القدّيس البارّ سمعان اللاهوتيّ الجديد (+1022م)

mjoa Tuesday March 12, 2024 334

symeon_the_new_theologianبين الكواكب اللّامعة في سماء القدّيسين الأبرار ثلاثة أُهِّلوا للَقب ” اللّاهوتي”: القدّيس يوحنّا الإنجيلي، التلميذ الذي كان يسوع يحبّه والذي اتّكأ على صدره في العشاء واغترف المياه الحيّة لمعرفة كلمة الله. والقدّيس غريغوريوس النـزينـزي الذي بعدما عايَن بعين داخلية منقّاة سِرّ الثالوث القدّوس صدح به مسخِّرًا لخدمته خير ما أبدعته البلاغة الهيلينيّة. إلى جانب هذَين هناك القدّيس سمعان اللّاهوتي الجديد الذي بعدما غاص في نور الرّوح القدس أرسَله الله نبيًّا جديدًا إلى مجتمع بيزنطيّ مرتَهَن إلى المسيحيّة الشكليّة والرّسمية شاهدًا لكون كلّ مسيحيّ مستحقّ لاسمه مدعوًّا، هو أيضًا، إلى الاستنارة المقدّسة وأن يصير ابنًا لله في الروح القدس.
وُلد قدّيسنا في غلاطية بفلاغونية، في آسيا الصغرى، سنة 949 م لعائلة مقتدِرة من النبلاء. فلمّا بلغ الثانية عشرة أرسَلوه إلى المدينة المتملّكة لمتابعة دروسه استعدادًا للدخول في خدمة القيصر. سلَكَ في الطيش بعضًا من الوقت لكنْ رأَف الرّب الإله بِه فلمّا ينـزلق في مزالق الفساد بل انتشَلَه من الجبّ من خلال قراءات روحيّة كانت له فشرَعَ يبحث، على الأثر، عن رجل قدّيس قادر أن يرشده إلى الخلاص رغم الكلام المحبط الذي سمعه من المحيطين به . قالوا عن زمانه إنّ رجلًا قدّيسًا كالذي يلتمس لا وجود له. رغم ذلك استمرّ في البحث إلى أن وجد أبًا روحيًّا، راهبًا حبيسًا في دير ستوديون. هذا كان سمعان التقيّ . لكنّ سمعان هذا لم يشأ ان يقتبِله راهبًا واكتفى بإعطائه كتاب القدّيس مرقص الناسك ليقرأ. حالما فتح قدّيسنا الكتاب طالعه القول التالي: “إذا كنتَ تبحث عن الشفاء فاعتنِ بضميرك واصنع ما يُمليه عليك فتجد المنفعة” (القول 69). للحال اعتبر وشرع في اتّباع ما يشير به. قال له ضميره، محبّة بيسوع، أن يستزيد من الصوم والسهر فأخذ يفعل كذلك. ولم يطل الوقت به حتى تلقّى عربون الحظوة عند الله في معاينة عجيبة للنور غيرِ المخلوق نقلته كخارج العالم وخارج جسده. ملأته الفرحة الكبرى وسبّح في الدمع حارًّا وأخذ يردّد بلا توقّف ولا كلل: كيرياليصون (يا رب ارحم). وفي قلب ذلك النور عاين أباه الروحيّ سمعان قائمًا إلى يمين غيمة مضيئة يعلّمه فنّ الصلاة دونما تشتّت. وإذ لم تكن خبرته الأولى في معاينة المجد الإلهيّ مؤسَّسة على ركائز اللّاهوى فإنّه ما لبث أن سقط في الفتور والتراخي. لكنّه عاد فتاب كما عن خطيئة عظيمة. ولسِتّ أو سبع سنوات، بعد ذلك، استمرّ في علاقته بأبيه الروحيّ دون أن يسعى إلى الخروج من العالم وبطلانه.
ومن جديد رأَف الربّ الإله به وانتزعه كما من شعره من حمأة العالم وأقامه أمام وجهه. خرج إلى مسقط رأسه في مهمّة رتّب خلالها شؤونه المعلَّقة وعاد بسرعة إلى المدينة المتملّكة لينضوي تحت لواء أبيه الروحيّ مسلِمًا نفسَه إليه بالكامل. استقرّ في قلّاية صغيرة تحت درج قلّاية سمعان أبيه. هناك كان دائم النظر في خطاياه يقوم من الأعمال بأحقرها لاغيًا إرادته الخاصّة تمامًا معتبرًا أباه كالمسيح نفسه، لاثمًا، بإكرام كبير، كلّ مكان وقف فيه أبوه للصلاة كما لو كان قدس الأقداس. على هذا، وقد احتمى قدّيسنا بصلاة سمعان، صارَ بإمكانه أن يردّ عن نفسه، بلا خوف، هجمات الأبالسة التي حاولت، بكلّ قواها، أن تبثّ فيه الخوف والكسل والنجاسة والحسد، بكلّ عنف، لتبعث في نفسه اليأس.
غريبًا أضحى عن كلّ شيء، يحفظ الصمت متواترًا. كان يقف أثناء الخدم اللّيتورجية مطأطئ الرأس يذرف الدمع مدرارًا لسماعه النصوص الكريمة. بعض الرّهبان اضطرب لمعاينة التقدّم الذي أحرزه طالب جديد. اعتبروا الأمر دينونة لهم ولفتورهم في السيرة. اتّهموه لدى رئيس الدير بأنّ له بأبيه الروحي صلات أوثق ممّا ينبغي. وإذ لجأ قدّيسنا إلى صلاة أبيه ليتقوّى أكّد له أبوه أنّه سيأخذ من العلاء نعمة تزيد مرّتين عن النعمة التي له هو. إثر ذلك دخل إلى قلّايته، تلك اللّيلة، فإذا بنور سماويّ يستلب عقله ويمتّعه من الحبّ الإلهي بفرح لا يوصف. ومع أنّه كان، بعد، قليل الدراية فإن الله أسبغ عليه، مذ ذاك، من الحكمة قدرًا أثار دهَشَ رفقائه. لكنْ حقَد عليه حسّاده وتآمروا عليه إلى أن نجحوا في إخراجه من دير ستوديون. من دير ستوديون انتقل قدّيسنا إلى دير صغير هو دير القدّيس ماما. انضمّ إليه كطالب رهبنة، لكنّه حافظ على صلاته بأبيه الروحيّ سمعان التقيّ. وقد بقي كذلك إلى أن اقتبل الإسكيم من يده واتّخذ اسم سمعان أيضًا. تلك المناسبة كانت إيذانًا ببدء مرحلة جديدة من الترقّي الروحيّ في حياته فلاذ بالصمت كاملًا وكذا بالصلاة وتأمّل الكتاب المقدّس مكتفيًا لجسده من الطعام ببعض البقول. قلّايته، التي لم يعد يخرج منها إلّا للإشتراك في الخدم الإلهية، أضحت له أتونًا متّقدًا غاص فيه بكلّيته ليتحوّل إلى لهب حبّ نقيّ كثيرًا ما أدخله ربّه، من خلاله، حالة الذهول والدهش. سمعان، في إحدى مقالاته، شبّه نفسه برجل شقيّ بعدما سقط في جبّ الحمأة سحبه ربّه منها رأفة به، ومن ثمّ استاقته يد أبيه الروحيّ عبر فخاخ العدوّ وصعوبات عاناها جمّة إلى ينابيع المياه ليغتسل ويتنقّى ممّا علِق فيه ويتحوّل من العمى إلى معاينة الرّوحيات. وعلى قدر ما تنقّت بصيرته، نعِم برؤى نورانية تنامت وضوحًا. وفي نور كالشمس لا هيئة له سقَطَ حجاب عدم الحسّ لديه، فعاين، شيئًا فشيئًا، وجه المسيح وميّزه بنقاوة متزايدة. أُخذ كما خارج الجسد فصار في ذهول. كلّمه المسيح وأسماه أخًا وربيبًا. لم يفهم إلّا بعد سلسلة من الرؤى وبعدما استغرق في ذرف الدموع أمام إيقونة والدة الإله أنّه اقتنى، داخل قلبه، ذاك الحب مُشَخصنًا الذي هو السيّد نفسه. مضَت على قدّيسنا في دير مار ماما سنتان لاحظ رئيسه خلالها أنّه تقدّم، في الروح، تقدّمًا عجيبًا فسامَه كاهنًا. يوم سيامته نزل الروح القدس نورًا بسيطًا لا هيئة له ليغلّف الذبيحة. مذ ذاك، وعلى امتداد حياته الكهنوتية، عاد لا يمرّ عليه يوم أقام فيه الذبيحة دون رؤية مماثلة. وإذ كانت تحيط به غيمة مضيئة، كان يرتسم على وجهه تعبير ملائكيّ حتّى لم يكن بإمكان أحد أن يحدّق فيه كلّما بارك الشعب.
ورقد رئيس الدير واختير سمعان خلفًا له. الحياة الرّهبانية هناك كانت متراخية واستحال المكان مدافن للعامّة. فشرع قدّيسنا، مذ ذاك، في إعادة بناء ما تهدّم إلّا الكنيسة، كما أخذ يستنهض همم الرهبان سعيًا لاجتذابهم إلى التماس وجه العليّ كما عرفه هو. كان، لهذه الغاية، يقف واعظًا كالنار ثلاث مرّات في الأسبوع. لم يكتفِ بتذكيرهم بمبادئ الحياة المشتركة بل نظير “امرء فقير امتلأ محبّة أخويّة”، متى حظي ببركة خاصة، ركض إلى رفقة الشقاء فرحًا ليعرض عليهم ما حصل عليه ويحثّهم على التحرّك بسرعة ليستفيدوا، هم أيضًا، من سخاء الذي أحسن إليه. هكذا شرع سمعان يكشف لرهبانه العجائب التي تمّمها فيه ربّه مؤكّدًا بقوة أنّ لنا جميعًا، منذ الآن، في هذه الحياة، أن نبلغ رؤية ملكوت السموات. هذه الرّغبة العميقة في إشراك إخوته بالنعمة التي تلقّى هي التي كمنت وراء الحميمية الشخصية لكتاباته ممّا لا نجد له مثيلًا عند الآباء إلّا ما ندر.
هذه ” الحميّة الجامحة” لسمعان أثارت اعتراض بعض الرّهبان وملاحظاتهم التهكّمية. هؤلاء آثروا سيرة سهلة وأدانوه كمتبجّح. اشتدّت حركة المقاومة ضدّه إلى أن انفجر في وجهه ثلاثون راهبًا قاطعوه بعنف، ذات مرة، خلال إحدى عظاته، وأخذوا يزأرون عليه كالحيوانات الشرسة . لم يترك مكانه. حافظ على ابتسامته وهدوئه فحدّ من هياجهم . فما كان منهم سوى أن خرجوا من الكنيسة في جلبة عظيمة، وطلبوا وجه البطريرك سيسينيوس مشتكين . فلمّا نظر هذا الأخير في الأمر برّر القدّيس بالكلّية وحكم عليهم بالنفي . غير أنّ محبة سمعان كانت أكبر من أن يُسلم خرافه إلى الضلال، فعمل على إبطال العقوبة في حقّهم وخرج يلملمهم ويستسمحهم ويتوسّل إليهم أن يعودوا إلى الدير.
ولم يمضِ على تلك الحادثة وقت طويل حتى عاد السلام من جديد وأخَذَ الرهبان ينشطون في معارج الحياة النسكيّة إلى أن أضحى المكان أحد أبرز الحصون الرّوحية في المدينة. هذا التطوّر الطيّب، جذب إلى الدير العديد من عامة المؤمنين وتلاميذ قدموا من بعيد. مهام سمعان الرّعائية تضاعفت. ومع ذلك لم يَحلَّ شيئًا من أتعابه النسكيّة فكان، ثلاث مرات في اليوم، في ساعات محدّدة، ينكفئ في قلّايته ليغسل الأرض بدموعه. الدموع بالنسبة إليه باتت طبيعة ثانية ومنها ازدهرت المحبة والرّأفة حيال الجميع وكذا الصبر في المحَن. كانت مسحة جذّابة من النعمة الإلهية تضيء وجهه من الرّوح بفرح داخليّ. وإثر رؤية نورانية جديدة، تلقّى هبة اللاهوت. مذ ذاك كان إذا انخطف يصير في ذهول وإلّا أمضى لياليه في تأليف أناشيد للحبّ الإلهي عجيبة، وهو ما فتئ يشكّل إحدى أثمن الشهادات عن مفاعيل النعمة في نفس قدّيس. انتشار كتاباته وتعاليمه أتاح للعديدين أن يستعيدوا حميّة زمن الآباء القدّيسين وهيّأ، من بعيد، لانتصار الهدوئية بصفتها العقيدة الرسميّة للكنيسة الأرثوذكسية.
سنة 1005 استقال سمعان من رئاسة الدير واعتزل، حبًّا بالله، في إحدى القلالي ليعطي نفسه بالكامل لسيرة الهدوء المقدّس ويدعم، بالصلاة، جهادات رهبانه كمثل موسى الصاعد إلى رأس التل. كان قد ألف المشاهد الإلهية وخبر معرفة المستقبلات وما ستؤول إليه الخليقة. في إحدى اللّيالي، صار في النور الذي اخترق كلّ أعضائه وجعله، بكلّيته، نارًا ونورًا. وإذا بصوتٍ من فوق يذيع عليه أنّ هذا المجد الذي جعله يتجلّى هو إيّاه المدّخَر للمختارين في القيامة العامة. مذ ذاك، وقد ملَكَه روح الرب القدّوس وصار إلهًا بالنعمة، أخذ يخطّ مقالاته اللّاهوتية والميستيكيّة. ومع أنّ قدّيسنا كان قد بلغ الكمال، على قدر ما هو ممكن للإنسان على الأرض أن يبلغه، فإنّه عانى مشقّات وأتعابًا مستجدّة. استفانوس، متروبوليت نيقوميذية، الذي أضحى مساعدًا للبطريرك وكان رجل علم كثير وذا وزن في الأوساط الرّسمية كبير، لمّا رأى ما تمتّع به سمعان من مكانة في نفوس الكثيرين، حسَدَه وأخذ يتحيّن الفرص للطعن فيه وإخزائه. أثار معه إحدى المسائل اللّاهوتية الحسّاسة فأعطاه القدّيس جوابًا باهرًا في شكل أبيات شعريّة. ممّا قاله له أنّ الكلام في اللّاهوت لا يكون إلّا لمَن خبر الرّوح القدس. هذا الجواب أثار حقد الأسقف فعمِل كلّ ما في وسعه للإطاحة بسمعان إلى أن تمكّن سنة 1009 م من استصدار أمر بنفيِه. فلقد اتُّهم بأنّه يكرِّم، كقدّيس، رجلًا خاطئًا هو سمعان التقيّ، أبوه الروحيّ، فإنّ قدّيسنا كان قد استصنع إيقونة لأبيه بعد رقاده وهيّأ لإكرامه خدمة ليتورجية، وبقيَ ستة عشر عامًا يقيم له تذكارًا سنويًّا في حضور جحافل من المؤمنين.
أقام قدّيسنا في منفاه، في عزّ الشتاء، فوق هضبة قاحلة من ناحية خريسوبوليس. وبقيَ هناك إلى أن تدخّل تلاميذه والمعجبون لدى البطريرك. إثر ذلك مثُل أمام السينودس. ولمّا فاتحوه بموضوع أبيه الروحيّ، رفَض أن يتنازل عن إكرامه له. وكانت النتيجة أن رضَخَ البطريرك وأطلق سمعان قائلًا:” إنّك لراهب ستوديتيّ لا غشّ فيه، لك حبُّك العميق لأبيك الروحيّ، ولكن لك أيضًا عناد الستوديتيّين. ولعلّ في موقفك ما يستحقّ المديح!”  إثر عودة سمعان تلقّى المزيد من النِعم الإلهيّة رغم ما أثارته عليه الأبالسة. وبإلهام الرّوح القدس تابع تأليف نشائده ووضع مقالاته التي علّم فيها أنّه لا غفران الخطايا ولا التقديس يعطى لأحد من غير الاستقرار الواعي لنعمة الرّوح القدس فينا. هذه النعمة لم تجعل سمعان في ذهول وحسب بل أجرت به عددًا من العجائب تخفيفًا عن تلاميذه وتعزية لزائريه. ولمّا بلغ سمعان شيخوخة متقدّمة أصابه مرض في الأحشاء مؤلم طال أمده وسمّره في فراشه بلا حراك. رغم هذه العلّة عاينه أحد تلاميذه، أثناء صلاته، يرتفع عن الأرض محاطًا بنور لا يوصف. أخيرًا عرف بدقّة يومَ مماته وكذلك يوم نقل رفاته بعد ثلاثين سنة من ذلك، فرقَد في الرب في 12 آذار 1022 مكمّلًا بالفضائل.

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share