حتّى لا نصحو غدًا على كارثة من حيث لا ندري!

mjoa Monday February 25, 2013 66

 يأتي انتخاب غبطة البطريرك يوحنّا العاشر (اليازجي)، ومن ثمّ تنصيبه وقدّاسُه الأوّل الرّسميّ في لبنان، في خضمّ أحداث صلدة معقّدة، لا زالت وتيرتها تشتدّ منذ ما يقرب من السّنتَين. والأحداث الّتي شملت، ولا زالت، بضعة أقطار عربيّة، تهدِّد، فيما يخصّنا، وتحدُّ، إلى حدّ بعيد، من حركتنا، في مجالنا الكنسيّ الحيويّ، في قلب مدانا الأنطاكيّ، في لبنان، ولا سيّما في سوريا. السّؤال الّذي يتبادر إلى الذّهن، والحال هذه، هو إلى أيّ حدّ سيكون بإمكان البطريرك الجديد، والمجمع المقدّس معه، أن ينطلق في ورشة العمل الجديدة الّتي رسم وعبَّر عن خطوطها العريضة، على نحو جميل وواعد، في ما سبق أن صرّح به، لا سيّما في رسالته الرّعائيّة، أقول إلى أيّ حدّ سيكون بإمكانه أن يتحرّك وسط المتفجِّرات الأمنيّة والألغام السّياسيّة والنّزاعات الطّائفيّة، الّتي لا ما يشير إلى همودها في المدى المنظور؟

أمران يفرضان ذاتهما، في سلّم الأوّليّات، في الوقت الحاضر: الهمّ السّياسيّ الطّوائفيّ الأمنيّ والهمّ الخدماتيّ التّهجيريّ المعيشيّ. كلّ ما عدا ذلك يُفترَض أن يستمرّ ولكنْ في مستواه الأدنى الضّروريّ حتّى لا تبهت الرّؤية العامّة بيننا وتتشتّت قوانا ونضيع في غياهب ما يمكن أن يطالعنا في المدى!

     الأربعاء 13 شباط الفائت، قرأتُ في زاوية: “أبعد من الخبر”، في صحيفة النّهار، الصّفحة الرّابعة، مقالاً لـ”عبد الوهاب بدرخان”، بعنوان “ما بين مسيحيّي سوريا ومسيحيّي لبنان”. محور المقال قولةٌ للبطريرك يوحنّا العاشر (اليازجي) ورد فيها هذا الكلام: “سنبقى نعمل من أجل وحدة مسيحيّة – إسلاميّة في سوريا، ولكي تنتهي الأزمة وتبقى سوريا موحّدة”. الكاتب على كياسة بيِّنة، وعلى اعتدال لَبِق. وقد اهتمّ بخفر ورصانة، لا تخلوان من عتب رقيق، بإبراز نقاط، في سياق عرضه لمواقف مسيحيّي سوريا ومسيحيّي لبنان، ينفعنا أن نتوقّف عندها لنفيد، لا فقط من قراءتنا للأحداث والمواقف، بل، بالأحرى، من قراءة الآخرين لمواقفنا. يشيد الأخ عبد الوهاب بالرّوح الوطنيّة الطّيِّبة المشهودة الّتي تعبِّر عنها قولة غبطته. لكنّه يبدي أنّ المحنة القاسية الّتي تمرّ بها سوريا تتطلّب، بالتأكيد، أكثر من ذلك؛ ما يعني أنّ الكلام في العموميّات لا يكفي. ورغم وعي الصّحفي أنّ البطريرك لا يشاء أن يتموقع، فهو يفترض أنّ الكنيسة لا بدّ أن تكون مدرِكةً أنّ “الحياد”، في الدّاخل، لم يعد له سوى معنى واحد، وهو الميل إلى النّظام، والبقاء تحت جناحيه، “لئلاّ يقال الانحياز إليه”، على حدّ تعبيره. من هنا إيحاء الأخ بدرخان بأنّه كان بإمكان السّيّد البطريرك “أن يدقّ ناقوس الخطر والإنذار للطّرفَين”. أوّلاً الخطر الّذي بات يهدِّد وحدة سوريا. وثانيًا الإنذار بأنّ ما سبق لغبطته أن اعتبره “حضارة مشتركة”، بناها المسيحيّون والمسلمون معًا، بات في مهبّ العاصفة.

     وفي قول لَمِح، يشير الأخ الصّحفيّ إلى أنّه ليس خافيًا لِمَ كان هذا الميل إلى “النّظام”، أو لماذا هو مستمرّ، لكنّه يبدي، بصراحة، أنّه لا يفهم، البتّة، كيف يمكن لهذا الميل أن يساعد في العمل من أجل “وحدة مسيحيّة إسلاميّة”؟! وحتّى لا يُساء فهمُ قصدِه، يؤكّد أن الميل إلى النّظام لا يعني، بالضّرورة، الموافقة على ما أسماه “ممارساته الوحشيّة”. لذا يُنهي قوله بمعترِضة مؤدّاها أنّ “مُجرّد السّكوت عنها [أي عن هذه الممارسات الوحشيّة] طويلاً يثقل على الضّمائر”.

     وإذ بلغ الكاتب ما بلغه في مطالعته، انتقل برصانة، ولكن بحدّة، إلى اتّهام الكنيسة، ضمنًا، بكونها غير منسجمة مع نفسها. كيف؟ قال: “الكنيسة معروفة، أينما كانت، بأنّها لا تسكت عن الظّلم. وإذا اضطرّت، كما في الحال السّوريّة، فلا تؤاخيه ولا تمنحه غطاء”!

     بعد ذلك، في القسم الأخير من المقالة، يعود الكاتب ليُبدي تفهّمًا لصعوبة الوضع الّذي يجد المسيحيّون أنفسهم فيه في سوريا، لكنّه يجد أنّ بعض أصوات مسيحيّي لبنان بات مسيئًا للمسيحيّين والمسلمين معًا هناك. السّبب أنّهم لم يقولوا رأيًا سويًّا في عنف النّظام طوال أشهر الاحتجاج السّلميّ، ولا في التّنكيل والتّعذيب والاغتصاب والتّدمير. بالعكس “تفانَوا”، على حدّ تعبيره، “في الدّفاع عن النّظام، أي عن الاستبداد والإجرام”. لذلك يُنهي عبد الوهاب بدرخان مقالته بتساؤل ينمّ، في فهمه، عن وجود تيّارات متباينة ضمن المسيحيّة الأنطاكيّة الواحدة: “لأيّ مسيحيّة ينتمون [أي هؤلاء المسيحيّون في لبنان]؟!” قال…

     لا يسعنا بإزاء هذه الانطباعات واللّفتات إلاّ أن نمعن النّظر في صورتنا كما تستبين في مرآة الآخرين، عسانا نَخْلُص إلى أفكار تعيننا في تبيّن معالم طريقنا، وسط الضّباب الآني الكثيف، وإلى تساؤلات مشروعة تحدونا للبحث عن إجابات تنسجم وحقّ الإنجيل، من ناحية، ومستلزمات الحالة الرّاهنة، من ناحية أخرى. على هذا نعرض ما يلي:

     1-  علينا، أوّلاً وأخيرًا، أن نستلهم إنجيل الخلاص وأن نلزم، بعمق، وعلى مستوى الشّعب، شعبنا، برمّته، الصّوم والصّلاة، وأن نرفع الدّعاء ليمدّنا العليّ بالحكمة والوداعة اللّتَين تستدعيهما الظّروف المأزومة الّتي نجدنا في عمقها اليوم. هذا ينبغي أن يُترجَم التزاماتٍ شخصيّةً وخِدَمًا كنسيّةً متواترة وملحاحة تبقى وتدوم إلى أن يَرفع الرّبّ الإله الضّيم عن العباد والبلاد.

     2-  لا يبدو مقبولاً ولا مفيدًا، في زمن المواقف والمواقف المضادة، أن نبقى كمسيحيّين بلا موقف ممّا يجري، أو أن نكتفي بالعموميّات في التّصريحات. الاقتصار على الكلام على نبذ العنف والحوار والمصالحة والحياد اختباءٌ وراء مقولات باتت، وسط العنف المستشري وانعدام الثّقة بين المتنازعين، جوفاء ومُسَاءٌ استعمالُها ومسيَّسةً ومحسوبةً شعاراتٍ ومعميّات لحساب فريق دون الآخر، ما يحمل الفريق الخصم على تصنيف ومعاملة القائلين بها كمنحازين إلى أعدائه. إذا كان هذا ما لا نقصده ولا نريده، فهذا ما يفهمه، من كلامنا، العديدون ويعاملوننا على أساسه، شئنا أم أبينا!

     3-  لا شكّ أنّ علينا الحذر، والحذر الكامل، في شأن ما نقول وما نفعل. العيون علينا والآذان إلينا، وقراءة الآخرين لنا كائنةٌ، بعامّة، على غير مرمانا. لذلك الابتعادُ عن الأضواء أضمن واجتناب المقابلات الصّفحيّة أسْلم والاكتفاء بالبيانات المعدّة بشكل مدروس سلفًا أقْوَم قويمًا. الخطوات الإعلاميّة النّاقصة أو المرتجلة مُكلِفة!

     4-  إذا كنّا لنميل، على صعيد الإعلام، إلى الصّمت البليغ حيث الكلام يُبلبِل ويؤذي، فلا يسعنا، لأجل الضّمير في المسيح، إلاّ أن نتكلّم، شهادةً لمسيح الرّبّ، حيث الصّمت يسيء. هذا له ثمن؟ طبيعيّ أن يكون له ثمن! لكنّه ثمن في محلّه. لا شيء، في كلّ حال، من دون ثمن! لعمري، الامتناع عن الشّهادة للحقّ حيث يلزم، ولزوم الصّمت، خوفًا من الانتقام، حيث ينبغي الكلام، أكثر كلفة من المجاهرة بقول الحقّ، ولا يُجدي ولا يُرضي الله. ما نظنّ أنّنا نجتنبه، إذ ذاك، بباطنيّتنا، نقع فيه، وعلى أسوأ ممّا كنّا نحسب. الشّهادة للحقّ، على إيلامها، في نهاية المطاف، هي الّتي تخلِّص، لأنّها تكون مشمولة ببركة الله!

     5-  ثمّة حاجة، على صعيدنا الكنسيّ، إلى هيئة مشتركة إكليريكيّة ومن عامّة المؤمنين القويمين من ذوي طول الباع في المجال السّياسيّ، تفكِّر وتدرس وتقيم خطوط اتّصال مع ذوي الشّأن في النّزاعات القائمة التماس حوار ينفع ويبني ويعيننا على بلورة مواقف تجسِّد، في آن، محبّتنا للجميع، على قدم المساواة، وحرصَنا على تفهّمهم لنا وفيما بينهم ومواجهتهم بالحقّ، تقريبًا لهم أحدهم من الآخر.

     6-  على صعيد آخر، لا شكّ أنّ قلّة من غير المسيحيّين تميِّز المسيحيِّين بعضهم من البعض الآخر. الأكثرون، بالأحرى، يقفون منهم موقفًا كأنّهم واحد. من هنا ضرورة أن يتعاطى المسيحيّون الأزمة الرّاهنة متعاونين. يعملون على توحيد الجهد والموقف بعيدًا عن السّياسات الضّيِّقة والمصالح الفئويّة والنّأي بالنّفس؛ ترسيخًا، في هدي إنجيل السّلام، لمحبّتهم وغيرتهم بعضِهم للبعض الآخر، ولسائر الشّرائح المكوِّنة لمجتمعهم، وإبرازًا لدورٍ شجاع خلاّق يساهم، ما أمكن، في رأب الصّدع الحاصل. الشّرذمة وطمرُ الرّأس كالنّعامة والتّسليمُ للمجهول ادّعاء التّسليم لله لا يفضي إلاّ إلى ردّات الفعل وتلقّي الضّربات وشعور المسيحيّين بأنّهم متروكون حتّى من أهل بيتهم طعمًا للنّاهشين والموتورين والانتهازيّين…

     7-  في الكلمة الّتي أُلقيت باسم البطريرك كيريل الرّوسيّ، يوم الأحد، 13 شباط الفائت، خلال خدمة القدّاس الأوّل لغبطة البطريرك يوحنّا، في كنيسة مار نقولا، الأشرفيّة (راجع “النّهار” الإثنين 18 شباط، ص 5)، أقول، في تلك الكلمة ورد، نصًّا، ما يلي: “إنّ يوحنّا تسلَّم الخدمة… في أوقات غير سهلة لمسيحيّي الشّرق الأوسط… إيمانهم يتعرَّض مجدَّدًا للتّجارب، في حين أنّ شروط الحياة في أوطانهم أصبحت أكثر تعقيدًا. في أحوال كهذه، إنّ كلّ مَن تقع عليه مسؤوليّة كنسيّة يُصلَب بالحقيقة مع المسيح… ولعمله من أجل الرّبّ”. وأكّد البطريرك كيريل أنّ “الكنيسة الأنطاكيّة لن تبقى وحيدة… يمكنها دومًا أن تعتمد على مساندة الكنيسة الأرثوذكسيّة الرّوسيّة لها…” هذا كلام ينبغي الإفادة منه. ما قد يجد الأحبارُ المحلّيّون صعوبة في التّحرّك في إطاره، قد يكون مناسبًا الاستعانة بالبطريركيّة الرّوسيّة عليه، لتلعب بيننا، كما في السّابق التّاريخيّ، دورًا عن كثب يقينا مطبّات التّشنّج المحلّيّ، باعتبار الدّور الأساسيّ الّذي تلعبه روسيا في المنطقة، وما للكنيسة الرّوسيّة من كلمة تُسمَع فيها، ولدى الأفرقاء المحلّيّين الّذين بإمكان الرّوس أن يهمسوا، في آذانهم، بالكلمة الحسنى، ليكونوا على إيجابيّة بإزاء كلّ مبادرة يمكن أن تقوم بها البطريركيّة الرّوسيّة لحفظ المسيحيّين هنا وتيسير دورهم في التقرّب والتّقريب بين المتنازعين لدينا.

     8-  بين أيدينا أوراق عديدة، هنا وفي المهاجر ولدى الكنائس الشّقيقة، علينا استعمالها. بإمكاننا أن نشهد للحقّ، بنعمة الله، ونساهم في حفظ المسيحيّين والحضارة الإسلاميّة – المسيحيّة المشتركة. ولكنْ علينا، أوّلاً، أن نخرج من ٱستسلامنا للأمر الواقع وشعورِنا بالعجز، ولو قلنا غير ذلك، لنتمنطق بروح القوّة، ونستلّ سيف الإقدام. ليس مصير المنطقة، ومصيرنا من ضمنها، رهنًا باللّعبة السّياسيّة الدّوليّة الإقليميّة المحلّيّة، ولو بدا الأمر كذلك، بل بالله من خلالنا. نحن الخمير في نهاية المطاف! والخمير هو الّذي يبثّ الحياة في الفطير، مهما كان الخمير صغيرًا وقليلاً! “وتكونون بركة في الأرض”، قال إشعياء النّبيّ (19 :24)!

 

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share