أمام المجهول : من الخوف إلى الثقة

د.جورج معلولي Friday July 16, 2021 2614

يدّعي المتشائم الواقعيّة. فالواقع عنيفٌ حتّى الوحشيّة. المعرفة تدعم اليقظة، وجهل الواقع يعرّضنا للخطر. يفتح المتشائم عيوننا لنُعاين واقع الأشياء كما هو. هل يمكن أن يكون الإنسان متشائِماً من دون حزن؟ قد تكون الفُكاهة السوداء شكلاً مهذَّباً من أشكال خيبات أملٍ جارحة. غير أنّ هناك ما يزعج في التشاؤم. “الأسوأ آتٍ لا محالة” يقول المتشائم. البشر قادرون على إنتاج الأسوأ وهذا غالباً ما يحدث. ولكن هل هذا حتميٌّ؟ المتشائم عقائِدِيٌّ مُسْتَتِرٌ. يخيب أملُه من كلّ شيءٍ إلّا مِنَ التشاؤم. يعرف كلّ شيءٍ مسبقاً بسببٍ مِنَ التشاؤم. لماذا نكمل مسيرتنا في الوجود إن كانت النتيجة معروفةً مسبقاً؟ التشاؤم حتميَّةٌ منهجيَّةٌ باردةٌ، عقلنةٌ سوداويَّةٌ للواقع، مرآةٌ معكوسةٌ للتفاؤل الساذَج الذي يدّعي أنَّنا ذاهبون قطعاً نحو الخير والمثاليّة.

ولكن في الواقع لا شيءَ مؤكّدٌ: لا الأسوأ ولا الأفضل. فلنُحْجِمْ عن تأطير الحياة في قوالبَ جامدة. هي تذهبُ في الاتِّجاهات كلِّها وفي هذا تَكمن قدرة الحياة الخلّاقة. كما السمكة في البحر السابحةُ في كلّ اتّجاه هكذا تيّار الحياة يجري حرّاً، كما يقول الفيلسوف الفرنسيّ برتران فيرجيليه. ليس مجرى الحياة مستقيماً، إنّما هو مشعٌّ متفجِّرٌ كشعلة نارٍ لاهبةٍ تَنْشُرُ نورَها. لذلك تهرب الحياة من القوالب كلِّها، من السجون كلِّها الّتي تُشَيِّئُها. هذا ما يجعل إنقلاباتِ الأحداث ممكنَةً بطريقة فُجائيَّة وغير متوقَّعة. هذا ما يعطي للواقع أن يتطوّر، وأن يجري كالنهر الذي لا نستحمُّ فيه مرّتين. أن تَسير الأحداثُ بِشَكْلٍ روتينَيٍّ، باهتٍ، سخيفٍ هذا ما تَعوَّدْناه. ولكن ليس هكذا تجري الحياة. هذا اكتشافٌ محرِّرٌ يُفَكِّكُ كلَّ الحِساباتِ وكلَّ التَّوَقُّعات. لا تخافُ الحياةُ من بَعْضِ غَليانٍ، مِنْ بَعْضِ فوضًى خَلَّاقَةٍ. في غنى التفاصيل الصغيرة تتضاعَفُ قِوى الحياة الخلّاقة. لذلك يمكن التفاؤل لأسباب لا علاقة لها بالتفاؤل الفاتر الذي يتَّخذُ قوَّتَهُ من الاعتمادِ على الماضي. التفاؤل الحقُّ يأتي من أبعادٍ أُخرى. كلُّ ما هو حَيٌّ هو غَيْرُ مُؤَكَّدٍ لأنّه ليس أسير الحتميّة. المتفائل الحقّ هو من يَجْرُؤُ على مواجهة المجهول وغير المؤكّد وأن يستقرّ فيه ليطلق القوة الخبيئة في طيّاته. هو ممتلئ بالإيمان في مواجهة ما يأتي. خلف اللاشيء نجد كلَّ شيء. الواقع غير مكتمل بالنسبة لما هو ممكن. لم يقل الواقعُ كلَّ شيء. ذلك أنَّ له غدًا. فلنترك للحياة المستترة في الواقع أن تقول كلمتَها. فلنذهَبْ الى الأعمق لأنَّنا لم نر بعدُ كلّ شيء. هذا هو صبر التفاؤل. لا يحكم. يفتح وينفتح ويعطي لكل الأشياء أن تبقى شفّافة على ما يتجاوزها. الواقع وعدٌ، والفرح يغتذي من وعود الفرح. الحياة حبلى بمستقبل الحياة و”الغد يهتمّ بما لنفسه” ( مت 6 : 34 ). إذ يرى المتشائم أن العالم مليء بوعود لم تتحقّق يستنتج فشلَ العالم. أمّا النظرة الفرحة فتحرّر الوعود الخبيئة. ليس العالم بعدُ ما هو مدعوٌ أن يكونَ وليس هو سجيناً لوَضْعِهِ الحاليّ. العين سراج الجسد وسراج العالم أيضاً. فإن كانت عيونُنا (أي رؤيتنا) مظلمةً فالظّلامُ كم يكون؟( مت 6 : 22).

أن نجعل كلَّ لحظَةٍ شفّافة على الملكوت في قلوبنا وبين البشر حولنا هو ما يحرِّرنا من اليأس الخانق. في سرِّ اللحظة تتكثَّف قوانا في التصاقنا بالآب السماويّ فتصبح قادرةً على خوض المجهول وتجديد الكون. هذه ثقةٌ ترسخ فينا بمعاينة فعل الله في الكون وتجسّد الابن فينا مصلوباً وقائماً: مشهديّة طيور السماء التي تَغدو جائِعَةً وتَعودُ شَبْعى وما زَرَعَت ولا حَصَدَت ولا خَزَنَت، وزنبق الحقل الذي ينمو في الحَقلِ اليَومَ ويَنتَشِرُ بَهيًّا، يعطيها يسوع لنا صوراً شافية من قلق الغد، مرتكزة إلى حنان الله الذي يرعى أبناءه وهو أدرى بحاجاتهم منهم( مت 6 : 32 ).

يهبط ناموس جديد من السماء لا يحتكم إلى قوانين الموت المهيمنة. يقول للشعب الجائع: ألغِ ذاكرة الجوع من دماغك وخلاياك، أي أَلْغِ ذاكرة الموت والخوف من الموت الذي يوقظ الخطايا كلَّها. فلن تكون متروكاً بعد الآن. “في المساء تعلمون أنَّ الربّ أخرجكم من أرض مصر” (خر 16 : 6 ) أي لن تذكروا فيما بعدُ إلّا الفصح الذي أتمّه لكم الرب. تحلُّ ذاكرة الفصح مكان ذاكرة الموت. وتفهمون أنْ “ليس بالخبز وحدَه يحيا الإنسان بل بكلّ ما يخرج من فم الربّ يحيا الإنسان”(تث 8 : 3) أي بالعلاقة مع الرب. هذا انتقالٌ من نمط الحياة بحسب آدمَ القديم إلى نمط الحياة بحسب الإنسان الجديد الآتي من السماء. وفي هذا النمط يعيش الإنسان من الحبّ. وفي الحبّ يتمّ فصح الخوف ونعبر إلى المسيح أرض الأحياء.

1K Shares
1K Shares
Tweet
Share1K