قالت: “أنّها مصرية من الإسكندرية، وقد وُلدت بمدينة الإسكندريّة نحو سنة 345م من أبوَين مسيحيّين. ولمّا بلغت اثنتَي عشرة سنة خدَعها عدوّ البشر. ومنذ سِنّ الثانية عشر، بدأ ذهنها يتلوّث بالخطيّة من تأثير الشرّ الذي كان سائدًا، وما كان يمنعها من ارتكاب الخطيّة الفعليّة إلّا الخوف المقترن بالاحترام لوالدها، لكن ما لبثت أن فقدت أباها ثمّ أمّها فخلا لها الجوّ وأسلمت نفسها للملذّات مدّة سبع عشرة سنة، ولم يكن ذلك عن احتياج سوى إشباع شهواتها.
وفي أحد الأيّام، وقت الصيف رأت جمعًا من المصريّين والليبيّين في الميناء متّجهين إلى أورشليم لحضور عيد الصليب المقدّس، ولم تكن تملك قيمة السفر في إحدى السفن الذاهبة إلى أورشليم، لكنّها وجدتها فرصة لإشباع لذّاتها مع المسافر وجعلها الشيطان له فخًّا وشِركًا، فاصطاد بها نفوسًا كثيرة لا تُحصي ومكثَت علي هذه الحال الآثمة سبعة عشر عامًا حتّى أدرَكتها محبّة الله، فرأت قومًا ذاهبين إلى بيت المقدس فسافرت معهم وإذ لم يكن معها أجرة سفرها، أسلمَت ذاتها لأصحاب السفينة حتّى وصلت إلى بيت المقدس.
وأخيرًا وصَل المركب إلى أورشليم وارتكبت شرورًا كثيرة في المدينة المقدّسة. أخيرًا حلَّ يوم عيد الصليب واتّجهت الجموع إلى كنيسة القيامة وكان الزّحام شديدًا، ولمّا جاء دورها لدخول الكنيسة، وعند عتبتها وجدَت رِجلَها وكأنها مُسَمَّرة لا تستطيع أن تحرّكها وتدخل، وكانت هناك قوّة خفيّة تمنعها من الدخول، وكرّرت المحاولة أكثر من مرّة دون جدوى. عندئذ اعتزلت في مكان هادئ بجوار بوّابة الكنيسة وانتهت في فكرها إلى أنّ منعها من الدخول يرجع إلى عدم استحقاقها بسبب فسادها. انفجرت في البكاء وتطلّعت فأبصرت صورة العذراء فوق رأسها، طلبت شفاعة العذراء من كلّ قلبها ووعدت بعدم الرّجوع لحياتها الماضية، وطلبت إليها أن تسمح لها بالدخول لتكرّم الصليب المقدس، وبعدها سوف تودِّع العالم وكلّ ملذاته نهائيًّا وطلبت إرشادها. أحسَّت أنّ طلبتها استُجيبت وأخذت مكانها بين الجموع، وعندما توسّلت إليها بحرارة أن ترشدها إلى حيث خلاص نفسها، أتاها صوت من ناحية الأيقونة يقول: “إذا عبرتِ الأردن تجدين راحة وطمأنينة”. فنهضَت مسرِعة وخرجت من ساحة القيامة وفي هذه المرّة دخلت كما دخل الباقون بلا مانع ولكنّها كانت مرتعدة. أمضَت تلك اللّيلة قرب الكنيسة وفي الصباح سارَت في طريقها، وصلَت إلى كنيسة على اسم يوحنا المعمدان قرب النهر. عبَرَت الأردنّ وطلبَت شفاعة العذراء وأخذَت تسير في الصحراء القاحلة حتّى وصلت إلى المكان الذي تقابلت فيه مع القدّيس زوسيما، وكانت قد أمضت به 45 سنة وكان الله يعولها.
بناء عن سؤال القسّ زوسيما، أخذت تروي أخبار محاربتها. فقالت أنّها أمضَت سبعة عشر عامًا في حروب عنيفة مع الشهوات الجسديّة كما لو كانت تحارب وحوشًا حقيقيّة، وكانت تمرّ بذاكرتها كلّ الخطايا والقبائح التي فعلتها، وعانت من الجوع والعطش الشديدَين. أمّا عن ملابسها فقد تهرَّأت من الاستعمال، وكانت حرارة الشمس تُحرق جسدها بينما برودة الصحراء تجعلها ترتعد لدرجة أنّها كان يُغمى عليها. وقالت له أنّها منذ عبرت الأردنّ لم ترَ وجه إنسان سواه، وقالت أنّ الله لقَّنها معرفة الكتب المقدّسة والمزامير. الأب زوسيما بارَكها ولمّا انتهت من كلامها انحنت أمام القسّ زوسيما ليباركها، وأوصته ألّا يخبر أحدًا عنها وطلبت إليه أن يعود إليها في يوم الخميس العظيم من العام التالي ومعه جسد الربّ المقدس، وقالت أنّها ستنتظره عند شاطئ الأردن. في العام التالي بعد قدّاس الخميس العظيم، حمَل زوسيما جسد المسيح ودمَه الكريمَين، وذهب لينتظر مجيء القديسة عند شاطئ النهر. انتظرها طويلًا وكان يشخص نحو الصحراء، وأخيرًا رآها على الضفّة المقابلة ورسمت علامة الصليب على مياه النهر وعبَرت ماشية على الماء. وإزاء هذه الأعجوبة حاول القدّيس زوسيما أن ينحني أمامها لكنّها صاحت: “أيها الأب، أيها الكاهن ماذا أنت فاعل؟ هل نسيت أنّك تحمل الأسرار المقدّسة؟” حينئذ تقدّمت وسجدَت بخشوع أمام السِرّ المقدس وتناولت من الأسرار المقدّسة. وبعد قليل رفَعت يديها نحو السماء صارخة: “الآن يا سيّد تطلق عبدتك بسلام لأنّ عينَي قد أبصرتا خلاصك”. طلبَت إليه أن يَحضر إليها في العام القادم ويتقابل معها في المكان الذي تقابلا فيه أوّلًا، وطلبت إليه أن يصلّي عنها، ورسمَت على النهر علامة الصليب وعبرته راجعة واختفت من أمامه. في العام التالي وفي الموعد المحدّد توجه إلى المكان الذي التقيا فيه أوّلًا، ووجدَها ساجدة ووجهها متّجهًا للشرق ويداها بلا حركة ومنضمّتان في جمود الموت، فرَكع إلى جوارها وبكى كثيرًا وصلّى عليها صلوات التجنيز. وحتّى هذه اللّحظة كان لا يعرف اسمها، ولكن عندما اقترب منها ليفحص عن قرب وجهها وجد مكتوبًا: “يا أب زوسيما ادفن هنا جسد مريم البائسة واترك للتراب جسَد الخطيّة هذا، صلّي من أجلي”. يقال أنّ وفاتها كانت سنة 421م.
الطروبارية
بكِ حُفظت الصورة باحتراس وثيق أيتها الأمّ مريم لأنّك قد حملتِ الصليب فتبعتِ المسيح وعملتِ وعلّمت أن يُتغاضى عن الجسد لأنّه يزول ويُهتّم بأمور النفس غير المائتة فلذلك أيّتها البارة تبتهج روحك مع الملائكة.