القدّيس تيموثاوس

mjoa Thursday January 4, 2024 232

القدّيس تيموثاوس الكاخشتي هو من القدّيسين المنسيّين من تراثنا الأنطاكيّ. عاش في مطلع العصر العبّاسي في قرية كاخشتا الواقعة بين حلب وأنطاكية ومنَحَه الله صُنع المعجزات. وكان له تأثير روحيّ عميق في المنطقة وذاع صيتُه حتّى بلاد فارس حتّى أنّ رجلًا مسلمًا من تلك المنطقة النائية تكبّد السفر وعانى مختلف المشقّات ليقصد القدّيس طلبًا لشفاء ابنه. توفّي في مطلع القرن التاسع الميلادي ودُفن في الدير الذي أنشأه ثمّ نقَلَ رفاته إلى أنطاكية البطريرك ثاوذوروس الأنطاكيّ القدّيس الذي كان بطريركًا في النّصف الأوّل من القرن الحادي عشر.

وُلد تيموثاوس وعاش في منطقة الجبال الكلسيّة الممتدّة من أنطاكية وحلب والتي لا تزال آثار قراها وكنائسها قائمة حتّى الآن وشاهدة لحيويّة تلك المناطق وازدهارها حتّى أقلّه أواخر القرن العاشر. وُلد في عائلة ريفيّة مسيحيّة ميسورة. في قرية كاخشطا، وكان له أخوان وأخت. توفّي والداه وهو رضيع، فاعتنت به أخته وكانت تدور به على النساء المرضعات في القرية لإرضاعه ولمّا بلَغَ السابعة من عمره أرسَلَه أخوه الأكبر إلى مراح الغنم ليسهر عليه. ولِصغر سنّه لم يتمكّن من ردع الطيور التي أكلت الجبن والزبد واللّبن، فضربه أخوه ضربًا مبرحًا، فهرب تيموثاوس وسار حتّى وصل إلى قرية تُسمّى كفرا رموا وفي المخطوط الآخر كفر زوما وهناك حَنَّ عليه بعضهم “وصار عندهم بمنزلة الولد وسلّموه إلى المعلّم ليعلّمه”. وتصادق مع صبيَّين في المكتب وكان يذهب معهما إلى إحدى المغارة ليصلّوا ويعودوا إلى المكتب. وكبر تيموثاوس واكتسب إعجاب أهل القرية وعرض عليه المعلّم أن يزوّجه ابنته الوحيدة فيكون وريثه. إلّا أنّ تيموثاوس سمِع دعوة الربّ وقوله في الإنجيل أن لا يمكن للإنسان أن يعبد ربّين، فقرّر الابتعاد عن القرية. وأعلم القوم الذين استضافوه أنّه يريد أن يزور بيت المقدس فسافر ورافقه بعض أهل القرية وعيّدوا هناك عيد الشعانين وقيامة المسيح الفصح المقدّس وبعدها طلب منه أهل القرية أن يعود معهم إلّا أنّه غافلهم وتوجّه إلى أحد الأديرة وطلب أن يتوشّح بالاسكيم الرهباني. وهناك يعود كاتب السيرة إلى الوراء، ويصف ببلاغة لوعة أخت تيموثاوس وأخيه لمّا هرب من البيت وكذلك تحسّر أهل القرية التي تربّى فيها لأنّه لم يعد إليهم. وبعد أن تمكّن من الحياة الرهبانيّة فكّر تيموثاوس بعد عدّة سنوات أن يأتي ويتفقّد الناس الذين ربيَ عندهم. وفي طريقه من القدس إلى أنطاكية مرّ بالغاب وعرّج على دير مارون لصق شيزر وبات عندهم فترة، وتعلّم منهم صناعة النجارة التي كانوا حاذقين بها وكان ينوي إرشادهم للتخلّي عن القول بالمشيئة الواحدة في المسيح. فلم يقتنعوا من كلامه فخرج ليذهب من عندهم فبكوا لمفارقته وقالوا له: “وأسفاه عليك يا أنبا تيموثاوس من أنّك قد اعتقدت أمانة مكسيمياني” ( أي مكسيموس المعترف، المناضل عن المشيئتين) وفارقهم. “ولمّا وصل إلى قرية كفرا رموا التي تربّى فيها فرح به أهلها فرحًا شديدًا وطلبوا إليه أن يقيم في الدير الذي فوق القرية وفيه قوم قدّيسون مبارَكون فلأجل محبّتهم أجابهم إلى ذلك. وبعد مدّة عرض لبعض الشيوخ المقيمين في ذلك الدير أن يدخل إلى أنطاكية في حوائج للدير، فطلب من تيموثاوس أن يرافقه. ولمّا وصلا إلى جوار قرية كاخشتا، حاولا تجنّب القرية والعدول عن الطريق. “إلّا أنّ إخوة القديس كانوا تحت شجرة توتة عظيمة مجتمعين وقد ذبحوا ثورًا ليعملوا ذكرانًا للشاهد مار جرجس كعادتهم في كلّ سنة ومائدة للكهنة والشمامسة وسائر الإكليروس والعلمانيّين. فلمّا رأوا الراهبَين قد عدلا عن القرية إلى البعيد قال لاون أخو القدّيس للذين كانوا قيامًا عنده: اذهبوا فادعوا هذين الراهبَين ليحضرا عيد الشهيد مارجرجس”. واعتذر الرّاهبان: “لا يمكننا المقام عندكم لأنّنا مستعجلون في الدخول إلى أنطاكية في حوائج الدير”. فذهب إليهما لاون بنفسه وألحّ عليهما بمحبّة المسيح. فعدلا لعنده راجعَين ودخلا إلى بيت القدّيس وأخذت شقيقته تروي قصّة ضياع أخيها. فمسك ثيموثاوس نفسه وفي آخر الأمر عرّف عن ذاته وكان التعانق وفرح اللّقاء. وسأل أخوه لاون بأن يعيّدوا اليوم الثاني وهو الرابع والعشرين من نيسان لفرحهم بأخيهم ورجوعه بعد انقطاع ثلاثين سنة. وألحّ الأخوة وأهل القرية على تيموثاوس كي لا يعود إلى ديره بل يبقى متنسّكًا في جوارهم. فقبل سؤالهم وطلب إليهم أن يبنوا له حبسًا بقرب الشهيد جاورجيوس فانعزل فيه “بعد أن صلّوا عليه صلاة التجنيز كرسم الحبساء”. وبدأ هو من بعد هذا بالصوم الدايم وكثرة السهر والنسك والزهد المذيب للجسد، فشاع خبره في كلّ مكان وقصَدَه الشعوب والأمم من جميع الأقطار يسجدون له، وليس النصارى وحدهم فقط أتوه بل وغيرهم من كلّ الأمم الذين تحت السماء. وإنّ صلواته ومثاله غيّرت حياة أهل القرية فعادوا إلى تقوى الله. وقصده أناس من بعيد، من حمص وحلب ومن بلاد فارس. وأتى أسقف قنسرين بنفسه ليتبرّك منه. ثمّ زاره البطريرك ثاوذوريطوس. وأنعَم الله على القدّيس بمعرفة الغيب وصنع الشفاءات والتواجد في أمكنة أخرى وزاره العديد من المسلمين. وتستفيض السيرة بسرد معجزاته، وهي لا تخفي الأخطاء التي يقع فيها تلاميذه الرّهبان. وامتاز بحكمته ومعرفته لدقائق القلوب. ولمّا قرب أجَله استدعى أهل القرية وأوصاهم أن يعنوا بالدير الذي عاش فيه وبالموضع الذي تدفن فيه عظامه. ووعدهم بأنّه سيسهر عليهم.
لا نعرف بالضبط موقع قرية كاخشتا التي عاش بها القدّيس ولا موقع قرية كفرا رموا أو كفر زوما التي لجأ إليها في طفولته. فالمؤرّخون والجغرافيّون القدماء لم يأتوا على ذكرها. إنّما الدلائل تشير أنّها تقع شرقي أنطاكية غير بعيد عن باب الهوى. وقرية كاخشتا تقع بين كفرا رموا وأنطاكية إذ إنّ تيموثاوس مع رفيقه الرّاهب مرّا بها لمّا كانا متوجّهين من ديرهما في كفرا رموا إلى أنطاكية. وهناك إشارة إلى أنّ كفرا رموا تقع في الجبل الأعلى: فقد جاء في مخطوط باريس على لسان تيموثاوس لمّا صرّح لإخوته عن هوّيته: “وحين خرجت من المُراح لم أكن أدري كيف أنا ذاهب من ضيعة إلى ضيعة إلى المساء بلغ بي القضاء إلى ضيعة في جبل الأعلى يُقال لها كفر زوما “. وجاء في مخطوط صيدنايا: ” وإنّ القدّيس هرب وسار حتّى وصل إلى جبل الأمهان إلى قرية كفرا رموا المصاقبة لمدينة عم (الريحانية) “. ويقول تيموثاوس معرِّفًا عن ذاته “وأرشدتني روح قدسه إلى جبل الأمهان إلى قرية تسمّى كفرا رموا المصاقبة لمدينة عم”. ويبدو أنّ المسافة بين كاخشتا وكفرا رموا غير كبيرة إذ قطعها الطفل تيموثاوس في أقلّ من يوم واحد. وقرية كاخشتا غير بعيدة عن أنطاكية إذ أنّ تيموثاوس ورفيقه بعد أن وصلا إليها كانا “مجدَّين على الدخول إلى مدينة أنطاكية”. واعتذرا لعدم الاشتراك في احتفال عيد القديس جاورجيوس: ” لن يمكننا المقام الآن عندكم لأنّنا مستعجلون في الدخول إلى أنطاكية في حوائج الدير”. وهناك إشارة أخرى إلى موقع كاخشتا. فالرّجل الفارسيّ القادم من الشرق توقّف في قرية تيزين قبيل وصوله إلى مقرّ القدّيس. وهي بلدة معروفة تبعد 25 ميلًا عن بحيرة أنطا كية شرقًا على الطريق بين حلب وأنطاكية . جاء في مخطوط صيدنايا ذيل أُضيف في وقت لاحق وبخطّ مختلف “وكانت جملة حياته خمسة وثمانون سنة وتنيَّح يوم الأربعاء في العاشر من شهر أيلول فجنّزوه أهل الدير وقاطني القرية كما يليق بالقدّيسين. ودفنوه بتكريم جسيم في الدير الذي ابتناه وكان ذلك بتاريخ سنة مائتين وسبعة وخمسين للهجرة فبقيَ هناك مدفونًا. وبعد ذلك نقله بطريرك أنطاكية بتكريم جزيل ووضعه في هيكل القدّيس دوماط خارج باب الجنان ووافق ذلك في اليوم الثامن من شهر أيلول فنسأل إلهنا أن يرزقنا شفاعته. آمين”. والذين أخذوا بعين الاعتبار هذه الفقرة ( التي لا تعود على المؤلّف نفسه ) قالوا إنّ تيموثاوس توفي في السنة 871 أو 872 ميلاديّة المناسبة 257 للهجرة. وبما أنّه كان له من العمر إذ ذاك 85 سنة فيكون قد ولد عام 787، وهذا ما ارتآه سوجيه Sauget، وأخذ عنه الأب توما بيطار. ولكنّ هذه التواريخ لا تتطابق مع ما ورد في السيرة من علاقة قدّيسنا بالبطريرك ثاوذوريطوس وبالخليفة هارون الرشيد. فهارون الرشيد حكم من 786 إلى 809 وثاوذوريطوس كان بطريركًا من 795 إلى 813 بحسب ابن البطريق. فحادثة قبض الخليفة على البطريرك وقعت بين 795 و 809. وكان تيموثاوس قد مضى على تنسّكه زمن طويل وذاع صيته. فإن كان ولد عام 785 وعاد إلى قريته بعد غياب ثلاثين عامًا وكان غادرها وعمره 7 سنوات فتكون عودته في سِنّ السابعة والثلاثين أي عام 824. ولعلّ الناسخ زاد رقم خمسين على تاريخ وفاة القديس. ومن المُلاحظ أنّ العاشر من أيلول لا يقع يوم الأربعاء لا عام 871 ولا عام 872 وفي نظري أنّه وُلد حوالي 735 وكانت مداخلته مع البطريرك والخليفة حوالي سنة 800 ووفاته   بُعيد 820. يقول كاتب السيرة في مقدّمته إن تيموثاوس كان سريانيًّا: “وأمّا تذكار الأب البارّ تيموثاوس الذي كان حبيسًا في الضيعة المسمّاة كاخشتا من عمل الدقس فهذا لأنّه كان سريانيًّا لم يثبّته الروم داخل القسطنطينية كمثل عادتهم في إهمال ما هذا سبيله لا سيّما إذا كان على عهد الهجريّين الإسماعليّين أعني المسلمين. غير أن أمره عندهم مشهور في عظم ما ناله من مواهب الله… وما فعله مع بطريرك أنطاكية ثاوذوريطوس”.
كان تيموثاوس سريانيًّا من أبناء الرّيف السوري وهذا لا يعني أنّه من أبناء الكنيسة السريانيّة المعارضة للمجمَع الخلقيدونيّ (اليعقوبيّة). فإنّه ترهّب في أديار فلسطين القريبة من القدس وجلّها خلقيدونيّة. ولمّا مَرّ في رجوعه إلى بلده بدير مار مارون جادل رهبان الدير الذين كانوا يقولون بطبيعتَين ومشيئة واحدة في المسيح وقال لهم: كما أنّ طبيعتَين للمسيح فكذلك أيضًا ذو مشيئتين هو ولم يتمكّن أن يقنعهم فغادرهم. وبكوا لمفارقته وقالوا له: “وأسفاه عليك يا أنبا تيموثاوس من أنّك قد تبعت أمانة مكسيميانيّ (أي مكسيموس المعترف المدافع عن عقيدة المشيئتين في المسيح). تيموثاوس هو إذن من أتباع الكنيسة الملكيّة الخلقيدونيّة وكان بطريركه ثاوذوريطوس بطريرك أنطاكية الملكي. والبطريرك ثاوذوروس الأنطاكيّ الملكي هو الذي نقل رفاته إلى أنطاكية. وتيموثاوس كان له علاقات وثيقة وشركة مع رهبان ونسّاك عديدين في أنطاكية وضواحيها. ومنهم مَن كان في بابسقا (جبل باريشا)، ممّا يشير إلى أنّ أغلبيّة مسيحيّي تلك المناطق مع كونهم سريانًا كانوا ملكيّين. وهناك إشارة أخرى لتمسّك تيموثاوس بمذهبه ودفاعه عنه علاوة على ما ورد في زيارته لدير مار مارون. فإنّ رجلًا غنيًّا وتقيًّا من حلب لم يكن له ولد، فقصَدَ القدّيس الذي صلّى عليه ووعده بأنه سيكون له ولد، فجاءَه في السنة التالية مع زوجته والولد الذي رزقه. وتقول السيرة: “وإنّ البار صلّى عليهم وصحّح أمانتهم ومضوا من عنده مسرورين ولله وله شاكرين”. فقد يكون هذا الحلبيّ من أتباع الكنيسة السريانيّة اللّاخلقيدونيّة، أو من الملكيّين القائلين بالمشيئة الواحدة. وقد أورد مخائيل السرياني نقلًا عن ديونوسيوس التلمحريّ تنازع الملكيّين حول المشيئة الواحدة والمشيئتين وخصومتهما في حلب على امتلاك الكنيسة الكاتدرائيّة في عهد هشام بن عبد الملك.
ولا نرى مثالًا غير هذا في سياق السيرة لتحويل مَن يقصدوه عن عقيدتهم. وكانت معجزته الأولى مع “رجل مسلم من أهل البلد” جاء لزيارته، فعلم القدّيس أنّه يزني وأراد أن يردعه فنَكَر. إلّا أنّ الله ضرَبَه ولم يشفَ، إلّا بصلاة القدّيس فجاء إليه قائلًا: قد أخطأت إذ زنَيت وكذبت قدّام الله وظننتُ أنّك لا تعلم الخفايا”. وحدّث البار كيف خرج ملاك الله من الوادي كمثل البرق وكيف ضربه بين كتفيه. وقال للطاهر: “يا أبي من الآن أنا أعاهد الله عهدًا أنّني لا أعود إلى هذه الخطيئة أبدًا ما عشت في الدنيا”.ومضى وهو صحيح مسرور شاكر الله وله. والمعجزة 19، هي أيضًا على ما يبدو مع رجل مسلم من حمص. ” وأتى إلى الدير عند البار رجل كبير من رؤساء مدينة حمص ومعه زوجته وكانت من بنات الرؤساء هناك، وفي ذلك العهد لم يكن المسيحيّون من الرؤساء، وهذه المرّة، المرأة كانت الزانية وكشف القديس خداعها فضُربت بالبُرص ثمّ شفاها. “ورجعا إلى بلدهما وهما يمجّدان الله. والمعجزة 21، جرت مع رجل فارسي أُشير إليه صراحة أنّه مسلم. ووَسوَس الشيطان في قلب هذا الرجل أنّ القدّيس لن يستجيب له ويشفي ابنه لأنّه ليس على دينه: “احسب أنّك قد دخلتَ إلى عند القدّيس وعرّفته ما لحقك في طريقك وأخبرته بقصّة ابنك، فإنّه يقول لك عند ذلك لا محالة: لو كنتَ على أمانتنا لعوفي ابنك ولمّا لم تكن على ديننا فلن يبرأ ابنك. فلمّا وسوَسَ له الملعون هذه الأفكار قال في نفسه: “فلو بقيَ ابني ولا يبرأ لمّا أخلّي ديني وأمانتي” وإنّه أراد العودة إلى خلف. ثمّ إنّه عاد إلى فكره أيضًا وقال: فلعلّ الرّجل لا يسألني عن شيء من هذا ولا يذكره لي البتة”. وجاء إلى القدّيس وعلم هذا بما دار في فكره فقال له: إنّ الملعون وسوس لك وأشار عليك بأن ترجع وقال لك بأنّي أريدك أن تخلّي أمانتك. ولكن اعلم أنّ الله لا يلزم أحدًا وبقصدك إلى الله بدءًا وإليّ بعده، فقد قبِل الله أمانتك وقد قُبلت صلاتك قدّام الله في ابنك وعوفيت سائر أعضائه وهو اليوم صحيح الجسم كما تحبّ”. وللحال برئ ابنه وهو في بلاد فارس وفي السنة التالية قصد الأب وابنه القدّيس وقدّما له هدايا. وكان الوضع مختلفًا في المعجزة رقم 9، إذ أنّ الرجل المسلم كان يطرح تساؤلات حول صحّة الإيمان المسيحيّ. “ووافى البارّ ذات يوم رجل مسلم وكانت أفكاره متعربسة من إيمان النصارى وكان يهزأ بهم وإنّه لمّا رأى البار وسمع كلامه النافع الغير ضارّ ووعظَه قال في ذاته: “إن كانت أمانة النصارى صحيحة فأنا أعرف ذلك من هذا الرجل. فلمّا عرف القدّيس ما قد فكّر في نفسه طلب من المسيح أن يكشف له الحقّ”. ورأى الرّجل ظاهرة معجزة إذ نُقل القدّيس إلى أنطا كية وعاد إلى محبسه محمولًا على ما يشبه الطير. وقال له القدّيس: إذا كان من اختيار الرّوح القدس أن يريك هذا كلّه فلله السبح لأنّ الله عرف أنّك مشكّك في ابنه الحبيب الذي أرسله لخلاص العالم وكنت تبغضه جدًّا وتبخسه حقًّا وترتاب في دينه وأمانته وها أنا أكشف لك السِرّ الذي رأيتَه. وشرح له القدّيس مغزى ما رآه. “فلمّا سمع مثل ذلك الرجل المسلم من القدّيس صحّ معه الحقّ وزال ما كان في قلبه من الشكّ وسبّح الله ومجّده ومضى مقرًّا بالمسيح الإقرار الصحيح”.
بدت ظواهر التّقوى وعمل نعمة الله في تيموثاوس وهو بعد فتى يافعًا إذ كان يأخذ معه رفيقَيه في الدراسة ليختليا للصلاة في مغارة قريبة من القرية. ولمّا رأى معلّم المدرسة تقواه وعمق فضيلته، عرض عليه لمّا كبر أن يزوّجه ابنته ويكون وريثه الوحيد. لكنّ تيموثاوس فكّر في كلام الإنجيل وشعر بالدعوة ليتخلّى عن أمور العالم ليتبع المسيح وكان عليه أن يبتعد عن محيط القرية وعن محبّيه الذين تعلّقوا به. ولم يرد أن يجابههم مباشرة فقال لهم عن عزمه زيارة الأماكن المقدّسة ورافقه بعض أهل القرية. ولمّا حان موعد رجوع الحجّاج غافَلهم وتوجّه إلى الأديرة المجاورة للقدس وقصد أحّد الزهّاد وطلب إليه أن يلبسه الاسكيم الرهبانيّ المقدّس ويتتلمذ على يديه. “فضمّه إليه وألبَسه إسكيم الرهبانيّة وعلّمه رسوم المتوحّدين وفضائلهم وتدابيرهم ووصّاه بكثرة السهر والصوم والمحبّة لله وللإخوة وأراه كيف يكون قتال الشياطين”.
فلمّا تمكّن من حياته الرهبانيّة أحبَّ أن يفتقد أهل القرية التي ربي فيها وعرّج في طريقه على دير مار مارون وأخذ يعمل مع الرهبان ويتعلّم منهم صناعة النجارة. وأحبّه الرّهبان إلاّ أنّه لم يبقَ عندهم لعدم موافقته على آرائهم اللاهوتيّة. ووصل إلى قرية كفرا رموا ففرح أهلها للقائه. وطلبوا إليه أن يبقى عندهم: ” إذ أعطاك المسيح سؤالك ولبست هذا الاسكيم المقدّس ونلت بذلك مأمولك فنحن الآن نسألك أن تقيم عندنا في هذا الدير المبارك الذي فوق القرية وأنت تعلم أنّ فيه قومًا قدّيسين فاضلين مبارَكين كاملين”. فلأجل محبّتهم أجابهم إلى ذلك. فعاش تيموثاوس في هذا الدير الحياة الرهبانيّة المشتركة، ويتّضح لنا أنّ الرّهبان الذين تكرّسوا لله لمدى حياتهم لم يكونوا مرتبطين عادة بدير معيّن وبوسعهم أن يتنقّلوا. وعاش تيموثاوس حياة المحبّة والطاعة. وبعد أن أقام هناك مدّة من الزمان، عرَض لبعض الشيوخ المقيمين في ذلك الدير أن يدخل إلى أنطاكية في حوائج للدير فقال له الشيخ: “يا ابني تيموثاوس، أنا أسألك أن تدخل معي إلى أنطاكية”، فقام لأجل الطاعة مسارعًا إلى طاعة الشيخ وسار معه”.
وفي طريقهما كان مرورهما على قرية كاخشتا التي وُلد فيها تيموثاوس وتمّ التلاقي بين الرّاهب وأهله بعد ثلاثين سنة من الغياب. وتمسّك به ذووه ومواطنوه وطلبوا إليه أن يتابع حياته الرهبانيّة لديهم. فقبل على أن يبنوا له “حبسًا” بقرب كنيسة القديس جاورجيوس التي في قرية كاخشتا فحبَس نفسه فيه. وأقبَل يعظهم ويرشدهم حتّى أنّه جعل أهل القرية كمثل الرّهبان كثيري الحسنات. إلّا أنّ روح الشرّ والخصام دخل فيهم، ويئس منهم تيموثاوس فطرح نفسه من الحبس وهو ماسك الحبل وغادر كاخشتا قاصدًا هيكل القديس ذومط قرب كفرا رموا. فلحق به إخوته ليعود فقبل وبنوا له حبسًا “واجتمع الكهنة وأهل البلد وصلّوا عليه صلاة التجنيز كرسم الحبساء وتمّموا الرسم كمثل سنتهم وحبسوه وصلّوا عليه وصلّى هو عليهم وانصرف كلّ واحد منهم إلى منزله شاكرين الله وله”. وهكذا تبدأ المرحلة الجديدة من حياة القدّيس، إذ بقيَ في هذا المحبَس حتّى الممات ولم يغادره إلّا عندما كان يُنقَل بطريقة معجزة ليلتقي بغيره من النسّاك ولزيارة الأماكن المقدّسة في القدس وجبل سينا.
إنّ الحبس الذي عاش فيه تيموثاوس هو برج كالأبراج التي لا تزال قائمة في منطقة الجبال الكلسيّة والتي وصفها الآباء بينيا وكاستلانا وفرناندز في كتابهم “الحبساء السوريّون” الذي صدر عام 1980. ومن أبرزها برج جرادة بين معرة النعمان وأريحا. يعيش الحبيس في أعلى البرج في غرفة صغيرة لا يغادرها وتُرفَع إليه حاجاته بواسطة حبل أو سلّم خشبيّ. وتذكر السيرة أنّ لغرفة القدّيس طاقة يفتحها عندما كان يسمح للناس الاتّصال ويغلقها عندما كان ينعزل للصلاة ولا يسمح لأحد أن يناديه عندما تكون الطاقة مغلقة.
وهناك تشابه في أسلوب حياة الحبيس في البرج والعموديّ على العمود. حيث يطلق اسم العمودي على الحبيس واسم العمود على البرج. (راجع المعجزة 19 والمعجزة 23) وفي المعجزة 22، ذكر للحبيس في بلاد الروم الذي له على رأس العمود عدة سنين. وسأله أمير الجيش: هل عندك إنسان غيرك في حبسك على العمود؟ وأمر الأمير غلمانه بأن ينصبوا سلّمًا طويلًا إلى الحبس ويطلعوا إليه ليبصروا مَن عنده. فلمّا طلعوا إليه أبصروا أنّه ليس له موضع واسع لنفسه فضلًا عن أن يسَع آخر معه وأنّ حبسه لن يسَعه وحده لأنّه لم يكن موضع يمدّ فيه رجليه”. عناك إذن محبس على العمود أي غرفة صغيرة تكاد تسع للناسك ولجرّة ماء وهي شبيهة بالحبس الذي في أعلى البرج. ولذا يسمّى تيموثاوس في المخطوطات حبيسًا وفي بعضها عموديًّا.
بعد أن اعتزل تيموثاوس في حبسه تفرّغ للصوم والسهر والصلاة في اتّحاد عميق مع الله، واعتزاله في برجه لم يقطعه عن العالم. وتذكر السيرة أنّه أقبل يعظ أهل القرية ويرشدهم إلى طريق الله “حتى أنّه جعل أهل القرية كمثل الرّهبان”. واجتذب شيئًا فشيئًا شبّانًا أرادوا عيش الحياة الرهبانيّة تحتَ إرشاده. وأوّل من تبِعه الصبيّان اللّذان كانا يتعلّمان معه وقد ربّي معهما في ضيعة كفرا رموا وهما دانيال وميخائيل اللّذان لمّا سمعا به “قصداه يتبرّكان منه فصارا له تلميذَين مهذّبين”. وشيئًا فشيئًا، تكاثر الرّهبان فقام في جوار البرج وكنيسة القديس جاورجيوس دير يعجّ بالرهبان تلاميذ تيموثاوس الذين يتّبعون إرشاده ويأتمرون بأوامره. والسيرة لا تخفي الأخطاء التي وقع فيها بعضهم والقدّيس يعنى بتهذيبهم وإصلاحهم وهو يبدي معرفة دقيقة لأمور الروح ورقّة في الإحساس.
ويتبيّن من السيرة أنّه كان كاهنًا وقد أرسل ليعطي القربان لبعض النسّاك بشكل معجز يوم الخميس العظيم. وتفيدنا السيرة عن صلاة الفرض والساعات وتلاوة المزامير المتواصلة. كما تذكر لنا أنّه كان في صومعته أيقونة. فقد ورد في المعجزة 20 عندما طلب منه تهدئة العواصف: ” ثمّ إن البار التفت إلى أيقونة الطاهرة أمّ النور مريم والدة إلهنا وقال… ” وكان قدّيسنا جريئًا ولم يتقاعس عن تنبيه البطريرك ثاوذوريطوس الأنطاكيّ الذي كان يحبّ الأبّهة والبذخ أنّ سلوكه منافٍ للرّوح الرسوليّة، وجعله يعود إلى حياة أكثر بساطة بعد أن تعرّض للقتل على يد الخليفة. وكان له صداقات روحيّة مع أشهر نسّاك عصره. فورَد في المعجزة 9، أنّ ناسك جبل اللّكام لمّا دنا أجَله طلب إلى الله أن يحضر إليه الطوباويّ تيموثاوس مع الطوباويّ الذي باكسندرس والآخر الذي في بابسقا. فحضر الثلاثة وجنّزوه. وقرّروا أن يتوجّهوا معًا إلى زيارة الأماكن المقدّسة في القدس وجبل سينا. وفي المعجزة 12 يُحمل تيموثاوس بشكل عجيب يوم الخميس العظيم ليُناول القربان المقدّس لناسك جبل اللّكام. وأرى أنّ هذا الناسك هو نفسه المذكور في المعجزة 9 إذ كلاهما في جبل اللّكام (الجبل المطلّ على البحر غربي أنطا كية) وكلاهما بليت ثيابهما وغطّى الشعر جسمهما وهذا أمر فريد في نوعه. وقد حصل تبديل في ترتيب الأحداث وكان على المعجزة 9 أن ترد بعد المعجزة 12.
وفي المعجزة 13، يحضر بشكل معجز وبدون أن يرى ليشارك الناسك الذي بقرفل صلاة الساعة التاسعة. وكان رجلان يلتقطان العفص، سمعا صلاة الناسكَين يجاوب أحدهما الآخر ولكن لم يريا سوى ناسكًا واحدًا. فاستفسرا عن الأمر فأجابهما الناسك: إنّي مقيم هنا والصوت والنغمة التي لا يرى صاحبها فإنّي تقت واشتهت نفسي أن أصنع صلاة مع القدّيس تيموثاوس الذي هو في الضيعة المسمّاة كاخشتا وقضى الله شهوتي وهو الذي يزمّر (يتلو المزامير) معي. ويلاحظ أسلوب تلاوة المزامير بالتناوب. فالفريق الأول يتلو آية والفريق الثاني يتلو التالية. وفي المعجزة 22 يحضر بشكل معجز لدى عموديّ بلاد الروم ويشارك في الصلاة معه من دون أن يرى وكان قد طلب العمودي من الله أن يرسل إليه تيموثاوس ليستأنس به أثناء غزو الجيوش العربية: فهو يجيب الأمير الذي استغرب سماع صوتَين يتلوان الصلاة ويجيب أحدهما الآخر وهو لا يرى سوى العموديّ وحده: ” لمّا وافيتم لتقتلوا وتخرّبوا فزعت منكم وإنّي طلبت من الله أن يوفّق لي مَن يؤنسني فبعث لي بالمغبوط تيموثاوس الذي هو حبيس في كاخشتا من إقليم بلد أنطاكية”. إنّ السيرة تصف لنا الحياة النسكيّة والرهبانيّة والحياة الليتورجيّة القديمة وتؤيّد ما جاء في كتاب الرهبان الفرنسيسكان عن العموديّين والحبساء والرهبان السوريّين وتظهر أنّ الحياة الرهبانيّة ما زالت حيّة في بلادنا مئتي سنة بعد الفتح الإسلامي.

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share