كان تيموثي وير (المطران كاليستوس وير) في السّابعة عشرة من عمره عندما تعرّف لأوّل مرّة إلى الأرثوذكسيّة. وذلك اللّقاء الأوّل بقي في مخيّلته ذكرى حيّة ومضيئة: “حصل ذلك بعد ظهر يوم سبت. كنت أتمشّى في أحياء لندن عندما رأيت فجأةً كنيسةً لم أكن أعرفها. فدفعني الفضول إلى دخولها. الإنطباع الأوّل الّذي كوّنته كان الفراغ. لم يكن فيها شيء، لا منبر، لا كراسي أو مقاعد. فقط ردهة واسعة ومصقولة. وكان الظّلام يخيّم على المكان. بعد قليل، إذ ألفت عيناي ذاك الظّلام، لاحظت أنّ الكنيسة ليست فارغة كلّيًّا بل فيها أشخاص واقفون بمحاذاة الجدران، وأيقونات تنيرها بعض المصابيح، وجوقة تُنشد في مكانٍ ما منها. عندئذٍ تحوّل شعوري الأوّل بالفراغ إلى نقيضه، فأحسست بملءٍ يفوق الطبيعة. كما استشعرت، من خلال الأيقونات ومجموعة المؤمنين الصغيرة، بالوجود السرّي للكنيسة غير المنظورة. أحسست كأنّي مشدودٌ إلى الأعالي وما يرفعني كان أقوى منّي. أجل لقد أُعطيت أن أرى السموات على الأرض”
هكذا عرف كاليستوس وير، ومن دون أن يعلم، ما اختبره موفَدو القدّيس فلاديمير في القسطنطينيّة في يوم من أيّام سنة 988 المباركة. يقول وير: “لمّا قرأت قصّتهم لاحقًا، اشتعل قلبي في داخلي. لكن في ذلك الوقت، وأنا المولود سنة 1934 لأبَوَين إنجليكانيّيَن ممارسَين، لم أكن أعلم أيّ شيء عن الأرثوذكسيّة، ولم أكن أفهم اللّغة السلافية، كما أنّ ترتيب الخدمة ومعناها- وكانت خدمة صلاة الغروب التي تُقام مساء السبت – كانا غريبَين عنّي. فهذه الخدمة التي كانت تُقام في كنيسة لندن الوحيدة في ذلك الوقت لم تحتوِ على أيٍّ من عناصر الفخامة… لا، لم تكن العظمة الخارجيّة هي التي أثّرت فيَّ بل شيء من الدّاخل: صمت المؤمنين والإحساس القويّ والغامض بشركة القدّيسين. منذ ذلك الحين، وقبل أن أقرأ أيّ شيء عن الكنيسة الأرثوذكسيّة وإيمانها وقواعد الحياة فيها، عرفت أنّني أنتمي إليها وأنّني أريد أن أصبح أرثوذكسيًّا. إنّني مسرورٌ اليوم لأنّني لم أكتشف الأرثوذكسيّة عبر القراءات أو اللّقاءات، بل عبر الليتورجيا. وأعتقد أن هذا هو الدرب الأفضل”.
على الرّغم من هذه القناعة الخاصّة والدّاخليّة، انتظر كاليستوس وير ستّة أعوام قبل أن يتحوّل رسميًّا إلى الأرثوذكسيّة. فقد منحته دراسته في جامعة أوكسفورد-أربع سنوات في اللّغات الكلاسيكيّة وسنتان في اللّاهوت – فرصة الإلتقاء بالكاهن الأرثوذكسيّ المحلّيّ الأب باسيليوس كريغوشين، الّذي أصبح لاحقًا مطرانًا في بلجيكا. ثمّ أصبح كاليستوس عضوًا في رابطة القدّيسَين ألبان وسرجيوس الإنغليكانيّة- الأرثوذكسيّة النّاشطة جدًّا، حيث تعرّف إلى محاضرين لامعين أمثال الأب ليف جيله. شيئًا فشيئًا تعرّف وير إلى الأرثوذكسيّة وبدأ يفهمها بشكل أفضل.
مع انتهاء هذه المرحلة الأولى من التقرّب والنضج، قبلت الكنيسة الأرثوذكسيّة في عضويّتها كاليستوس وير سنة 1958 وكان يبلغ من العمر 23 عامًا. كان حسّه الإيمانيّ العام أقرب إلى الكنيسة الرّوسيّة، غير أنّه دخل المطرانيّة اليونانيّة التّابعة للبطريرك المسكونيّ في القسطنطينيّة.
بعد ذلك، في السنوات 1958- 1965، أتت مرحلة طويلة من الأسفار والدّراسات التي اضطلع بها كاليستوس وير شخصيًّا، من دون معلّم أو مرشد. كان يرغب في التعرّف إلى المراكز الرّوحيّة الأرثوذكسيّة وفي دراسة المخطوطات وجمع المواد من أجل أطروحة الدكتوراه في تاريخ الرّهبنة والقدّيس مرقس النّاسك، فسافر إلى جبل آثوس والقدس وجزيرة باتموس. وفي الوقت ذاته، ألّف كتابه الأوّل وهو عرض توليفيّ تاريخيّ ولاهوتيّ للتقليد المسيحيّ الشرقيّ وعنوانه: ” الأرثوذكسيّة، كنيسة المجامع السّبعة”…
سيم ثيموثي وير شمّاسًا واتّخذ اسم كاليستوس، أحد مؤلّفي الفيلوكاليا كاليستوس كزانتوبولوس. أرسله أسقفه إلى باتموس، وتحديدًا إلى دير القدّيس يوحنّا الإنجيليّ حيث أمضى سنة كاملة، فحقّق ما كان يحلم به في عمر المراهقة وأصبح راهبًا: “فكّرت بالأمر وأنا في الخامسة عشرة أو السادسة عشرة من العمر، لكنّني لم أتّخذ أي قرار رسمي، وكنت حينها ما أزال إنجليكانيًّا. بالطبع راودتني الشّكوك لاحقًا، وفي المرحلة الجامعيّة فكّرت مرارًا بالزّواج. لكنّ فكرة الرّهبنة كانت دائمًا تعاودني”.
عام 1966، سيم كاليستوس وير كاهنًا مباشرةً قبل ذهابه إلى أوكسفورد حيث عُيّن أستاذًا في الجامعة، فكان الأرثوذكسيّ الوحيد بين الأساتذة. ألقى وير محاضرات في “الدّراسات الأرثوذكسيّة الشّرقيّة” ضمن كلّيّة اللّاهوت. وفي العام 1982 سيم مطرانًا لذيوكليا (الأبرشيّة اليونانيّة الأرثوذكسيّة التّابعة
للبطريركيّة المسكونيّة في بريطانيا)
في أوكسفورد نفّذ كاليستوس وير المهمّة التي أوكلها إليه الرئيس الروحيّ لدير باتموس وهي أن يكون باني جسور بين الشّرق والغرب. وقد اضطلع بهذه المهمّة على صعيدين:
-أوّلاً بين الأرثوذكس أنفسهم، المتّحدين بالإيمان ذاته وبالرّوح القدس، ولكن المفرّقين عمليًّا بسبب الحدود الجغرافيّة والجنسيّات والولاء للرئاسات الروحيّة المختلفة.
-ثانيًا كان كاليستوس وير أيضًا جسرًا ومعبرًا بين الأرثوذكسيّة والغرب: أوّلاً عبر تعليمه الموجّه أساسًا إلى طلّاب غير أرثوذكسيين، ودوره الفاعل جدًّا ضمن جمعيّة القدّيسَين ألبان وسرجيوس؛ ثمّ عبر كتابته الغزيرة في مجلّات الحوار، وعبر الكتب التي ألّفها ومنها: “مقاربات الله في التقليد الأرثوذكسيّ” الذي عرّف العديد من مسيحيّي الغرب بالمسيحيّة الشّرقيّة. وأخيرًا عبر ترجمته كتاب “زمن التريودي” وميناون الأعياد الكبرى الذي ترجمه بالتعاون مع الأم مريم رئيسة دير بوسّي
(Bussy- en- Othe)
في فرنسا. كما ترجم فيلوكاليا الآباء النّبهاء (اليقظين)، وهي مجموعة نصوص نسكيّة وروحيّة يتراوح تاريخها بين القرن الرّابع والقرن السادس عشر، ونسّق طبعتها الإنكليزيّة في خمسة أجزاء.
*(مقتطفات من مقدّمة كتاب “الملكوت الداخليّ” للمطران كاليستوس وير، الصادر عن تعاونيّة النّور الأرثوذكسيّة للنشر والتوزيع)
رقد المطران كاليستوس وير بالرّب عند الساعة الواحدة بعد منتصف ليل الثلثاء-الأربعاء (24 آب)عن عمر ناهز الثامنة والثمانين. وقد كان إلى جانبه في أيّامه الأخيرة، صاحب السّيادة المطران إيلاريون (ألفاييف)، الذي أقام القدّاس الإلهيّ في غرفته، وناوله جسد الربّ ودمه. وإذ رقد، أقام خدمة التريصاجيون لراحة نفسه أمام سريره.
كتبه التي تُرجمت إلى العربيّة:
1- الكتب الصادرة عن تعاونيّة النّور الأرثوذكسيّة للنشر والتوزيع:
– الكنيسة الأرثوذكسيّة – في الماضي والحاضر.
– الكنيسة الأرثوذكسيّة – إيمان وعقيدة.
– الملكوت الدّاخليّ.
2- كتابه الصادر عن مطرانيّة بصرى حوران وجبل العرب للرّوم الأرثوذكس:
-الطّريق الأرثوذكسيّ
فليكن ذكره مؤبّدًا مع الأبرار والقدّيسين. آمين.