وُلد القدّيس ملاتيوس الأنطاكيّ في ملاطية، وترعرع في كنف عائلة ميسورة على محبّة الله والعادات الكنسيّة الطيّبة. لكنّه سلَكَ منذ شبابه في الإمساك والصلاة. حصل على قسط وافر من العلوم، ولفتت الأنظارَ إليه طيبةُ قلبه وأمانته وحبّه للسلام، وكان صاحب شخصيّة جامعة إلى حدّ بعيد. اختاره أتباع آريوس أسقفًا على سبسطية، وليس هناك ثمّة ما يشير إلى اقتباله الآريوسيّة. غير أنّ الاضطراب الحاصل في سبسطية حال دون بقائه فيها. فغادرها إلى الصحراء ثمّ انتقل إلى مدينة حلب السوريّة. في تلك الأثناء كانت أنطاكية مستأسرة لشتّى الفرق الآريوسيّة. وعندما فرغت سدّة رئاسة الأسقفيّة، أتى فريق آريوسيّ بملاتيوس ليملأ الفراغ، وقد وافق عليه الأرثوذكسيّون لأنّهم كانوا على معرفة بطينة هذا الرّجل. ومنذ اليوم الأوّل لتبوّئه سدّة أنطاكية واجه استحقاقًا صعبًا. حين شاء قسطنديوس الملك أن يفسّروا له وللشعب معنى ما ورد في سفر الأمثال الإصحاح 8، الآية 22 “الربّ قناني أوّل طريقه من قبل أعماله”. وهذه كانت بعامّة، إحدى الآيات التي اعتاد الآريوسيون الاستناد إليها لتبرير قولهم بأنّ الابن الذي هو حكمة الله مخلوق. فدعا ملاتيوس المؤمنين إلى المحبّة والسلام وساق الآيات الكتابيّة التي تورد ولادة الابن من الآب وعلاقته به. اعترف بأنّ المسيح هو ابن الله، إله من إله. وواحد من واحد. كلام ملاتيوس كان كافيًا. الأرثوذكسيّون باركوا والآريوسيّون خابت آمالهم، ورفعوا أصواتهم احتجاجًا على إجراءاته وطالبوا بعزله وإبعاده فجرى نفيه إلى أرمينية. وجُعل مكانه أفظويوس الآريوسيّ. ولم يطل الزمن حتّى أخذت رياح التغيير تنفخ، عندما حلّ يوليانوس الجاحد مكان قسطنديوس الملك، وأعاد الأساقفة المنفييّن إلى كراسيهم ومبقيًا على الآريوسيّين. ولمّا بلغ ملاتيوس أنطاكية ألفى الوضع في أسوء حال. خمس فئات متناحرة برزت على الساحة، يومذاك. فأخذ ملاتيوس يرعى شعبه ويلملم شتاته وينفخ فيه روح الثّبات والمواحهة بإزاء الضغوط الوثنيّة المتنامية التي عمل يوليانوس على إزكائها بقوّة وعنف. وبقيت الحال مشدودة على هذا النحو إلى أن قضى يوليانوس نحبَه، وخلفه جوفيانوس الأرثوذكسيّ. وبعد أشهر قليلة رقد فحلّ والنس على إمبراطوريّة الشرق محّله، وما لبثَ هذا أن وقع تحت تأثير زوجته الآريوسيّة فانحاز إليها مذهَبًا.
عادت الآريوسيّة إلى الواجهة وبوشر بإخراج الأساقفة الأرثوذكسيّين من كراسيهم. وملاتيوس كان في عداد هؤلاء، فتمّ إبعاده إلى أرمينية إلى ما بعد وفاة والنس في 9 آب 378 م. هناك عدّة عوامل أساسيّة كان لها فعلها في الحفاظ على أرثوذكسيّة أنطاكية، في حين قضى ملاتيوس أكثر الأوقات كأسقفٍ في المنفى. منها تأثير ملاتيوس على المؤمنين، وقد أضحى رمزًا للكنيسة الصامدة. والعامل الآخر كان في بقاء الشعب على اتّصال براعيه والتسلّح بتوجيهاته. ومن جهة أخرى كان المؤمنون حفظة الكنيسة في غياب راعيها عنها. وكذلك لعب الرّهبان والنسّاك دورًا مشهودًا له في تثبيت المؤمنين في أرثوذكسيّة الرّأي.
وفي خريف 379 م، دعا ملاتيوس إلى مجمع في أنطاكية ضمّ مئة وخمسين من الأساقفة. وقد تبيّن أنّ هذا المجمع كان بمثابة تمهيد للمجمع المسكونيّ الثاني 381م. والذي كان ملاتيوس الأب والشيخ الأبرز فيه. وما إن تقدّم المجمع المقدّس في أبحاثه قليلًا حتّى مرض ملاتيوس ومات. فبكاه آباء المجمع ورثاه عدد من الآباء البارزين. ثمّ جرى بعد ذلك نقله إلى أنطاكية ودفن بجوار ضريح الشهيد بابيلا. بعض من رفاته اليوم موجود في كنيسة القيامة في القدس وبعضها في المعهد اللّاهوتي في خالكي، اسطنبول. هذا هو القدّيس ملاتيوس الذي ترك لنا نفسه كلمة من الكلمة. وكما قال عنه القدّيس غريغوريوس النيصصيّ: “أنّه يرى الله الآن وجهًا لوجه ويصلّي من أجلنا ومن أجل جهالة الشعب” بركاته تشملنا، آمين.
طروبارية القدّيس ملاتيوس
لقد أظهرتكَ أفعال الحقّ لرعيّتك قانونًا للإيمان وصورة للوداعة ومعلّمًا للإمساك، أيها الأب رئيس الكهنة ملاتيوس، فلذلك أحرزتَ بالتواضع الرّفعة وبالمسكنة الغنى، فتشفّع إلى المسيح الإله، أن يخلّص نفوسنا.