو «من قِبلي» (أي مُعطى من قبلي) أو من الابن أو الروح القدس، أو المعزّي، روح الحقّ… وفي الآيات التي ورد فيها «الروح» على حِدة فإنّه يعني به بكلّ وضوح وبدون أيّ مجال للالتباس، الروح القدس. مثلًا: غلاطية ٣: ٢ «أريد أن أتعلّم منكم هذا فقط أبأعمال الناموس أخذتم الروح أم بخير الإيمان». وتيسالونيكي الأولى ٥: ١٩: «لا تطفئوا الروح». ولوقا ٤: ١: « أمّا يسوع فرجع من الأردنّ ممتلئًا من الروح القدس وكان يقتاد بالروح في البرّيّة». ومتّى ٤: ١: «ثمّ أصعد يسوع إلى البرّيّة من الروح ليجرَّب من إبليس». – أمّا الآيات التي ذكر فيها الروح القدس بشكل صريح فيعدّد أثناسيوس منها ٥٣ آية: تكوين ١: ٢: «وكان روح الله يرفّ على المياه». قضاة ٣: ١٠ «فكان عليه روح الربّ وقضى لإسرائيل (عثينيئيل)».

مزمور ٥٠: «وروحك القدّوس لا تنزعه مني». يوئيل ٢: ٢٨ «ويكون بعد ذلك أنّي أسكب من روحي على كلّ بشر». لوقا ٣: ٢٢ «ونزل عليه الروح القدس بهيئة جسميّة مثل حمامة». متّى ١٠: ٢٠: «لأن لستم أنتم المُتكلّمين بل روح أبيكم الذي يتكلّم فيكم». يوحنّا ١٥: ٢٦: «ومتى جاء المعزّي الذي أرسله أنا إليكم من الآب روح الحق الذي من عند الآب ينبثق».. هذا وقد وردت أيضًا في الكتاب المقدّس كلمة روح بمعنى آخر واضح كلّ الوضوح: كورنثوس الأولى ٢: ١١: «لأن مَن مِن الناس يعرف أمور الإنسان إلّا روح الإنسان الذي فيه». وكورنثوس الثانية ٣: ٦ «الحرف يُميت أمّا الروح فيُحيي». وتيسالونيكي الأولى ٥: ٢٣: «ولتحفظ روحكم ونفسكم وجسدكم كاملة بلا لوم عند مجيء ربّنا يسوع المسيح». ويتكلّم الكتاب أيضًا عن «الروح» بمعنى ريح ورياح: «وأجاز الله ريحًا على الأرض فهدأت المياه (تكوين ٨: ١). فأرسل الربّ ريحًا شديدة إلى البحر فحدث نوء عظيم في البحر حتّى كادت السفينة تنكسر» (يونان ١: ٤). و«أمر فأهاج ريحًا عاصفة فرفعت أمواجه» (مزمور ١٠٧: ٢٥)… ويستنتج أثناسيوس الكبير من كلّ ذلك أنّ كلمة «روح» أو ريح اليونانيّة يجب أن تُفهم في عاموس ٤: ١٧ كما هي أي «ريح» «وخلق الريح»… هذا وإنّ هذه الآتية لا تبرهن شيئًا كثيرًا بالنسبة إلى المكدونيّين إذ إنّهم لا يعتبرون الروح القدس «مخلوقًا»…

٢ – ثيموثاوس الأولى ٥: ٢١: «أُناشدك أمام الله الربّ يسوع والملائكة المختارين…». ويستنتج التروبيك من هذه الآية أنّ الروح القدس يُحسب بين الملائكة، أمّا المكدونيّون فيوردونها بغية الإضعاف من قيمة آية متّى ٢٨: ١٩ مثلًا: «وعمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس» بحجة أنّ الملائكة أيضًا، مثل الروح القدس، يأتي ذكرهم مع الله (لكن المكدونيّين لا يعلّقون كبير أهمّيّة على هذه الحجّة) ويجيب أثناسيوس عليهم: أين سُمّيَ الروح القدس في الكتاب المقدّس ملاكًا؟ مع أنّ له تسميات عديدة متنوّعة. وهو لم يسمّ لا ملاكًا ولا رئيس ملائكة ولا شاروبيم ولا ساروفيم…  ثمّ لمّا عرض الله على موسى إخراج إسرائيل من أرض مصر: «أنا أرسل أمامك ملاكًا..» (خروج ٣٣: ٢)، رفض موسى وكان يعرف أنّ الملائكة خلائق، أمّا الروح القدس فمتّحد مع الله وأجاب: «إن لم يسر روحك فلا تُصعدنا من ههنا» (خروج ٣٣: ١٥) وكان يخشى أن يتعلق الشعب بالملاك ويخدم الخليقة دون الخالق، فأجاب الله طلب موسى قائلًا «هذا الأمر أيضًا الذي تكلّمت عنه أفعله لأنّك وجدت نعمة في عينيّ» (خروج ٣٣: ١٧). وكان أن حقّق الله وعده وسار نفسه مع شعبه كما يتّضح من الكتاب: أشعياء ٦٣: ١١ – ١٢: «ثمّ ذكر الأيّام القديمة موسى وشعبه، أين الذي أصعدهم من البحر مع راعي غنمه، أين الذي جعل في وسطهم روح قدسه الذي سيّر ليمين موسى ذراع مجده الذي شقّ المياه قدّامهم… الذي سيّرهم  في اللجج.. روح الربّ أراحهم. هكذا قدت شعبك لتصنع لنفسك اسم مجد». ولاويّين ١١: ٤٥: «إنّي أنا الربّ الذي أُصعدكم من أرض مصر». وتثنية الاشتراع ١: ٣٠ و٣٣: «الربّ إلهكم السائر أمامكم في نار ليلًا ليُريكم الطريق التي تسيرون فيها وفي سحاب نهارًا». ويتابع القدّيس أثناسيوس: أمّا لماذا ذكر بولس الرسول الملائكة بعد المسيح ولم يذكر الروح القدس، فهذه حجة واهية إذ لا نستطيع أن نفرض على الرسول صيغة معيّنة، ولماذا لم يذكر رؤساء الملائكة أو الشاروبيم مثلًا؟ أيعني ذلك شيئًا.. ويطيل أثناسيوس الشرح هنا. هذا وقد ورد أحيانًا في الكتاب ذكر الربّ وروحه من دون ذكر المسيح معهما: أشعياء ٤٨: ١٦: «والآن السيّد الربّ أرسلني وروحه». وحجّي ٢: ٤ – ٥: « فالآن تشدّد يا زربابل يقول الربّ… واعلموا فإنّي معكم يقول ربّ الجنود.. وروحي قائم في وسطكم لا تخافوا». فهل يعني ذلك أنّ المسيح غير موجود أو أنّه لا يعدّ مع الآب والروح؟ ثمّ جاء في لوقا ١٨: ٢: «كان في مدينة قاض لا يخاف الله ولا يهاب إنسانًا…». وجاء في خروج ١٤: ٣١: «فخاف الشعب الربّ وآمنوا بالربّ وبعبده موسى». فهل نعدّ موسى مع الربّ أو نحسبه بعد الآب لا الابن بعد الآب؟.. وأضاف باسيليوس على جواب أثناسيوس أنّ بولس يدعو الملائكة كشهود لأعمال تيموثاوس أمام الربّ وأنّ دعوة عبد للشهادة أمام قاضٍ، لا سيّما إذا كان قاضيًا رحيمًا مثل الله، لا تجعل من العبد حرًّا، وأنّ الكتاب لا يسمّي الروح القدس مثل الملائكة، بل يذكره كربّ للحياة بينما يذكر الملائكة كرفقة عبيد وشهود أمينين للحقّ.

٣ – زكريّا ١: ٩ او ٤: ٥ – ٦

«فقال لي الملاك الذي كلّمني…» ويستند المكدونيّون إلى هذه الآية ليؤكّدوا على أنّ الملاك يسلّم رسالة إلهيّة، قاصدين يذلك تعطيل الحجّة التي بموجبها نستنتج ألوهيّة الروح القدس من كونه ملهمًا للأنبياء أو موحيًا بالنبوءات. وأمّا التروبيك فيقصدون أن يبرهنوا أنّ الملائكة كالروح القدس يمكن القول عنهم إنّهم يسكنون في المؤمنين (كلّمني أو تكلّم فيّ..)؟ فكتب القدّيس أثناسيوس حول هذه الآية باختصار قائلًا إنّ مجرّد قراءة الآية بانتباه تدلّ على أنّ الملاك الذي يتكلّم مع زكريّا ليس الروح القدس: «فأجاب الملاك الذي كلّمني وقال لي ألا تعلم ما هذه (وكان زكريّا رأى منارة كلّها ذهب…) فقلت لا يا سيّدي، فأجاب وكلّمني قائلًا هذه كلمة الربّ إلى زربابل قائلًا لا بالقدرة ولا بالقوّة بل بروحي قال ربّ الجنود…». فمن الواضح أنّ الملاك المتكلّم لم يكن الروح القدس ولا شبيهًا بالروح القدس، إنّما هو مجرّد رسول يوصل كلمة الربّ إلى زكريّا كخادم للربّ في حين أنّ الروح القدس هو روح ربّ الجنود ولا ينفصل عن لاهوته والذي يخدمه الملاك. ويبدو أنّ أثناسيوس أو باسيليوس لم يجدا ضرورة للردّ على هذه الحجّة بأكثر من ذلك، وتظهر فيها محاولة الهراطقة تفسير الآيات بأكثر ممّا تتضمّن، كما تعني أساسًا كلمة «تروبيك» اليونانيّة التي نعتهم بها القدّيس أثناسيوس.

د – التوسّع في صفات الروح القدس الإلهيّة بموجب الكتاب المقدّس:

توسّع الآباء القدّيسون الذين دافعوا عن لاهوت الروح القدس في صفاته الإلهيّة، كما نستنتج من آيات الكتاب المقدّس ويمكن إيراد بعض نقاط هذا التوسّع في ما يلي:

١ ) أكّد القدّيس أثناسيوس على وحدة الثالوث الأقدس الظاهرة في الكتاب المقدّس، فالكتاب ينسب الأعمال الإلهيّة إلى الآب أو إلى الابن أو إلى الروح القدس في مواضيع مختلفة من دون أيّ تمييز بين الأقانيم الثلاثة. فنرى مثلًا أنّه ينسب: «النور» و«الينبوع» و«المياه الحيّة» و«الحكمة» والسكنى فينا والحياة وعمليّة الإحياء وغيرها إلى الآب والابن والروح القدس، كما يتضح من مراجعة الآيات التالية: إرميا ٢: ١٣، باروخ ٣: ١٠ و١٢، يوحنّا الأولى ١: ٥، مزمور ٦٤: ١٠، عبرانيّين ١: ٣، أفسس ١: ١٧، يوحنّا ١: ٩، كورنثوس الأولى ١٢: ١٣ و١٠: ٤، رومية ٨: ١٥، يوحنّا ١: ١٢، رومية ١٦: ٢٧، كورنثوس الأولى ١: ٢٤…

وأكد أيضًا على أنّ الروح القدس هو روح التقديس والتجديد: كورنثوس الأولى ٦: ١١ ورومية ١: ٤ وتيطس ٣: ٤ – ٧ فالمقدّس غير المقدَّس. وعلى أنّه مسحة وخاتم للمؤمنين: يوحنّا الأولى ٢: ٢٧ وأشعياء ٦١: ١ وأفسس ٤: ٣٠ فالمسحة غير الممسوح والخاتم غير المختوم. وعلى أنّه هو الذي يُشركنا بالحياة الإلهيّة: كورنثوس الأولى ٣: ١٦ – ١٧ ويوحنّا الأولى ٤: ١٣. وكذلك مرّ على صفات الخلق  والأزليّة وعدم التغيّر وعدم التعدّد وكونه صورة الابن وكونه يعمّد باسمه مع الآب والابن في ثالوث غير منقسم، ولا مجال للتفصيل والتطويل.

٢ – وأكّد القدّيس باسيليوس على أنّه: «لا يستطيع أحد أن يقول يسوع ربّ إلّا بالروح القدس» (كورنثوس الأولى ١٢: ٣) و«إن كان أحد فيه روح المسيح فهو ليس منه» (رومية ٨: ٩) وإنّ الروح القدس يمجّد المسيح (يوحنّا ١٦: ١٤). كما أنّ الآب يمجّد المسيح (يوحنّا ١٢: ٢٨) فالروح واحد بالطبيعة مع الآب والابن وهو ممجّد مع الآب والابن ولذلك «التجديف على الروح لا يغفر» (متّى ١٢: ٣١) وأنّه يسمّى بتسميات الآب والابن ذاتها (روح وقدّوس…) ونحن ندخل إلى الإيمان باسمه مع الآب والابن حينما نعمّد «باسم الآب والابن والروح القدس».

وأكد ايضًا على أنّ اعمال الروح القدس عظيمة هي ولا توصف ولا تُعدّ، فقد كان مع الآب والابن قبل الدهور، وكان حاضرًا عند خلق العالم (بروح فيه تشدّدت كلّ قوّات السموات)، وكان حاضرًا بل سبق مجيء المسيح إلى العالم (يوم البشارة وحلول الروح القدس على مريم)، وكان حاضرًا عند طرد المسيح للشياطين وشفائه الأمراض (بروح الله أخرج الشياطين)، وكذلك عند غفران الخطايا (كورنثوس الأولى ٦: ١١) وهو يتّحد المؤمنين مع الله (غلاطية ٤: ٦) ويقيم الموتى ( مزمور ١٠٣: ٣٠ ) ويرشد «إلى جميع الحقّ»، «ويشفع فينا بأناة لا توصف» (رومية ٨: ٢٦ – ٢٧)…

ثمّ ورد في الرسالة الثانية إلى أهل تيسالونيكي ٣: ٥ «وليرشد الربّ قلوبكم إلى محبّة الله وصبر المسيح» فمن هو هذا «الرب»؟ وكذلك ورد في تيسالونيكي الأولى ٣: ١٢ – ١٣ «الرب ينمّيكم ويزيدكم في المحبّة… لكي يثبّت قلوبكم بلا لوم في القداسة أمام الله أبينا في مجيء ربّنا يسوع المسيح» فمن هو هذا الربّ؟ ويُجيب بولس الرسول نفسه في كورنثوس الثانية ٣: ١٧ و١٨ «وأمّا الربّ فهو الروح».

ويضيف القدّيس باسيليوس على كلّ ذلك أنّه كما أنّ العالم «لم يعرف» الآب (يوحنّا ١٧: ٢٥) «ولا يرى» الابن (يوحنّا ١٤: ١٩). كذلك بالنسبة إلى روح الحقّ الذي لا يستطيع العالم أن يقبله لأنّه «لم يره ولم يعرفه»، أمّا أنتم فتعرفونه لأنّه مُقيم عندكم ويكون فيكم (يوحنّا ١٤: ١٧).

٤ – ألوهيّة الروح القدس في التقليد الكنسيّ

لا مجال لبيان أهمّيّة التقليد الكنسيّ وكيف أنّه حياة الكنيسة عبر الزمان، وهو يحمل في تيّاره كلّ غنى الكنيسة الروحيّ ويغذّي المؤمنين وهو يشمل التعليم الشفويّ وتعاليم الآباء والقدّيسين ويمكن القول بنوع ما إنّه يشمل الكتاب المقدّس ذاته.

فهذا التقليد الكنسيّ يثبّت ألوهيّة الروح القدس باستمرار منذ البدء، ولم يجد مرّة ما قيد شعرة، رغم الهرطقات، عن هذه العقيدة المرتبطة كلّ الارتباط بعقيدة الثالوث الأقدس ويظهر هذا الاستمرار في تعليم الشهداء والقدّيسين الأوّلين والآباء والأساقفة، كما يظهر في العادات والطقوس المسيحيّة الممارسة منذ البدء، وفي المعتقدات المكتوبة وغير المكتوبة التي تناقلها المسيحيّون من دون انقطاع.

ومن هذه العادات والعقائد الصلوات وبصورة خاصّة صلاة التضرّع إلى الروح القدس للحلول على الخبزات في القدّاس الإلهيّ، وهي مقولة منقولة إلينا بدون انقطاع منذ العهد الرسوليّ، والتغطيسات الثلاث في المعموديّة وصلاة المعموديّة ذاتها، والتمجيدات الثالوثيّة والبركات الرسوليّة المعطاة باسم الآب والابن والروح القدس… وكلّ هذه الأمور التي يدعوها باسيليوس الكبير مجموعة العقائد التي نُقلت من فم إلى فم بين المعمّدين تحت طابع السرّ، ولم تكن يومًا موضوعًا لتحديد أو إعلان من قبل الكنيسة.

أمّا الشهداء والقدّيسون الأولون والآباء والأساقفة فيسمّى منهم القدّيس باسيليوس وإكليمنضوس وإيريناوس وغريغوريوس وإيثنوجنوس، ثمّ ذيونيسيوس وفرميليالنوس القيصريّ وملاتيوس الأنطاكيّ وأوريجنوس وإفسابيوس القيصريّ ويوليوس الإفريقيّ… وكلّهم أشاروا إلى لاهوت الروح القدس.

ومن هؤلاء الأقدمين نورد ما يلي: «إذًا ذاك هو الروح القدس المستقيم المنبثق منه (أي من الآب) ولذلك هو إله مميَّز عن الآب» (إكليمنضوس الرومانيّ)، وبوليكاريوس الذي حين استشهاده مجّد الروح القدس مع الآب والابن، وتاتيانوس الذي دعا الروح القدس «إلهًا كاملًا له جوهر الآب والابن»، وإيريناوس الذي دعاه «حكمة الآب والخالق والإله الحقيقيّ وحده مع الآب والابن…»، وثاوفيلوس الأنطاكيّ وإكليمنضوس الإسكندريّ وترتوليانوس وكبريانوس الذين علّموا بلاهوت الروح القدس، إمّا تصريحًا أو ضمنًا بقولهم باشتراكه في الطبيعة الإلهيّة. أمّا يوستينوس فيعترف بأنّ المسيحيّين يؤمنون بالآب والابن والروح القدس ويسجدون لهم. هذا عدا عن كيرللس الأورشليميّ الذي كتب أنّ الروح واحد كالآب والابن، مستنتجًا من ذلك أنّه إله، وأمبروسيوس وديديموس وغريغوريوس النزينزيّ وغريغوريوس النيصصيّ ويوحنّا الدمشقيّ.. وقد خصَّ كلّ منهم الروح القدس بمؤلّف أو بمقالات عن ألوهيّته.

ويجدر الاشارة هنا إلى أنّ التقليد الكنسيّ أكّد بخاصّة على أنّ الروح القدس يؤلّه المؤمنين: هذا التأليه الذي نحن مدعوّون إليه بالمعموديّة وهو غاية الحياة المسيحيّة، وبما أنّه «لا يأتي أحد إلى الابن إلّا في الروح القدس» فالروح القدس هو الذي يُدخل المؤمن إلى جسد المسيح ويقوده ويقدّسه وينيره، وهو «يساهِم ولا يساهَم، يقدّس ولا يقدّس، يؤلّه ولا يتألّه، يُملئ ولا يُملأ»، هو يحيي ويحقّق ويكمّل أعمال الله فينا.. وأكد التقليد أيضًا وحدة الثالوث الأقدس، معتبرًا أنّ إنكار لاهوت الروح القدس يعني إنكار لاهوت الابن، وقائلًا إنّ الروح القدس يشترك مع الآب والابن بكلّ فعل صادر عن الله، الثالوث الأقدس، وأنّه بعامّة الآب يعمل بواسطة الابن في الروح القدس.

٥ – ألوهيّة الروح القدس في الليتورجيا

الليتورجيا من التقليد، وقد حفظت لنا عقيدة الكنيسة عن لاهوت الروح القدس في الخدم والصلوات والتراتيل المختلفة المتعدّدة وهي أكثر من أن تُحصى. ويكفي أن تذكر صلاة «أيّها الملك السماويّ المعزّي روح الحقّ الحاضر في كلّ مكان والمالئ الكلّ..» التي نفتتح بها النهار والصلوات بمعظمها، ثم أناشيد العنصرة الغنية بلاهوت الروح القدس غنى غزيرًا متدفّقًا ولا بدّ من أنّكم تتذكّرون البعض منها: «إنّ الروح القدس كان دائمًا ويكون وسيكون لأن ليس له ابتداء ولا له بالكلّيّة انتهاء، ولكنّه لم يزل منتظمًا مع الآب والابن معدودًا حياةً ومُحييًا نورًا ومانحًا للضياء صالحًا بالطبع وللصلاح ينبوعٌ به يعرف الآب ويمجّد الابن، ويُفهم من الكلّ أنّ قوة واحدة ورتبة واحدة وسجدة واحدة للثالوث المقدّس». «وأنّ الروح القدس نور وحياة وينبوع حَيّ عقليّ روح حكمة روح فهم صالح مستقيم عقليّ رئاسيّ مطهّر الهفوات إله ومؤلّه نار من نار متكلّم فاعل مقسّم للمواهب، الذي به الأنبياء كافّة ورسل الله مع الشهداء تكلّلوا، سمعة مُستغربة رؤية غريبة نار مقسومة لتوزيع المواهب». ثمّ «أيّها الملك إنّ أفواه الأنبياء المستوعبة روحًا قد قدّمت تسبيحًا لحضورك بالجسد والروح غير المخلوق المُساوي لك في الإبداع والعرش، قد أقبل من الأحضان الأبويّة للمؤمنين تبجيلًا وإكرامًا لناسوتك» ولا يملّ من قراءة هذه التراتيل العظيمة التي تشيد بالأوجه المتنوّعة لمواهب الروح القدس وصفاته ولاهوته. فبالإضافة إلى الأزليّة والخلق والقوّة والعرش، نرى في الروح القدس الحياة والنور والحكمة والصلاح والنار المطهّرة والإله المؤلّه… وكذلك نرى مساواته مع الآب والابن وانبثاقه من الآب وجوهره الواحد معهما في الثالوث الواحد وعدم إدراكه… «أيّها الروح الكلّيّ قدسه الصادر من الآب والآتي بالابن على التلاميذ العديمي الكتابة، خلّص وقدّس كلّ الذين يعرفونك إلهًا». ثمّ «وإنّ الشعاع الإلهيّ الكلّيّ الضياء والاقتدار غير البالي المنبثق من النور غير المولود الذي بالابن والسلطة الأبويّة يظهر الآن إشراق مساواة طبيعته بصوت ناريّ للأمم في صهيون». و«إنّ كلّ البريا تحني ركبة للمعزّي ولابن الآب وللآب المساوي في الطبيعة لأنّهم قد عرفوا الجوهر الواحد غير المدرك الأزليّ أنّه مثلّث بالوجوه بالحقيقة لأنّ نعمة الروح قد أشرقت نورًا». وغيرها تشير إلى الروح القدس واهب القداسة: «وإنّ القوّة التي حلّت اليوم هي الروح الصالح روح حكمة الله، الروح المنبثق من الآب الذي بالابن ظهر لنا نحن المؤمنين، واهبًا القداسة التي قد تلاحظ به طبعًا لأولئك الذين يسكن فيهم». «وبالروح القدس تحيا كلّ نفس وتتنقّى مرتفعة ولامعة بالثالوث الواحد بحالة خفيّة سرّيّة».

٦ – ألوهة الروح القدس والحياة المسيحيّة

لا بدّ في نهاية هذا البحث من بيان أهمّيّة لاهوت الروح القدس في الحياة المسيحيّة. البحث في العقائد المسيحيّة ليس مجرّد بحث نظريّ عقيم ولكنّه يرتبط بصميم الحياة الروحيّة ويعطي لهذه الحياة قوامها ونهجها وجوهرها. وفي ما يتعلق بالروح القدس فقد قيل إنّ غاية الحياة المسيحيّة هي اكتساب الروح القدس فتختلف إذًا الحياة المسيحيّة بكاملها إذا لم يكن الروح القدس إلهًا مع الآب والابن في ثالوث واحد غير منفصل.

الأقنومان المُرسلان إلى العالم هما الابن والروح القدس. لكنّ عمل الواحد يختلف عن الآخر. وقد أوجز بولس الرسول وظيفة كلّ من الابن والروح القدس في الكنيسة بقوله: «أمّا المسيح فرأس الكنيسة والكنيسة جسد المسيح، وأمّا الروح فهو الذي يملأ الكلّ في الكلّ» (أفسس ١: ٢٣).

لم يحضر الروح القدس إلى العالم ويقم فيه كأقنوم وشخص إلّا بعد العنصرة: إذ أصبحت الخليقة أهلًا لاستقبال الروح، فنزل ليملأ بحضوره الكنيسة المفتداة والمغتسلة والمطهّرة بدم المسيح.

غير أن الروح القدس في مجيئه الشخصيّ هذا لا يعلن عن شخصه وأقنومه: إنّه يأتي باسم الابن. وذلك كما جاء الابن باسم الآب. فأقانيم الثالوث الأقدس تشهد لبعضها البعض. فالابن يشهد للآب، وبالروح القدس نعرف يسوع المسيح ربًّا، وقد قال يوحنّا الدمشقيّ: «الابن صورة الآب والروح صورة الابن»، لكن الروح القدس ليس له صورته في أقنوم آخر: إنّه يبقى غير مُعلَن وغير مكشوف، ومتخفّيًا وراء حضوره بالذات وفي ظهوره بالذات، لأنّ العهد القديم أظهر الآب والعهد الجديد أظهر الابن، أمّا الآن فالروح القدس حاضر يحيا بيننا مختفيًا وراء حضوره.

 المسيح وحّد الطبيعة البشريّة في شخصه. الطبيعة البشريّة جُدّدت بالمسيح وهي جسده وهو مبدأها بل هو «أقنوم» هذه الطبيعة. إنّها وحدة الإنسان الجديد الذي نلبسه بالمعموديّة عندما نصير عضوًا في جسد المسيح. فعمل المسيح يتناول الطبيعة البشريّة. أمّا الروح القدس فعمله يتناول كلّ إنسان على حدة. ويمنح لكلّ إنسان على حدة ملء اللاهوت بالطريقة الفريدة التي تناسب هذا الإنسان شخصيًّا. يتّجه الروح القدس إلى الإنسان المخلوق على صورة الله ليعطيه إمكانيّة تحقيق مثال الله. المسيح يعطي أقنومه للطبيعة والروح يعطي لاهوته للأشخاص. عمل المسيح يوحّد وعمل الروح القدس ينوِّع.

وهذان العملان لا ينفصلان وكلاهما يستحيل من دون الآخر: المسيح يخلق وحدة جسده السرّيّ بواسطة الروح القدس. والروح القدس يعطي ذاته للأشخاص بواسطة المسيح: أعطى المسيح الروح القدس للكنيسة مرّتين، المرّة الأولى مساء القيامة، عندما نفخ في الرسل مجتمعين قائلًا خذوا الروح القدس، مَن غفرتم له خطاياه غفرت ومن أمسكتم له خطاياه أُمسكت (يوحنّا ٢٠: ١٩- ٢٣)، وعندئذٍ أعطى الروح القدس للكنيسة كجسم، أعطاه لمجموع الرسل مع سلطان حلّ الخطايا وربطها وهي السلطة الكهنوتيّة، أي أنّه أعطى الروح لوظيفة لا لقداسة شخصيّة، وأعطاه كرباط وحدة الكنيسة، موجّهًا للطبيعة، للكنيسة كجسم المسيح.

أمّا المرّة الثانية ففي يوم العنصرة (أعمال ٢: ١ – ٥)، وعندئذٍ أرسل الروح القدس في مجيء شخصيّ، كأقنوم من الثالوث الأقدس مستقلّ عن أقنوم المسيح، وبشكل ألسنة ناريّة منفصلة الواحدة عن الأخرى ونازلة على كلّ واحد من الحاضرين، على كلّ من أعضاء جسد المسيح: إنّه نزول للأشخاص وفي الأشخاص ختم به الأشخاص بعلاقة شخصيّة مع الثالوث الأقدس.

وهذا النزول في الأشخاص هو سرّ تنازل الروح القدس وانسحاقه.. في تنازل الابن ظهر شخص المسيح وبقي لاهوته مستترًا وراء «صورة العبد». أمّا في تنازل الروح فيظهر اللاهوت، لاهوت الثالوث الأقدس المشترك، ولكن يظلّ شخص الروح القدس وأقنومه مستترًا وخفيًّا وراء اللاهوت.

ولكن بما أنّ سُكنى الروح القدس فينا تصيّرنا مسكنًا للثالوث القدّوس، والروح القدس هو النار الذي تكلّم عليه المسيح: (لوقا ١٢: ٤٩)، أي اللاهوت، لذلك لا يمكن أن يظلّ خفيًّا فينا. بل تنبع النعمة من داخلنا أنهار مياه حيّة (يوحنّا ٧: ٣٨). إنّها الحياة الإلهيّة تنفتح فينا وإنّها طريق التألّه التي تؤدّي إلى ملكوت الله فيدخل ملكوت الله إلى قلوبنا منذ الآن:

وعندئذٍ فالروح القدس، هذا الأقنوم الإلهيّ المجهول، الذي ليس له صورته في أقنوم آخر، سيعتلن في الأشخاص المؤلّهين لأنّ جماعة القدّيسين سوف تكون صورته…ٍٍٍٍٍٍٍٍٍ

 

المرجع: مجلّة النور، العددان السادس والسابع، حزيران وتمّوز،  ١٩٥٨.

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share