آمنوا بالنور لتصيروا أبناء النّور

الأب الياس مرقص Sunday February 21, 2021 400

رينيه أنطون  – النهـار

حين ينطق القلب تقف الكلمة حائرة عاجزة وتمسي اللغة غريبة عن ذاتها. ذلك ان الكلمة المنطوق بها من اللسان امر وتلك المولودة من رحم القلب امر آخر. فإن انبلجت المحبة، ولو من عتمة الذات البشرية، عرّت لغو الناس من كل رداء لان المحبة لا تكون بغير الفعل، كما لا يستقيم الفعل بغير الحب. وكلام الاب الياس، في كتابه نطقُ القلب هو.

فالرجل، وقد جُرح قلبه بمحبة المسيح منذ اكثر من ستين عاماً، ابى ان يستأثر بنورانية انعم الله عليه بها لانه على هذا القدر من الحب فآثر ان يقود الجماعة الى سبيل خلاص ذاتها الوحيد، وهو ان تجرح القلوب بمحبة المسيح ليغسل دمه المهراق كل دمعة من عيون الناس، فيعطوا ان يعاينوا نوره الازلي.

ما شاء الاب الشيخ ان يقوله بالتزامه القول الكتابي “آمنوا بالنور لتصيروا ابناء النور” عنواناً لكتابه هو: اخلعوا عنكم ترابيتكم لتتألق انسانيتكم بالايمان العامل بالمحبة. وسبيلكم الى هذا ان تعرفوا الايمان اولاً وان تحيوا هذا الايمان شركة معاً لتكون الشركة سلاحاً لكم في مسيرة شهادية تحمل نور المسيح الى الكون.

هذا ما يستلهمه المرء من قراءة الكتاب. في ضوء هذه الرؤية حيث تقودك القراءة الى تلمس ثلاثة اطر اساسية تمحور حولها المضمون وهي التعليم وحياة الجماعة والشهادة، فتتوقف وانت تقارب الطرح، ازاء محطات تشكل ارتكازاً لكل منها.

ففي اطار التعليم، تطرق الكاتب الى عناوين منها الحياة الليتورجية وعقيدة الثالوث والكتاب المقدس حيث تشعر ان له، في كل من هذه المجالات، طرحاً يقودك الى ابعد بكثير مما حفظته او الفته من تعليم حولها. فمثالاً، الطقوس في الكنيسة تتميز بكونها اناء يتم فيه التعبير عن مجيء الله للانسان وليست سبيلاً لارتقاء الانسان الى الله حسب ما هي في العالم. فالله الذي لا يُبلَغ اليه، وهو الذي اتى ليرفع الانسان من السقوط. اما الحاجة الى الطقوس، والمسيحية ديانة القلب، فتنطلق من كون الانسان كياناً حسياً جُبِلَ من التراب، يحيا في وحدة كيانية وجسده، ما يجعله في حاجة الى تلمس الايمان، بجميع تعابيره الحسية. وقد تبنّى الله هذه الطبيعة بجملتها، وبات التجسد سر قوة الله في الارض. فالطقوس تستقيم بمقدار ما يحياها المؤمن التزاماً وعيشاً، وتتحجر حين تمسي اشكالاً فارغة بفعل التجاهل واللامبالاة.

ان تساؤلاً يعترضك ويغيب جوابه عنك وانت تحاول استشفاف موقف الكاتب من تجديد اللغة الطقسية وصولاً الى الصلاة بلغة اليوم. فالمواقف من هذا الموضوع لا تغيب لكنها لا تشكل، في حد ذاتها، جواباً شافياً. ومن هذه المواقف رؤية الكاتب ان طقوسنا غير جامدة، بمعنى انها خلاصة تجربة ايمانية امتدت عبر عصور مختلفة، وكأن الاب الياس ينفي عن الطقوس تهمة العتاقة والحاجة الى التجديد، وكذلك دعوته القيادة الكنسية الى بحث هذا الموضوع بحذر وحكمة منبهاً الى ضرورة التمييز بين ما هو اساسي في الطقوس وما هو غير اساسي. وللامانة يجب الملاحظة بأن الموقف الاخير من عصرنة الطقوس، على تواضعه، موقف شجاع يندر اتخاذه من عميد رهبنة.

اما في مقاربته موضوع الروح القدس، في سياق دفاعه عن ألوهية الروح استناداً الى الكتاب المقدس، فتبرز جرأة طرح وجِدَّة بأن الكتاب المقدس ليس واضحاً كل الوضوح بالنسبة للاهوت الروح القدس بسبب من عنصر الزمان في الاعلان الالهي، لان الله اعلن ذاته للبشر على مراحل. فالعهد القديم هو مرحلة الاعلان الالهي عن الآب والتلميح للابن. والعهد الجديد هو مرحلة الاعلان عن الابن والتلميح للروح. واليوم هو مرحلة فعل للروح في الكنيسة في جماعة القديسين. أمّا عدم وضوح لاهوت الروح القدس في الكتاب المقدس فيجب ان لا يشكك احداً من الجماعة لان الاعلان الالهي هو اعلان “شخصي” وليس اعلاناً كتابياً. فالمسيح هو الذي نزل من السماء وليس الكتاب.

في الاطار الثاني، وهو حياة الجماعة، يتألق الاب الشيخ في مقاربته فلسفة المشاركة بين الناس. فرغم حجم ما يواكبها من ألم، تبقى هذه المشاركة هدفاً كيانياً للانسان المعاصر وللانسان المؤمن على حد سواء. غير ان ما يميز سعي المؤمن لهذه المشاركة عن غيره، هو وعيه بأنه فقد هذه المشاركة التي كانت قائمة منذ الخلق، بفعل الخطيئة. وما سعيه اليها اليوم سوى محاولة لاستردادها بعد ان افتداه الله. هنا تبرز محورية الافخارستيا التي، في اجتماعنا حولها وقبولنا لها، تقودنا معا الى ملامسة البعد الانجيلي للمشاركة وهو الوحدة الكيانية.

المشاركة والوحدة يرتكزان الى مفهوم ايماني للخدمة ينسج نمطا علائقيا بين افراد الجماعة الكنسية تمثلا بالنمط العلائقي الثالوثي ما يجعل الخدمة على ارتباط صميمي والكيان الانساني، بحيث انك ترتقي بانسانيتك بمقدار ما تخدم.

ومن اوجه السعي لهذه الوحدة والتعبير عنها المجتمع الرهباني، اذا جازت التسمية. واسمح لنفسي ان اضع الحديث عن الحياة الرهبانية، في كتاب الاب الياس، في اطار حياة الجماعة الكنسية، وان افرد في فصل مستقل، لان الاب الياس يشهد انه ورفاقه الرهبان لم يختبروا هذه الحياة لحسابهم، ولا لحساب التيار الذي انطلقوا منه بل لحساب الجماعة المؤمنة وباسمها. فالرهبنة، التي انتمى اليها الاب الكاتب تجاوبا مع دعوة رأى فيها ترجمة لنهضة آمن بها وسعى اليها، صاغ لها هوية تشكل، في ذاتها، ردا على كل ما اعترضها من انتقادات عبر تاريخ هذا الكرسي الانطاكي. واذا أُعطيت ان أُصيغ بكلمات رؤية الكاتب لهوية الرهبنة اقول: ان الرهبنة سعي لمجتمع مثالي ملكوتي الهوى، تفتقد فيه الحقوق والواجبات لتحكم فيه المحبة. يحمل العالم في صلاته لتكون صلاته من اجل العالم شهادة فيه. لا طاعة فيه الا للمسيح ولمن هو على صورة المسيح. باختصار انها نموذج مجتمع الآخرة، اي الملكوت، ودليل لكون الملكوت من الارض يبدأ. هذه الهوية المصاغة تقودك الى التساؤل عن صور مناقضة تعاينها هنا وهناك لتدرك، بعد الغوص في تجربة هذا الاب الجليل، ان السعي الرهباني، وان تميز في هويته، يواجه، كغيره، من الضعفات الناتجة عن الخطيئة. فاتمام الرهبنة لهذا السعي يحتاج لصلاتك، كما تحتاج انت، في شهادتك، لصلاتها.

هذا لا يمنع خصوصية الدور الذي يمكن الرهبنة القيام به على صعيد الابوة الروحية. فالابوة محور ومرجع لان الوجود مبني علي اساسها. والولادة في المسيح، التي يجب ان تواكب الولادة الجسدية، تتم بتوارث التقليد ونقله بشكل حي ومعاش.

لذلك فان الابوة الروحية لا تستقيم بالتشريع والاستعباد بل بحياة الاب الروحي – المثال التي توقظ قوى النعمة لدى الابن وتنمي روح الحرية والمسؤولية لديه.

اما في الاطار الثالث، وهو الاخير، فلا ادري اذا كان الاب الياس قد اختصر الاطار الشهادي بتجربة حركة الشبيبة الارثوذكسية، ايمانا بها فقط ام تحديا لها ايضا. فدعوة الاب الياس – الوصية – الى الحركيين كي لا يتوقفوا عندما انجز لان الوقوف، والحال هذه، سقوط يعكس شيئا من مرارة تختلج نفسه. فهو مؤسس لحدث، انطلق من قلب الكنيسة الحدث ليحرر الكنيسة من مأسستها ويبقيها في جدِّتها حدثا، يخشى ان يكون قد بات اليوم تحت رحمة المأسَسَة. وللامانة، فان خطر العتاقة يتهدد ايضا، برأي الكاتب، كل اوجه العمل الكنسي.

لا ادري ما اذا يمكن للقارئ ان يصف مقاربة الاب الياس لحركة الشبيبة الارثوذكسية، بالمقاربة الانتقادية. لكنني اؤكد انها مقاربة محبة تفتقدها حركة الشبيبة الارثوذكسية من كثير من الآباء اليوم. فالمحبة قليلا ما تتلمسها من الكلمات وكثيرا ما تتلمسها من الروح. وما تعانيه هنا ان القلق على الحركة وحده هو الذي دفع بالكاتب ان يسطر وصاياه. فما يصيب الحركة يصيب الكنيسة، ولا فصل في هذا، فالحب الذي ملأ قلب مرسيل مرقص في رحاب الحركة، شطر قلبه التزام بنهضة الكنيسة. نحن لم نعرف، في الحركة، حبا لغير الكنيسة.

لا تنبع اهمية الكتاب من تنوع مضامينه فقط، بل مما تشعر به، وانت في عِشرة الكتاب، من انك ازاء قامة نادرة من الحب والثقافة والغنى والتواضع، لان ما فاض به الكاتب من تفاصيل ينبع من حرصه على الا يفوت المؤمن سبيلا من سبل الخلاص، فترتجي آنذاك ان لا يدركك الموت قبل ان تصبح على شيء، ولو يسير، من هذه القامة.

 

نصّ تُلي في ندوة حول الكتاب في وادي شحرور :    من صفحة أدب وفن

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share