علت في الأيّام الفائتة أصوات نافرة تذكّر المسلمين بعدم جواز تهنئتهم المسيحيّين بأعيادهم. نحن نحترم حرية هؤلاء الداعين أبناء ديانتهم لعدم الانجرار إلى “الكفر” تحت راية تهنئة المسيحيين بأعيادهم الكافرة. فالديانات شأن خاص بالمنتمين إليها، ولن نعطي دروساً لأحد بصحة أو عدم صحة ما يفتون به من أحكام ومعاملات ومناهج حياة.
لكن، كي يستوي خطاب هؤلاء الغيارى على إيمانهم، ينبغي أن يكفّوا عن إمطارنا، ليل نهار، بالحديث عن سماحة الإسلام ورحابته وانفتاحه؛ وأن يكفّوا عن إيراد آيات القرآن التي تتحدّث عن احترام التنوّع البشري والاختلاف الديني بصفتهما سنّتين إلهيّتين. فما هو، وفق إدراكهم، معنى الآية القرآنيّة: “يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم” (سورة الحجرات، 13). وما معنى المودّة التي يوصي بها القرآن المسلمين حين يقول: “ولتجدنّ أقربهم مودّة للذين آمنوا الذين قالوا إنّا نصارى ذلك بأنّ منهم قسّيسين ورهباناً وأنّهم لا يستكبرون” (سورة المائدة، 82)…
في الواقع، لا يكمن هاجس المسيحيّين المشرقيّين في احترام اللياقات الاجتماعية وتبادل التهانئ بين أبناء الديانتين المسيحية والإسلامية، بل يكمن في احترام حقوقهم في العيش الكريم مع شركائهم المسلمين في دولة المواطنة والمساواة التامة بين أبناء الوطن الواحد كافة.
والعلاقات الإسلامية – المسيحية لا تختزل على صورة تذكارية تجمع شيخاً أو مفتياً مع بطريرك أو مطران في المناسبات الدينية، بل على الاحترام المتبادل في دولة لا تفرض فيها جماعة دينية شريعتها على جماعة أخرى، بحجة أنّها أكثرية عددية، فيما الجماعة الأخرى أقلية.
إذا كان لا يحقّ لغير المسلم النقاش في مسألة عدم جواز تهنئة المسيحيين بأعيادهم، فإن من حقه الطبيعي أن يرفض فرض الشريعة الإسلامية مصدراً أوّل في دستور بلاده. ففي نقاش جرى في أحد منتديات الحوار الإسلامي – المسيحي، سألني أحد المسلمين كيف يحق لي، أنا غير المسلم، أن أعترض على مسألة “وضع غير المسلمين في الشريعة الإسلاميّة”، وهو، برأيه، شأن إسلامي بحت. فقلت له إن هذا الموضوع يخصّني أيضاً لأنّه يتحدّث عني، فكيف يحقّ لك منعي من رفض ما ترسمه لي من قيود قانونية وتشريعية. وختمت قائلاً إن العاملين على العودة إلى الشريعة الإسلاميّة لتنظيم علاقة المسلمين بغير المسلمين إنّما يتعاملون بمنطق الفتوحات القديمة، أي الغلبة القائمة على مبدأ السيادة المطلقة من جماعة منتصرة في الحرب على جماعة محتلّة وليست شريكة في الوطن.
ألاّ يهنّئ بعضهم المسيحيّين بأعيادهم لن ينتقص شيئاً من فرحهم الإلهيّ القائم على حضور صاحب العيد نفسه معهم. الميلاد، الظهور الإلهي، التجلّي، الصليب، القيامة، الصعود، العنصرة… هي مناسبات كي يفرحوا بالمسيح فاديهم. “يا إخوة افرحوا في الرب كلّ حين، وأقول أيضًا افرحوا” (رسالة القدّيس بولس إلى أهل فيلبّي 4، 4). لن نستجدي لياقات من هذه الدنيا اسمها تبادل التهانئ، مع الشكر القلبيّ لـمَن لم يلبِّ دعوات المقاطعة فهنّأ المسيحيّين كعادته كلّ عام، لكنّنا لن نصمت عن المطالبة بحقّنا بدولة عادلة قوامها المواطنة والمساواة التامّة في الحقوق والواجبات بين أفراد الوطن الواحد.