خذ هذا الكتاب وكله

رجا جبران Sunday February 21, 2021 366

رجا جبران

الأرجح أنّ الفتى مرسيل مرقص سمع في الكنيسة، في اللاذقيّة، كلام الملاك للنبيّ قائلاً »خذ هذا الكتاب وكُلْهُ«، فأمضى العمر كلّه يأكل الكتاب، حتّى أصبح حلاوة في فمه، ومن فمه خرج الكتاب، لكلّ من عرفه، أو استمع إليه »كشهد العسل«.

لم يكن هناك، عند هذا الشابّ، أهمّ من الكتاب، لا الوظيفة التي ترك، ولا العائلة التي ابتعد عنها، ولا الوطن الذي هجره. توحّد مع الطبيعة في قرية دير الحرف اللبنانيّة، لكي يستمرّ في أكل الكتاب إلى آخر ساعة من عمره المديد. وعندما أسلم الروح كان آخر شيء وضعه في فمه هو »جسد ربّنا يسوع المسيح ودمه«. عاش »الكتاب« إلى الساعة أو الثانية الأخيرة من عمره.

»أبونا إلياس«، لم يطعمنا الكتاب في أقواله وكتاباته فقط. أطعمنا الكتاب عبر تصرّفاته معنا.

فإن أنت عرفته متواضعًا، فلأنّ الربّ كان كذلك، وإن أنت أحسست فيه البراءة حتّى الغباء أحيانًا، فلأنّ السيّد له المجد قال لنا »إن لم تكونوا كالأطفال، فلن تدخلوا ملكوت السماوات«. من هنا تفهم فكاهته أو مزاحه.

وإن أنت تساءلت كيف لهذا »الفقير« أن يساعد الفقراء؟ فلأنّ الربّ في الكتاب قال »أعطوا غير متأمّلين شيئًا« وقوله »إن أنتم أحببتم الذين يحبّونكم فأيّ منّة لكم…« لذلك كان »أبونا إلياس« يحبّ البشريّة كلّها.

وإن أنت رأيته تذمّر من المماحكات اللاهوتيّة أو الجدل التاريخيّ أو الفكريّ، فلأنّه قرأ هذا عند بولس الرسول.

الفرح عاشه، لأنّ الكتاب، عندما أكله، أعطاه كلّ الفرح. لم يكن لأيّ حدث سياسيّ أو إنسانيّ أن يحيده عن الفرح الذي أعطاه السيّد إيّاه. عندما كان يسألني عن الوضع الاقتصاديّ ويستمع إليّ أشرح له، كان عندما أنتهي يسألني »هل، إذًا، نحزن أو نفرح؟«. إذًا، أظنّه كان يعني أن لا شيء في هذا العالم يعطي الفرح إلاّ »الكتاب«. فلا فراق الأهل والأحبّاء ولا تهجير الدير ونهبه، ولا السكن في بيوت الآخرين حجبه عن الفرح. لأنّه آمن بأنّ »اللَّه معنا«.

وإن أنت رأيته لا يأكل إلاّ القليل، فليس لأنّه على الراهب أن يفعل ذلك، بل لأنّه آمن فعلاً بأنّ كلام السيّد هو حقًّا حقًّا »ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان«. وإن أنت رأيته ينظر إلى ساعته كلّ خمس دقائق ثمّ يسألك أنت عن الوقت أيضًا، فليس لأنّه ملّ الجلوس معك أو ضاق صدره بما تقول. إنّه على موعد مع الحبيب. مع العشيق. فصلاة الغروب عند الساعة الخامسة. فكم هي الساعة الآن؟

مشتاق دائمًا. فهو أوّل الوافدين إلى الكنيسة. وليس مسموحًا أن تخطئ في القراءة عند الصلاة. فالصلاة، بالنسبة إليه، هي مناجاة الحبيب. فلا تشوّهها بأخطائك. أمّا إذا أخطأت إلى إنسان، فأنت كمن يخطئ إلى اللَّه. ليس لأنّ الإنسان مهمّ، بل لأنّ اللَّه تجسّد. آمن فعلاً لا قولاً بأنّه »بالخطايا ولدتني أمّي«. فلم يكن يتألّم إن أنت أخطأت، أو لو أنّ الرهبان الذين يمارسون التوحّد قد أخطأوا. المهمّ هو التوبة وأن لا تعود تخطئ من بعد. أليس هذا ما قاله السيّد للزانية؟

ممنوع عنده، وبحضرته أن تتكلّم بالسوء، أو أن توجّه اللوم إلى أحد الأساقفة أو المطارنة، لأنّه آمن بأنّه »من منكم بلا خطيئة، فليرجمها بحجر«.

الكلام البنّاء هو الأساس، دعونا نتقدّم، لا تنظروا إلى الوراء كامرأة لوط، فإنّ ما في الوراء هو إلى الوراء وما في الأمام إلاّ نور وجه السيّد. كونوا »أبناء للنور«.

هذا لا يعني أنّه لم يكن يتألّم من واقع الكنيسة اليوم، وفي بعض العلاقات المتأزّمة بين الإكليروس والشعب. لكنّ هذا لم يخلق عنده الإحباط الذي يعيشه بعضنا اليوم. »لا تدينوا، كيلا تدانوا« أليس كذلك يا »أبونا إلياس«. بدون العلمانيّين ليس هناك كنيسة، كان يقول. ولا فضل لعلمانيّ متنوّر على علمانيّ جاهل، فالكلّ أخطأ وهو بحاجة إلى الدم المراق على خشبة الجلجلة، يوم تلك الجمعة الرهيبة. كذلك الإكليروس هو بحاجة دائمة إلى هذا الدم، وبالقدر ذاته الذي يحتاج إليه العلمانيّ متنوّرًا كان أم جاهلاً.

مرّة سألته، لماذا أحد الرهبان عندكم يأكل مرّة واحدة في اليوم، وبقولاً فقط؟ فكان جوابه »أخونا مفكّر حالو قدّيس!«.

أنت لا شيء كان يعتقد، لا بل كان يؤمن بأنّه هو أبونا إلياس لا شيء. أمّا إذا عرّف عنك أمام الحاضرين، فأنت إمّا الطبيب المشهور فلان، أو المحامي اللامع فلان، أو الأستاذ الكبير فلان، أو الشخصيّة الكبيرة… هل هذا قمّة التواضع؟ لا بل أكثر من ذلك، إنّه قمّة الانسحاق.

يأسرك بتلك القامة الناحلة الهزيلة وتلك المشية المتباطئة في أيّامه الأخيرة. فتظنّ أنّك أمام لا أحد. أمّا في الحقيقة، فأنت أمام مشروع قدّيس بكلّ ما للكلمة من معنى. ألم يقل سيّدنا المطران جورج في تأبينه يوم دفن »أبونا إلياس تجاوز الدينونة، لقد عفاه اللَّه منها«.

تعرّفت إليه في بارامون عيد الميلاد السنة ١٩٩٦، ولم يمضِ وقت طويل حتّى خلتني أريد أن ألازمه أكثر. بادلني الحبّ.

كنت أجهد لأصلّي معه، لعلّها تكون هذه آخر بارامون أو آخر مديح أو آخر سهرانيّة. كنت أخاف ذلك اليوم، يوم ٢٣ شباط ٢٠١١، يوم الرحيل. لكنّ اللَّه أنعم عليّ بعِشْرة سنين. كان آخر شيء يقوله لي عند الوداع »لا تطوّل الغيبة علينا«. في آخر زيارة له في المستشفى، عندما هممت بتقبيل يديه وداعًا، لم يقل ذلك. أيقنت أنّ »أبونا إلياس« عزم على الرحيل.

عندما عدت إلى البيت، دخلت غرفتي، وبكيت كثيرًا .

مستحقّ مستحقّ مستحقّ. ليس في رسامتك الكهنوتيّة فقط، بل عندما وضعوا فوق وجهك ستر القربان، وستروك عنّا يوم أدخلوك مثواك الأخير.

مستحقّ؟ نعم. فأنت أصبحت لي قربانًا قبل ذلك بكثير.

أبونا الحبيب المتوحّد الأرشمندريت إلياس

المسيح قام.

إذًا، إلى اللقاء.

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share