الأب الياس مرقص التماعات أنطاكيّة .!. (٣١)

الأرشمندريت توما بيطار Sunday February 21, 2021 296

إنسان هذه الأيّام ثائر، في قرارة نفسه، بامتياز!. ثائر على كلّ شيء!. في كلّ مكان!. وثائر، بخاصّة، على كلّ الأنظمة الّتي لم تتعدَّ، في عمقها، حيّز الشّعارات، بل ألقت البشريّةَ في عبوديّات أقسى من ذي قبل!. كلّ ثورة اندلعت، في التّاريخ، أو تكاد، ما لبثت أن تبلّد رموزها، ونهجت نهج مَن ثارت عليه، تسلّطًا وقمعًا وظلمًا واستغلالًا، لتخدم الخاصّةَ فيها، ما أدّى ويؤدّي إلى قيام ثورة جديدة على نفس الأسس الّتي قامت عليها سابقتها، ثمّ انحلّت وتنحلّ لتندرج في مصافّ دركات “المنحلّين”، الفاسدين المُفسِدين!. ولكن، أثمّة ما يميّز ثورة هذه الأيّام عن سابقتها؟.
يقولون إنّ وعي القائمين بها، اليوم، أشدّ من وعي الّذين سبقوهم. أصحيح هذا الأمر؟. لا أظنّ!. لا قياس عندي، في هذا الشّأن، في كلّ حال!. يقولون إنّ شعاراتها، في العمق، غير ما كانت عليها شعارات ثورة الأمس. أصحيح هذا الأمر؟. ربّما في الشّكل!. يقولون إنّ فيها عناصر ممتازة، مثقّفة، واعية. لكلّ ثورة عناصرها الممتازة، ولكن فيها دائمًا عناصر فاسدة نفعيّة مندسَّة مستغِلّة، أيضًا!. ولكن، أثمّة مَن يجيبني: لِمَ، في نهاية المطاف، يبذل الطّيّبون أعراقهم ودماءهم، زرعًا، ولا يتغيّر شيء، ولا يحصد غيرُ الّذين لا يلبثون أن يتحوّلوا إلى طغاة ولا مبالين، وقد كانوا، بالأمس، في عداد الثّورة؟!.
نادرًا ما تجد، في التّاريخ، مَن جعل كرسيّه وماله في خدمة النّاس وسُؤْدُدِهم!. العكس، لدى الأغلبيّة السّاحقة، كان ولا يزال القاعدة!. كلّ ثورة، في التّاريخ، في أعين أصحابها، على جِدَّةٍ، وهي غير سابقاتها، ثمّ تستبين الأمور سيّانًا وكأنّ الثّائرين الجُدد، لحماسهم، تضعف ذاكرتهم أو لا يعلمون!. الثّورات، في الواقع المؤسف، مآلها أبدًا أن يُضحّى بالفقراء الطّيّبين، كما من أجل وعد جديد، ليبلِّغوا متسلِّطين وأغنياء جددًا، وكأنّهم في حلّة جديدة، إلى تبوّؤ الكراسي، إلى أن يخبو الحلم ويخيب وينبت، من الإحباط، حلم جديد وثورة جديدة، لتُعاد الكَرَّةُ إلى ما لا طائل تحته من جديد!. “لا جديد تحت الشّمس” (جامعة)!. “الأجنّة دنت إلى الولادة ولا قوّة لها على الإيلاد” (إشعيا 37)!. ثورات هذا العالم تولَد من خيبة وتؤول إلى خيبة، وإن كان الكثيرون يتوقّفون عند حدود غواية الحلم، حلم التّغيير الكبير، وكفاهم!.
هذا ليس من قبيل التّيئيس!. هذا لأنّه لا مدينة فاضلة في هذا العالم!. ولا “يوتوبيا” إلّا وهمًا!. وهذا ليس لأنّ البشريّة لم تصل بعد إلى النّظام السّياسيّ الأمثل لها، بل لأنّ البشريّة لم تصل بعد إلى “الإنسان الجديد”!. وجدان الإنسان مضروب، لذا معظم ما يأتيه، فرادًا وجماعات، معطوب ومعيوب!.
هذا يجعل ويؤكّد أنّ الثّورة الوحيدة القابلة للنّجاح، بنعمة الله، هي الثّورة على النّفس!.
لا القانون ولا توفير القوّة الرّادعة الّتي تؤمّن تنفيذ القانون يضمن العدالة في المجتمع، ما دام أنّ “تصوّر قلب الإنسان شرّير منذ حداثته” (تكوين 8: 21)!. القانون، أصلًا، للتّعريف بالمخالفة وضبطها، فكيف، وزماننا على ما هو عليه، نحلم بالعدالة، طالما القانون، اليوم، مائل إلى حماية ما كان بالأمس مخالَفةً وضدًّا لطبيعة الإنسان وناموس الله؟!. هذا في البلدان الموصَّفَة متقدّمةً ومتطوّرةً. وكيف، حتّى في زماننا، في البلدان المعتبَرَة نامية، بخاصّة، والقوانين تُسَنّ لخدمة المتسلِّطين والأغنياء أوّلًا؟!. وأيّ ضبط عادل موضوعيّ متجرِّد، تتوقّعه من المتنفِّذين الّذين تعرف سلفًا أنّ المناصب تغويهم وكذا المكاسب، وبيسر يسخّرون ضميرهم من أجلها؟!.
حتّى لو سلّمنا جدلًا بإمكان حسن تنفيذ القوانين وأن يكون المُقامون على تنفيذ ذلك أشباهَ قدّيسين، فمَن يقينا احتيالات النّاس، الّتي لا تقف عند حدّ، على القانون؟!. أخيرًا وليس آخرًا، أيّ مناخ يحكم العلاقات بين النّاس، ولو استتبّت عدالة القانون، وهذا مثاليّ وغير واقعيّ؟. أن يصير كلٌّ لوحده؟!. أن يتحوّل المجتمع إلى جزر كيانيّة؟!. أن يسود الجفاف بين النّاس؟!. أن يعمّ التّصحّر الإنسانيّ؟!. أن تستشري اللّامبالاة بالآخرين في حدود القانون؟!. أن يتكرّس مجتمع يستعيض فيه النّاس عن بعضهم البعض بالحيوانات، لا سيّما بالقطط والكلاب؟!. أن يصير المعيار تعاطي غسل أدمغة النّاس ودفعهم إلى اعتبار بعضهم البعض جحيمًا؟!.
الكائن المقَنَّن، في نهاية المطاف، إنسان مِسخ!. لا شيء يعوّض عن إنسان المحبّة، وإلّا لا يكون هناك إنسان، بل شبه آلة!. وهذا – إنسان المحبّة – لا يُضبَط لا بقانون ولا من خارج الإنسان!. هذا لا يكون إلّا بضبط ذاتيّ!. من هنا الحاجة إلى إنسان جديد وإلى وجدان جديد!. هذا نموذجه الرّبّ يسوع المسيح، ابن الإنسان، الإنسان الجديد، آدم الجديد، الّذي كلامه يطابق سيرته!. “تعلّموا منّي فإنّي وديع ومتواضع القلب”!. وهذا مبتغاه: وصيّة جديدة أعطيكم، أن يحبّ بعضكم بعضًا كما أنا أحببتكم!. وهذا لا يتحقّق إلّا بالضّبط الذّاتيّ، على طريقة الرّسول بولس الّذي قال: “كلّ مَن يجاهد يضبط نفسه في كلّ شيء… لذلك، أقمع جسدي وأستعبده حتّى بعدما كرزت للآخرين لا أصير أنا نفسي مرفوضًا” (1 كورنثوس 9: 25، 27)!.
حاجتنا في هذا الجهاد هي أوّلًا إلى نعمة الله. “لا يقدر أحد أن يُقبِل إليّ إن لم يجتذبه الآب الّذي أرسلني…” (يوحنّا 6: 44)!. وهذا مُعطًى لكلّ واحد من دون استثناء لأنّ “الله يريد أنّ جميع النّاس يخلصون وإلى معرفة الحقّ يُقبلون” (1 تيموثاوس 2: 4).
وحاجتنا ثانيًا هي إلى الرّغبة الكيانيّة الثّابتة العميقة فينا لأن نصير جُددًا!. “ليكن لي بحسب قولك” (لوقا 1: 38)، على ما أجابت مريم، الصّائرة حوّاء جديدة، رئيسَ الملائكة جبرائيل، عندما جاءها مبشِّرًا بحلول الرّوح القدس عليها وحبلها بالرّبّ يسوع!.
وحاجتنا ثالثًا هي إلى اعتماد الفقر سيرةً على غرار المعلّم!. “ليس لابن الإنسان أين يسند رأسه” (لوقا 9: 58)!. ليس هذا لأنّه لم يكن ليسوع مكان يمكث فيه (يوحنّا 1: 38- 39)، بل لأنّه كان فعلًا كالعصافير، هكذا في روحه، تلك الّتي ذكرها لمّا قال: “لا تهتمّوا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون ولا لأجسادكم بما تلبسون… انظروا إلى طيور السّماء، إنّها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن، وأبوكم السّماويّ يقوتها… لكن، اطلبوا أوّلًا ملكوت الله وبرّه وهذه كلّها تُزاد لكم” (متّى 6: 25، 26، 33)!. هذا موقف روحيّ عميق يتيح للإنسان أن يكون حرًّا من كلّ همّ دنيويّ، ولو تعاطى الدّنيويّات!. يتعاطاها، إذ ذاك، في مستوى الحاجة لأنّه إنسان، ولا يتعاطاها في مستوى التّعلّق والهمّ!. “محبّة المال – أي تمامًا التّعلّق وهمّ المال – أصل لكلّ الشّرور” (1 تيموثاوس 6: 10)!. “أريدكم أن تكونوا بلا همّ” (1 كورنثوس 7: 32)!.
وحاجتنا رابعًا هي إلى العفّة!. هذا لكلّ المؤمنين بالرّبّ يسوع وليس للرّهبان فقط، ككلّ شأن روحيّ!. الفقر في السّياق أعلاه هو فقر في ما للجسد؛ أمّا العفّة فهي الفقر في ما لأهواء النّفس… في الجسد!. الفقر والعفّة في هذا السّياق لا ينفصمان، بل يطالان معًا، وكواحد، الإنسان كلّه!. الفقر كتحرّر من هوى القنية، ومن ثمّ تفعيل الإيمان بالرّبّ يسوع من حيث هو “الثّقة بما يُرجى والإيقان بأمور لا تُرى” (عبرانيّين 11: 1)، أقول الفقر هنا يزدوج بهاجس التّنقّي والتّحرّر من كلّ هوى يطال كلّ عضو من أعضاء الجسد، منفردًا أو مجتمعًا إلى غيره: مثل ذلك تحرّر البطن والحلق وسواهما من هوى الشّراهة، والعين والأذن واللّمس وسواها من هوى الزّنى، واللّسان من الثّرثرة والكلام القبيح، واليد من البخل، والرِّجل من السّعي إلى الأفعال الذّميمة، وهكذا دواليك. وعلى صعيد آخر، تحرير الذّهن من كلّ فكر شرود ونيّة سيّئة ونزعة آثمة، وذلك بالوعي والانتباه والصّلاة والانكسار…
في شأن كلّ عمل في هذا السّياق يوضح القدّيس صفروني الآثوسيّ أنّ طريق الخلاص، أي طريق “الإنسان الجديد”، يتمثّل في إتمام كلّ عمل، مهما كان بسيطًا، بلا هوى، في الصّلاة!. أقول، “في الصّلاة”، لأنّه لا عمل إلهيّ يتمّ من دون صلاة. الصّلاة هي العطيّة الكبرى الّتي منّ بها ربّنا علينا كي يصلنا به، جاعلًا من كلّ عمل نؤدّيه عملًا إلهيًّا، وسلكًا كهربيًّا يمرّر به لنا نعمته القدّوسة!. من دون صلاة، أي من دون انشداد الذّهن إلى الله، يبقى كلّ ما نأتيه من تراب الأرض، لا قيمة له!. كذلك من دون صلاة، لا تنسكب علينا بركة العليّ لتقدّس ما نفعله وتُكملَه ليصير تقدمةً لله وذبيحة!. كلّ ما في الأرض كان، بالخلق، عطيّة محبّة من لدن الله، ليصير، بصلاتنا إليه، تقدمةَ قلوبنا وذبيحةَ شفاهنا، محبّةً وشكرًا لديه عن ذواتنا والعالم بأسره!. كلٌّ منّا، أمام الله، كاهنُ الوجود!. محبّة تستدعي محبّة، ولجّة (لجّة قلب) تنادي لجّة!. “الّتي لك ممّا لك نقدّمها لك على كلّ شيء ومن جهة كلّ شيء”!. ذروة خلق الله لنا تجسّده من أجلنا!. أفرغ نفسه آخذًا صورة عبد صائرًا في شبه النّاس لنفرغ أنفسنا آخذين، بالعبادة، صورة عبيد، لنصير في شبه الله!.
وحاجتنا خامسًا هي إلى الطّاعة، طاعة الله في مدبّرينا وفي أحدنا الآخر، لأنّ روح الله ساكن فينا!. كلّ ذلك لأنّ الفقر هو للحرّيّة والحرّيّة للتّنقّي والتّنقّي للطّاعة والطّاعة للصّبر والصّبر للاتّضاع والاتّضاع للمحبّة!. بالاتّضاع، أخيرًا، نشابه الله، لأنّ المحبّة بطبيعتها متّضعة!. “تعلّموا منّي فإنّي وديع ومتواضع القلب”!. وبمشابهة الله بالاتّضاع ندخل في علاقة تناضح مع الله!. أمّا ابن الله فقد صار بالتّناضح ابن الإنسان، ليصير الإنسان بالتّناضح ابن الله!. “أمّا كلّ الّذين قبلوه فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله أي المؤمنون باسمه، الّذين وُلدوا ليس من دم ولا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل بل من الله” (يوحنّا 1: 12 – 13)!.
هكذا يولَد كلّ إنسان جديدًا على مثال المولود الجديد اليوم!.
بيت لحم، اليوم، تشهد لولادة المولود الّذي صار لنا آدم جديدًا، لذرّيّة روحيّة جديدة!. في غفلة عن العالم، في مغارة مظلمة، في مذود البهائم، حيث لا كرامة للإنسان، ناهيك عن الإله!. في فقرٍ، في غربةٍ، في ضعفٍ، في عناء!. لم تكن تلك السّاعة خالية من البكاء والألم!. ميلاده كان في شتاء، ولا ما يمنع أن يكون ما قاله لتلاميذه، فيما بعد: “صلّوا لكي لا يكون هربكم في شتاء” (مرقص 13: 18)، ترجيعًا لِما انطبع في وجدانه من ذلك اليوم!. وهذا يعني أنّ على مَن يروم أن يصير إنسانًا جديدًا، طالبًا ربيع الحياة الجديدة، أن يعبر أوّلًا بشتاء العلاقات البشريّة الباردة وما يتخلّلها من قسوة الإنسان على الإنسان، في قلّة صدقه، وفقر رحمته، وقسوة قلبه، ولا مبالاته بالمظلومين، ومكابدته الأوجاع والآلام أعزلَ، وقلّما يتيسّر له مَن يسأل عنه أو يبالي به أو يشعر بضيقاته!.
هذه وسواها من معاناة، لم تكن جزافًا، ولا سمح ويسمح بها العليّ تخلّيًا منه عن الإنسان أو لأنّه يهوى قهر الإنسان!. كلّا، أبدًا!. هذا مخاض نظير مخاض الحامل في وضعها!. اليوم يخفون بالتّخدير كلّ ألم، لأنّ كلّ ألم في النّاس مقيت!. عند ربّك شأن الخلاص آخر!. “بضيقات كثيرة ينبغي أن ندخل ملكوت السّموات” (أعمال 14: 22)!. “إن أراد أحد أن يأتي ورائي، فلينكر نفسه ويحمل صليبه كلّ يوم ويتبعني” (لوقا 9: 23)!.
من الألم ما تفرضه على ذاتك بالنّسك، ومنه ما يفرضه ضعف جسدك وظلم النّاس لك عليك بسماح من الله، وبمقدارٍ يكون نافعًا لك للخلاص، بضبطٍ من فوق!. هذا لا مناص منه ولا مهرب، لأنّ الخطيئة الّتي دخلت حياة الإنسان، وهو معافى في الفردوس، لا تخرج منه، وهو مريض، في سقوطه، إلّا بالوجع!. لذا، كان قول الرّبّ الإله لحوّاء: “تكثيرًا أكثّر أتعاب حبلك، بالوجع تلدين أولادًا”!. ولذا، بدءًا، كان الصّليب وجعًا يتمخّض عن فرح!. “المرأة وهي تلد تحزن لأنّ ساعتها قد جاءت، ولكن متى ولدت الطّفل لا تعود تذكر الشِّدّة لسبب الفرح، لأنّه قد وُلد إنسان في العالم” (يوحنّا 16: 21)!. من التّعب والوجع ما لا يُجدي ومنه ما يُجدي!. يهوذا الإسخريوطيّ تعب أنانيًّا من أجل نفسه، فآل تعبه إلى الشّنق، إذ أسلم نفسه إلى اليأس؛ وبطرس تعب من أجل نفسه عن ضعف، في غير اتّجاه، فآل تعبه إلى الخلاص، إذ أسلم نفسه للتّوبة والبكاء بكاء مرًّا!.
الظّلم باق في الأرض إلى ذلك اليوم وكذلك الفقر!. لذا، جيّد أن نحتجّ على الظّلم بالكلمة والموقف، حيثما أمكن، ولكن ليس بالعنف!. أوّلًا، لأنّ الوصيّة هي “لا تجازوا أحدًا عن شرّ بشرّ، معتنين بأمور حسنة قدّام جميع النّاس… لا يغلبنّك الشّرّ بل اغلب الشّرّ بالخير” (رومية 12: 17، 21)!. وثانيًا، لأنّ مَن يأخذون بالسّيف بالسّيف يهلكون (متّى 26: 52)!. أمّا الفقر فدواؤه، ما استطعتَ، بشقّ رغيفك للفقير!. أعطه نصفه واحتفظ بالباقي!. وإن تحرّك قلبك أسًى عليه، واندفعتَ بكلّ شهامة لتعطيه كلّ ما عندك، كلّ معيشتك، كمثل الأرملة الّتي ألقت بفلسَين في صندوق العطايا، فلا تباليَنَّ ولا تخافنَّ على نفسك!. فإنّه لن يطول الوقت حتّى تُمطر السّماء عليك وعلى غيرك، من جرّاء فعلتك، بركاتٍ لا حدّ لها ولا عدّ!. تقول، هذا لا يغيّر وجه الأرض؟. ليس مُعطًى لنا، يا حبيبي، حتّى ذلك اليوم، أن يتغيّر وجه الأرض!. في انتظار ذلك حسبُنا أن ننشر، بالشّهادة، عبير ملكوت السّموات في الأرض متى حلّت محبّة الله وسكن روح الله فينا!. وفقط متى سكنت محبّته فينا عرفنا أن نميّز ما بين الخاطئ، في الأرض، والخطيئة، وما بين الظّالم والظّلم، وما بين الفاسد والفساد!. نمجّ هذا ونتمسّك بذاك!. الخلق كلّهم عيال الله، والله يغار على خلاصهم أجمعين!. إذ ذاك يتسنّى لنا أن نتمّم الوصيّة: “أحبّوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، صلّوا لأجل الّذين يسيئون إليكم ويطردونكم”!.
كلّ إنسان، يا صاحبي، ظالم مظلوم، ظلمته خطيئة العالم ويظلم الآخرين لأنّه لم ينشأ على المحبّة!. وراء خطيئة كلّ إنسان “دراما”، من أجلها تجسّد ابن الله واقتبل الصّلب والموت!. مَن كان منكم بلا خطيئة فليرمها (المرأة الخاطئة) بحجر!. ولا أنا أدينكِ!. دونك قاعدةَ حياةٍ، لا تنسَها: مَن يحسّ بخطيئته يرحم الخطأة مهما كانت خطيئتهم، ومَن لا يرحم الخطأة لا يحسّ بخطاياه ولا يعرف نفسه!. كان، إذ ذاك، في أسوء حال!. هذا يعيش في خطيئته ويموت في خطيئته!. أمّا السّماح فباب الخلاص!. ” لا تدينوا لكي لا تدانوا”!. “واترك لنا ما علينا كما نترك نحن لمَن لنا عليه”!.
تريد، يا صاحبي، أن تكون ثائرًا للحقّ وفي الحقّ؟. ثُر على نفسك أوّلًا!. لا تعنف في وجه الظّلمة!. هذا لا ينفعك ولا ينفع النّاس في شيء!. “فشّة الخلق” لا تؤول، في النّهاية، إلى شيء!. يكفيك، إن حكّمت قلبك، أن تضيء شمعةً، لتشهد للملكوت الآتي!. وجودنا شهادةٌ لله، الباقي ربّك يصنعه!. الشّيطان أمير هذا العالم، فاشهد، ولو لزم حتّى الموت!. هذا نصيبُك إن أردت أن تصير جديدًا إلى حياة أبديّة!.
كان الأب الياس مثل هذا الثّائر في الحقّ!. هو أبو الرّهبنة الحديثة عندنا في أنطاكية!. وهو الّذي قعد وحده في عتمة العالم سنين!. لم يبالِ بأمجاد النّاس رغم ما كان موفورًا له منها!. أقام في الفقر عن إرادة على شبه معلّمه!. لم يهتمّ بتغيير العالم لأنّ هذا باطل. اهتمّ بتغيير نفسه بالنّعمة والتّوبة، ليمدّ بجسده خلاص إلهه!. جاهد ليحفظ عفّة نفسه ما يزيد على الخمسين عامًا!. سلك في الطّاعة، في ضميره، لربّه، في كلّ إنسان!. ثمّ ثبت في الصّبر على آلام كثيرة!. وأخيرًا، تعلّم الاتّضاع ففاضت أنهار ماء المحبّة الحيّة في كيانه، فعمل على إشباع العطاش ريًّا، ومن ثمّ سكب دموعه الّتي من فوق على كلّ عطش وجائع وعريان ومظلوم وشريد علّهم يهتدون!. قدّم نفسه قدوةً لنا!. وقد حفظ نفسه إلى المنتهى بنعمة الله، لذا أضحى كاروزًا للثّورة الحقّ الوحيدة في كلّ العالم، إلى سنين كثيرة!.
… لتستمرّ القصّة!.

الأرشمندريت توما بيطار
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسيّ
الأحد 22 كانون الأوّل 2019

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share