أبصر النّور في أنطاكية سنة 345. كان والده سكوندوس قائد القوّات الرومانيّة في سورية. ووالدته القدّيسة أنثوسة. توفّي والده في السّنة الرّابعة لزواجه وكان لديه ابنة وابن. فرفَضت والدته أن تتزوّج بعد ترمّلها. وتفرّغت لتربية ولدَيها، تربية مسيحيّة خالصة. فكانت تربيَتهم تنضح بعفّة وطهارة وإخلاص.
درس يوحنا اللّغة والبيان في مدرسة الفيلسوف ليبانيوس أشهر فلاسفة عصره. فأجاد القدّيس يوحنّا اليونانيّة التي ساعدته في مواعظه وشروحاته. ودرس الفلسفة في أنطاكية أيضًا. امتهَن يوحنّا المحاماة وبهَر أقرانه بفصاحته وبلاغته. ثمّ رغب فجأة بتركها. وكان ملاتيوس أسقف أنطاكية يرقب تقدّم يوحنّا في العِلم والفضيلة. فلمّا تيقّن من زهده أحلّه في دار الأسقفيّة ثلاث سنوات ثمّ منَحه سِرّ المعموديّة ورقّاه إلى درجة القارئ. وكان بعض المسيحيّون في ذلك الوقت يهابون سِرّ المعموديّة خوفًا من عواقب الوقوع في الخطيئة بعدها. فآثروا تأجيل ممارسة هذا السِرّ حتّى سِنٍّ متأخّرة. وأراد يوحنّا أن يخرج للصّحراء للتعبّد والصلاة والتأمل. إلّا أنّ أمّه طلبت منه أن يؤجّل هذا حتّى ترقد بالرّب إذ لم يكن لها معيل غيره. فرضخ لطلبها، ويقول القدّيس في هذا الصّدد: “ما كدنا -هو وباسيليوس- نبدأ بتنفيذ ما رُمنا حتّى تدخّلت أمّي، المحبوبة جدًّا، ضدّ المشروع. لقد أمسكَت بِيَدي وقادتني إلى غرفتها الخاصّة. وأجلستني، وجسلت قربي، على الفراش ذاته حيث شاهدتُ النّور لأوّل مرة. وهنا فاضت دموعها وكانت زفراتها تقطع نياط قلبي وعباراتها العذبة الحنونة تُمعِن في التقطيع… وممّا قالته لي: انتظر فراقي لهذا العالم، ربّما يكون قريبًا. لقد بلغتُ سنًّا لا يُنتظر معه إلّا الموت. وعندما تعيدني إلى التّراب، وتجمعني إلى أبيك، اذهب حيث تشاء؛ سافر إلى البعيد البعيد، إرمِ بنفسك في لجّة اختيارك فعندئذ ليس مَن يمنعك. ولكن طالما أمّك تتنفّس وتتألّم لا تتركها ولا تُغضب الرّب إلهك إذ تلقيني بلا مبرّر وبلا فائدة في لجج من الآلام أنا التي لم أصنع لك شرًّا. وتابعت: يا بنيّ إذا استطعتَ أن تنسب لي أنّي أزيد همومك الحياتيّة فأنتَ حرّ من شرائع الطبيعة. دُسها برجليك ولا تأخذ بعين الاعتبار شيئًا واهرب منّي كعدوّة تنصب لك الكمين… إذا كنتُ صنعتُ بك شرًّا!!”. وكان هذا الحادث بمثابة نقطة الثّقل في حياته. فجعل من غرفتِه في المنزل قلّاية. وعاش حياة الرّاهب والابن في الوقت نفسه. فتقشّف وكرّس وقته للصلاة.
ثمّ أنشأ، بالاشتراك مع باسيليوس صديقه، أخويّة نُسكيّة ضمّت بعض رفاقهما في التلمَذة. وفي سنة 373، غضب والنس جاش على الأرثوذكسيّين فأكرَه النسّاك على الخدمة العسكريّة والمدنيّة. واعتبر بعض المسيحييّن أنّ تقشّفات النُسّاك ضَرب من الجنون. فضحِك الوثنيّون على الطرفَين. فأخذت الكآبة في نفس يوحنّا كلّ مأخذ. فعلِم أحد أصدقاءه بهذا. فحضّ يوحنّا أن يقيم كلامه حصنًا يدرأ نار الاضطهاد فتردّد يوحنّا ثمّ أنشأ ثلاثة كتب في إطراء السيرة النسكية. ومن ثمّ ذهب إلى وادي العاصي وأوى إلى مغارة وعاد إلى أنطاكية بعد سِتّ سنوات مريضًا، فجسمه لم يقوَ على التقشّف، ورجلَيه أصبحتا ضعيفتَين. لمّا أطلّ يوحنّا على دارس الأسقفيّة، ابتهج الجليل في القدّيسين ملاتيوس وجاء به ورسمَه شمّاسًا رغم معارضته. فأوكلت إليه مهمّة مساعدة المحتاجين، فوزّع الصّدقات وزار المرضى والحزانى.
ودُعي ملاتيوس لحضور المجمع المسكونيّ الثاني في القسطنطينيّة وترأّس أعماله، فأوكَل السّهر على شؤون الكنيسة إلى يوحنّا. ثمّ توفّي ملاتيوس أثناء انعقاد المجمع، فرُسم فلابيانوس خليفة له، الذي سامَه كاهناً سنة 386. سعى لإصلاح المجتمع. وحرّك الأغنياء أن يمدّوا يد المعونة للكنيسة والتي بدورها راحت تبني المشافي والمآوي.
في السنة 378، شرعت الحكومة المركزيّة تتهيّأ للاحتفال بمرور عشر سنوات على حكم الإمبراطور، ففرضَت الضرائب لأجل هذا الاحتفال. فاستثقل الأنطاكيّون هذه الترتيبات الماليّة الجديدة وأبدى جباة الضرائب عنفًا شديدًا واشتدّت وطأة الظلم على الفقراء. فأخذوا يتجوّلون في الشوارع ويشتمون الإمبراطور وأُسرَته. وحطّموا تماثيلهم النحاسيّة ولا سيّما الإمبراطورة بلاكلَّة التي كانت قد غمرت الأنطاكيّين بالإحسانات. وتقطّر قلب فلابيانوس وخشيَ سطوة الإمبراطور وأشفق على خرافه من أن يؤخَذ البريء بذنب الجريء. كان قراره أن يطرق باب الإمبراطور نفسه ويلتمس العفو منه بعد أن طلب منه ذلك القدّيس الذهبيّ الفم وترجّاه.
ووصل فلابيانوس إلى القسطنطينية وهرَع إلى البلاط. وكان قد عانى من التّعب أشدّه. فلمّا أبصره ثيودوسيوس تصدّع قلبه أسفًا فذكَر الامتيازات والإحسانات التي غمر بها أنطاكية وقال أهذا هو عرفان الجميل؟ وعاد فلابيانوس إلى أنطاكية حاملًا العفوَ المنشود واحتفل بعيد الفصح المجيد، فانبرى الذهبيّ الفم يردّ آيات الشكر والتسبيح لأنّ شعب أنطاكية كان ميتًا فعاش وضالًّا فوُجِد. وفي السنة (398-404)، توفّي نكتاريوس أسقف القسطنطينيّة في السابع عشر من أيلول من عام 396، فأصبح كرسيّ رومة الجديدة كرة شِقاق بين الشعب ورجال الكهنوت. وهذا هو الذي عهَد إليه منصبه أن يرفض توسّلات أوّلي الأطماع وأن يفتح أذنه إلى وحي ضمير المؤمنين وصوت الشعب المسيحيّ الحقيقيّ. وكان أفتروبيوس المسؤول عن الكمّ قد عرف الذهبيّ الفم في أثناء رحلاته إلى الشرق، فأُعجب بفصاحته وقدّر فضله فلم يجد أجدر منه بإعادة شعب العاصمة إلى الفضائل المسيحيّة. فإنّه عند المجاهرة باسم الذهبيّ الفم، استصوب الجميع هذا الاختيار. وعرف تعلّق الأنطاكيّين بمرشّحه. فكتب إلى فيكتور أستيروس والي الشرق أن يرسل يوحنّا خفية دون إطّلاع أحد من الأنطاكيّين على ذلك. فبادر الوالي إلى التنفيذ، ووجد أنّ أيسَر الطرق هو الاحتيال بإخراج يوحنّا إلى ظاهر البلد ليتمكّن من تسفيره سِرّاً. فدعا الوالي الكاهن يوحنّا إلى زيارة كنيسة الشهداء حيث مدفون أجساد الشهداء في خارج أسوار المدينة. وكان هذا في أواخر تشرين الثاني. فعدَّ يوحنّا هذه الرّحلة واجبًا مقدّسًا ورضيَ بها. وذهب الذهبيّ الفم إلى المكان الذي اتفّقا على أن يلتقيا فيه. فقبِل دعوة أستيروس للرّكوب وما كادت العربة تتحرّك حتّى فتح الكونت “أستيروس” فمَه قائلًا: “بالحقيقة، ليست غايتي زيارة كنيسة الشهداء. أرجو القدّيس أن يغفر كذبتي”. واتّجهت العربة إلى القسطنطينيّة. ورغب الإمبراطور ومَن حوله أن يستقبلوا المرشّح الأنطاكيّ بما استطاعوا من العظمة والأبّهة والإجلال فدعا الإمبراطور إلى مجمَع محلّي للانتخاب وجمَع أكابر العاصمة واستدعى ثيوفيلوس أسقف الإسكندريّة، ليضع يدَه عليه ويسلّمه عكّاز الرّعاية. وتمّت سيامته أسقفًا في 26 شباط من عام 398. وأرسَل يوحنّا رسائل سلاميّة إلى رؤساء الكنائس. وفي أوّل يوم بعد دخوله القصر الأسقفيّ أحدَث تغييرات. غيّر بعض الأشياء التي من شأنها إغضاب الرّب. فأمَر يوحنّا ببيع جميع الأواني الفضّية والذهبيّة وتوزيعها على الفقراء. وشيّد مستشفى للفقراء، وأقام بأثمانها مأوى للغرباء وبعد ذلك، صرَف جميع الخدّام وأرسل جميع أدوات المطبخ إلى المآوي والفقراء. لم يشهد سكّان القصر الأسقفيّ مثيلًا لِما يجري أمامهم. وتكلّموا باحترام مع سيّد القصر قائلين: إنّ أسقف القسطنطينيّة ثاني أسقف في العالم، وعليه واجبات رسميّة. عليه أن يقيم مآدب، وأدوات المطبخ لازمة. عليه أن يدعو الإمبراطور والإمبراطورة والأعيان. هكذا البروتوكول! وأبدى القدّيس أسَفَه قائلًا: إنّ الأسقف طبيب روحيّ وأب. وليس صاحب مطعم يدعو الناس ليملأوا بطونَهم.
وعني القدّيس بإصلاح الإكليروس. فسَلَق بعضَهم بلسانه سلقًا. وأوجَب عليهم الزُّهد في الملبَس والمأكل والقيام بالواجب المقدَّس. وكان لكلامه وقعٌ شديد في قلوب السامعين، فانقاد إكليروس القسطنطينيّة لصوته وتفقّد القدّيس بنفسه جميع الأديرة فأثنى على المحافظين على فرائض الدعوة وأكرَهَ الذين نفَخَ فيهم ريح العالم على الرجوع إلى الأديرة والتقيّد بقوانينها وتقاليدها. وحرَّم على الكهنة قبول العذارى المصونات في بيوتهم. وأنشأ للعذارى مآوي انقطعنَ فيها للصلاة والفضائل، ثمّ التفتَ إلى إصلاح ما فسَد من أحوال الأرامل فئة الكنيسة العاملة في أوائل عهدها. وحتّمَ أنهنّ إن استثقلنَ الترمّل فليتقيّدن بزواج ثانٍ خيرٌ لهنّ وأولى.
ترأّس الذهبيّ الفم مجمعًا محلّيًا في أيلول سنة 400. وأثناء الجلسات الأخيرة، تقدّم أسقف يتكلّم ويشكو للذهبيّ الفم أوضاع الكنيسة في آسية. وكان القدّيس يسمع الكلام ورأسه بين يديه. وجاء الشمّاس ينبّهه بأنّ وقت القدّاس قد حان ويدعوه للكنيسة. ولكنّه رفض، بعد سماع مثل هذه الأشياء لا يقدر أن يخدم القدّاس. أذناه مازلتا متألّمتَين. كان القدّيس يعرف أنّ أفسس لا تخضع لسلطته. وأنّ أساقفة القسطنطينيّة لم يتدخّلوا مطلقًا في شؤونها. ولكنّ الذهبيّ الفم يكسر الحدود دفاعًا عن كنيسة المسيح. وفتَح تحقيقًا ليتأكّد من صحة هذه الاتّهامات بإرساله أسقفَين للبحث والتدقيق. وفي التاسع من شباط 401، أبحَر إلى آسيا. وفي أفسس، دعا إلى مجمَع مؤلّف من سبعين أسقفًا. وحضَر أمامهم المتّهمين. وأعلن الكهنة أنّهم انخدعوا ووقعوا في الضلال وأنّ نيّتهم حسنة!!!
وفي أثناء غيابه عن القسطنطينيّة، حيكت ضدّه مؤامرة برئاسة الأساقفة، أكاكيوس صديقه، وسفيريانوس وبعض الأساقفة القادمين من أنطاكية وانضمّ إليهم الإمبراطورة نفسها. ولم يعطِ القديس أيّ اهتمام لهذه المؤامرة. ونشَبَ خلاف طارئ بين سفيريانوس وسيرابيون الشمّاس الأكثر إخلاصًا للذهبيّ الفم، وتمّ عقد مجمعٍ لفحصه الأسقف فاعتبر كلامه هرطقة، وأوقف عن الخدمة. فطالَ لسانه هذه المرّة القديس الذهبيّ الفم. لم يستطع مؤمني القسطنطينيّة احتماله. فهاج الشعب وأراد أن يقتله إلّا أنّه استطاع أن يفلت منهم وهرب في البحر ليلًا.
فاغتاظت أفدوكسيا للأمر وطلبت من سفيريانوس العودة. إلّا أنّ الشعب كان يريد أن يراه فقط لينتقم لإهانة القدّيس، فلم يكن أمام أفدوكسيا حلّ إلّا أن تذهب إلى القدّاس وتركع أمام الذهبيّ الفم وتطلب منه أن يغفر لسفيريانوس خطيئته، ففعل. وعمِل على تهدئة الشعب. ولكي تنتقم الإمبراطورة من القدّيس، دعت إلى عقد مجمَع في القسطنطينية، فكان الهدف منه محاكمة الذهبيّ الفم الذي اعتقد أنّ المجمَع سينعقد ليحاكم ثيوفيلوس، فعرف خبث الإمبراطورة وأنّ هناك اتّفاق لبعض المتآمرين عليه وأمّا التّهم فكانت باطلة وسخيفة، غير أنّه انتهى بخلع الذهبيّ الفم. لم يخضع فورًا لحكم القضاة بل ظلّ يواصل أعماله الرّعائية يومَين كاملَين. ولم يتجرّأ عمّال الإمبراطور أن ينفّذوا الحكم السنديانة لأنّ الشعب كان عازمًا على مقابلة القوّة بالقوّة. ثمّ رغب القدّيس حبًّا بالسلام أن يسلّم نفسه بأيدي الجنود دون عِلم الشعب فنُقل في اللّيل إلى مرفأ هيرون على البوسفور، فهامَ القدّيس على وجهه وظلّ تائهًا حتّى وصل إلى بيت قرويّ قُرب ساحل بيثينيّة فأوى إليه. واستيقظ الشعب عند الصباح ولم يجد أسقفه فغضب. واكتظّت الشوارع بالناس وأحاط بعضهم بالقصر من كلّ جانب وصرخوا طالبين إرجاع أبيهم المنفيّ. وظلّوا على هذا الحال حتّى المساء.اشتدّ خوف الإمبراطورة فكتبت بخطّ يدها تبدي اعتذارها وأوفَدت أحد رجالها ليرجوه العودة. فلمّا عبَرَ البوسفور، أبى العودة إلى كرسيّه توًّا لئلّا يخترق حرمة القانون الكنسيّ فإنّ خروجه كان بحكم مجمَعيّ فكان لا بدّ من حكم مجمَعيّ لعودته. فطلب من أفدوكسيا دعوة إلى عقد مجمَع صالح للنّظر في الاتّهامات المنسوبة إليه من مجمَع اللّصوص. ولكنّ الشعب لم يقبل له عذرًا، فسارَ بموكب عظيم إلى كنيسة الرّسل.
وأرادت الإمبراطورة أن يكون لها تمثال في أكبر ساحة في العاصمة، أمام كنيسة الحكمة الإلهيّة. فأقيم لمناسبة الاحتفال بالتمثال ملعب للرّقص والشرب والمصارعة في الساحة المقابلة لأبواب الكنيسة. فلم يستطع الذهبيّ الفم صبرًا. فذكّر المؤمنين أنّ هذه الملذّات من شأنها أن تجدّد قبائح الدّيانات الوثنيّة. ولا يجوز الاشتراك بها. وطلب أن يُكَفّ عن هذه الأعمال. كانت الإمبراطورة تترصّد الذهبيّ الفم. ورأت في معارضته لهذه الاحتفالات تحقيرًا لها. فقامت بتوجيه رسائل إلى الأساقفة الذين سبَق لهم وحكموا على الذهبيّ الفم. فحضر جميع أخصام الذهبيّ الفم والمتآمرين عليه. ومضَت عشرة أشهر والمدينة في قلق واضطراب والقدّيس لا يتزعزع. فاحتال أخصَامه. ثمّ طلبوا طرد الذهبيّ الفم قبل عيد القيامة (17 نيسان) لأنّه محجوج من المجمع. فأتى أركاديوس هذه المنكرة وأوجب على القدّيس الخروج من كنيسته. فقال الأسقف القدّيس: لقد استلمتُ الكنيسة من يسوع المسيح ولا أستطيع أن أقصّر في خدمتها. فإن أردتَ أن أترك هذه الحظيرة المقدّسة فاطردني قهرًا. فطُرد يومَ سبت النور من الكنيسة وحُظّر عليه الخروج من قلّايته. وطُرد من الكنائس أيضًا جميع الكهنة الذين كانوا في شركة الأسقف القدّيس. وكانت العادة حينئذ تقضي بأن يبقى المسيحيّون ساهرين بالصلوات حتّى صياح الديك معدّين طالبي المعمودية -الموعوظين- إلى قبول هذه النعمة. فلجأوا جميعهم إلى الحمّام الكبير الذي شيّده قسطنطين وحولوه إلى كنيسة. فسعى المتآمرون في فضّ هذا الاجتماع. فدخل الجند الحمّام والسيوف بأيديهم مسلّطة واخترقوا الحشد حتّى وصلوا إلى جرن المعموديّة فضربوا الكهنة والشيوخ والنساء واختلسوا الآنية المقدّسة. فخرج المؤمنون خارج الأسوار واحتفلوا بالتّعميد وأقاموا الذبيحة في ميدان قسطنطين. وبعد العنصرة بخمسة أيّام أي في التاسع من حزيران سنة 404. سار أكاكيوس وأعوانه إلى الإمبراطور وقالوا: إنّ الله لم يجعل في الأرض سلطانًا فوق سلطانك. وليس لك أن تتظاهر بأنّك أكثر وداعة من الكهنة وأعظم قداسة من الأساقفة. وقد حمَلنا على رؤوسنا وزر عزل الأسقف يوحنّا. فحذار ممّا ينجم عن إهمال التنفيذ. فأوفد أركاديوس أحد كبراء البلاط إلى الذهبيّ الفم، يسأله أن يهجر كنيسته ورعيّته بالرّاحة العموميّة. فأصغى القدّيس وقام إلى المنفى، فالموت. وصلّى وودّع “ملاك الكنيسة”، ثمّ ذهب إلى مُصلّى المعموديّة ليودع الماسات الفاضلات أولمبياذة الأرملة القدّيسة وبناذية وبروكلة وسلفينة وقال لهنّّ: لا تدعنَ شيئًا يُخمد حرارة محبتكنَّ للكنيسة.
وخرج القدّيس خفية. وقبض عليه رجال الشرطة وعبروا به البحر إلى نيقية حيث ألقوه في السّجن. واستبطأ الشعب خروج راعيهم فارتفعت جلَبَتهم في كنيسة الحكمة. وأقام القدّيس في نيقية أربعين يومًا. وفي الرّابع من آب سنة 404، قامت قوة من الحرس الإمبراطوريّ إلى نيقية لتنقل القديس إلى منفاه. وقضى أمر النّفي بوجوب مواصلة السّفر نهارًا وليلًا إجهادًا وتعجيلًا. وما كاد الذهبيّ الفم يصل إلى مداخل قيصريّة قدوقية حتّى وقع لا يعي حراكًا. فوقف حرّاسه عن المسير وأذنوا له بشيء من الرّاحة. بَيد أنّ فارتيوس أسقف قيصرية شدّد النكير، فاضطرّ الذهبيّ الفم أن “يخرج وينفض غبار رجليه”. وبعد سفَر دام ستّة وخمسين يومًا، وصَل الأسقف القدّيس إلى منفاه في بلدة كوكوس في شمالي طوروس. وعلى الرّغم من إقفارها وحقارتها فإنّ الذهبيّ الفم ابتهج بمرآها لأنّه أحبّ الانقطاع والرّاحة ولأنّ أهلها كانوا قد أوفدوا الرّسل إلى قيصرية يسألونه قبول دعوتهم في بيوتهم.
في السنة (407)، توفّي الأسقف البديل فتأمّل الأرثوذكسيّون أن يعود يوحنا إلى رعيّته. ولكنّ المتآمرين أقاموا أتيكوس السبسطي أسقفًا على القسطنطينيّة. فأبى بعض الأساقفة الاشتراك معه وتنحّى الشعب عنه، فاستشاط غيظًا. فنال من الإمبراطور أمرًا بنقل يوحنّا من كوكوس إلى بيتوس على الساحل الشرقيّ من البحر الأسود. وعهَد ذلك إلى بعض الجنود فقطعوا به آسية الصغرى من غربها الجنوبي إلى شرقها الشمالي بعنف وصلابة وبدون راحة. إذ كانت مهمّتهما أن يُرهقا القدّيس حتّى يسقط ميتًا على الطريق. واندهش أحد الضابطَين من صلابة القدّيس حتّى مال إلى الاعتقاد بأنّ عجيبة حدثت. وحاول أن يُحسن معاملة القدّيس إلّا أنّ الضابط الثاني لا يلين. إذا لم يمُت القدّيس في الطريق فإنّ المكافأة “تطير”. وكان الذهبيّ الفم عارفًا أنّه يمشي إلى الموت، وهذا مشتاه.
لقد بلَغ الثامنة والخمسين من العمر. وهو جِلد على عظم. وكان مستعدًّا لمتابعة الجهاد، لكنّ محبة الله رأت أن يرتاح هذا المناضل العتيد. وفي 13 أيلول من سنة 407 كان القدّيس نائمًا، فأرسَل الله إليه القدّيس باسيليكوس الشهيد الذي تُقام كنيسة على اسمه من منطقة كومان. وقال الشهيد للقدّيس الذهبيّ الفم: “تشجّع يا أخي يوحنّا، غدًا سنكون مع بعض”، ثمّ حضر الشهيد عند كاهن الكنيسة وقال له: “هيّء مكانًا لأخي يوحنا لأنّه آتٍ ولن يتأخّر”.
وأيقظ الضابطان الذهبيّ الفم لمتابعة المسير ليلًا. واستعطفهما القدّيس أن يتمهّلا عليه حتّى بزوغ الفجر لأنّه سيموت في الصباح. وضحك الضابطان وأرغماه على المسير. ومع الفجر شعر القدّيس بأنّ موته قد دنا. وطلب من الضابطَين أن يَرجعا به إلى كنيسة القدّيس باسيليكوس، لأنّهم لم يقطعوا مسافة طويلة. وقبِل الضّابطان هذه المرّة. وفي طريق العودة كان الذهبيّ الفم يسير بنشاط وهِمّة. كمَن يأتي إلى محبوبه. وخلَع ثيابه وارتدى قميصًا أبيضًا طويلًا. واستلقى على بلاط الكنيسة. وتناول جسد الرّب ودمَه الكريمَين. ثمّ قال: “المجد لله على كلّ شيء. آمين”. وماتَ الذهبيّ الفم.
طروبارية القدّيس يوحنّا الذهبي الفم
لقد أشرقَت النّعمة من فمِك مثلَ النار وأضأتَ المسكونة ووضعتَ للعالم كنوز عدم محبّة الفضّة وأظهرتَ لنا سموّ الاتّضاع فيا أيّها الأب المؤدِّب بأقواله يوحنا الذهبي الفم تشفّع إلى الكلمة المسيح الإله أن يخلّص نفوسنا.