الأبديّة… الآن!

mjoa Monday July 22, 2013 162

ليست الأبديّة زمانًا ممتدًّا إلى ما لا نهاية. الزّمن، كما نعرفه، يُفضي إلى موت. إذًا، لا يمكنه، أصلاً، أن يكون، أو أن يصير، إلى ما لا نهاية. الزّمن محدود بالموت! الزّمن، أو ما يعادله، ممّا خبره آدم وحوّاء في الفردوس، قبل السّقوط، لا نعرف كيف كان، لا نعرف طبيعته. لا نعرف ما إذا كان آدمُ وحوّاء قد خضعا لعمليّة نمو. حتّى لو خضعا لنوع من النّمو، فليس بالنّمو الّذي نعرفه نحن. في كلّ حال، لم يأتيا من جنين. إذا ما أمكننا الكلام، بشأن آدم وحوّاء، قبل سقوطهما، عن نمو ما، فهو نمو من حياة مخلوقة إلى حياة مخلوقة أوفى، ومن نعمة مستقرّة على الإنسان إلى نعمة أوفر! أكانت هذه الحال هي إيّاها الأبديّة الّتي أُعطيت للّذين آمنوا، فيما بعد، بالرّبّ يسوع (يوحنّا 3: 36)؟ أو ربّما مذاق منها؟ لا أظنّ!

لعلّها، بالأحرى، نعمة خاصّة أنعم الله بها عليهما. طبعًا، ليست من خلود طبيعيّ، في الإنسان، فَقَده، بعد ذلك، بالسّقوط، ولا هي نظير النّعمة الموهوبة له إثر إيمانه بالرّبّ يسوع، فيما بعد. لذا تلك الحالة الّتي عرفها آدم وحوّاء، قبل السّقوط، ما جعلهما يختبران وضعَ اللاّموت وسيرورةَ الحياة الفردوسيّة، أقول تلك الحالة فاتتنا، ولمّا نعد في وارد استعرافها. إذًا، هي حالة نِعمويّة خاصّة لا علاقة لها بالأبديّة الإيمانيّة المتاحة لنا بالرّبّ يسوع المسيح!

     الأبديّة الإيمانيّة واقع جديد بالكلّيّة، انقدح بتجسّد ابن الله. فيها ما هو من الإنسان وما هو من روح الله. هذان المكوِّنان اتّحدا، داخليًّا، على نحو لا يقبل الانفصام. الأبديّة واقع إلهيّ بات الإنسان يختبره، كَمِن صُلْب تكوينه، في البَشَرة! الأبديّة، هنا، صِلتُها، أوّلاً، بالحياة الإلهيّة. الّذي يؤمن بالابن له حياة أبديّة، والّذي لا يؤمن بالابن لن يَرى حياة (يوحنّا 3)! الّذين عملوا الصّالحات يذهبون إلى حياة أبديّة، والّذين عملوا السّيِّئات لن يعرفوا الحياة الأبديّة. ما يمضون إليه هو العذاب الأبديّ. التّأكيد، هناك، هو للحياة، وهنا للعذاب، أو للهلاك. ثمّ صِلة الأبديّة، ثانيًا، هي بالبَشَرة، بالإنسان كإنسان. لذا يعبّ مَن أحبَّ الله من حياة الله عبًّا، بتواتر، لا قرار له. يزداد، أبدًا، فيما لله، جديدًا. الله، إذا جاز توصيفُه، كلٌّ ومدًى! الرّوحُ مُعطًى بلا مقدار. كلُّه كلَّ حين! لكنّه ممدود إلى اللاّمدى، أو إلى المدى اللاّمحدود، المسمّى “الأبد”، ما يجعل الإنسانَ، المنعَمَ عليه، يأخذ اللهَ كلَّه جديدًا، متجدِّدًا، مفضوضًا، أبدًا، ككتاب حيّ، على نحو مدهش لا يُحَدّ، نورًا ينفتح على نور أسمى، ومجدًا ينفرج عن مجد أسنى!

     في العذاب الأبديّ الصّورة مختلفة. لا يُلغي اللهُ الإنسانَ، لذا حياة الله ومحبّته باقيان فيه بلا حدود. والعذاب أن تتناقص فيه هذه الحياة، في الضّمير، أبديًّا! العذاب من تقلّص حياة الله، من الفراغ المتواتر منها، في الإنسان، من عدم قدرة الإنسان على امتصاص محبّة الله! من رتوع الإنسان في عدميّة ذاته! هذا فِعْلُ الهلاك! لكنّ العذاب، أو قل الهلاك أبديّ! إذًا، تبقى حياة الله ومحبّته في الإنسان في ضمور متنام متواتر دون أن تنفدا ودون أن يفنى! كأنّي بالتّناقص المستدام يزكّي، كلَّ حين، طعمَ العدم، أو قل نكهة الوجود العدميّ، في البَشَرة، على ما في هذين الواقعين، الوجود والعدم، من مفارقة! طبعًا، هذا يطرح سؤالاً كبيرًا: لِمَ يُبقي اللهُ على الإنسان إذا ما كان ليجعل وجودَه تناقصيًّا، من جهة حياة الله فيه ومحبّته؟ لِمَ لا يُفنيه دفعة واحدة، إذا لم يكن ليريده؟ كيف يمكن الله أن يتمجّد، وهو مجدٌ، في خَلْقٍٍ يسير، أبدًا، نحو الفراغ منه؟!

احترامًا لحرّيّة الإنسان إلى المنتهى؟! الإنسان، في العذاب والهلاك والفراغ المتزايد من حضرة الله، لا يتعاطى حرّيّته، بعدُ، بل يكابد نتائج سوء تعاطيه الحرّيّة في الجسد! أكان سلك في حرّيّة ملتوية مشوَّهة كذوب لو درى بما سينتهي إليه؟! ثمّ الإنسان، في الجسد، ربّما يتمتّع، إلى حين، بالحرّيّة في الخطيئة؛ ولكنّه متى انحلّ جسدُه يصير في عذاب وينحرم كلّ متعة! السّؤال الّذي يفرض ذاته هنا هو: أيمكن لإله المحبّة أن يترك الإنسان الشّرود يتمرَّغُ، لا فقط في اللاّمعنى، أو قل المعنى المضيَّع، بل في العذاب أيضًا؟! لا يُسَرُّ اللهُ بموت الخاطئ إلى أن يرجع ويحيا، قالت كلمة الله! هذا، في ظنّي، ما حدا بعضَ الآباء الكبار في الكنيسة، إلى الكلام على “تدبير ما” يُخرج الإنسانَ من مسار العذاب والهلاك، إلى مسار الرّاحة والخلاص، إلى ضربٍ من الخلاص للجميع! أو لعلّ ما قُصِد بالعذاب أو الهلاك مسعى لا نفقهه، معادِلٌ لتوبةٍ مزدوجةٍ بمحبّة الله الصّارخة لخلاص خليقته، والمعتمِلةِ في قلوب الّذين يحبّونه، المستدعين رحماتِه، في كلّ وقت، من أجل سلام كلّ العالم! لو صَحَّ ذلك لأضحت محبّة الله، من جهة الهالكين، استيلادًا لحياة جديدة لهم وإضاءةً للظّلمات فيهم، بطريقة سرّيّة، ولأخرجت رأفاتُه، إلى النّور، القابعين في الظّلمة وظلال الموت، على نحو عجيب يحدِّث بعظائم الله، وفوق كلّ تصوّر، ما لم يأتِ مسيحُ الرّبّ على ذِكره، في مسيره على الأرض، لأنّه لا ينفع الأحياء!

     إذًا، الأبديّة ليست غدًا يطول. الأبديّة الّتي بتنا نعرف هي مسيح الرّبّ فينا الآن، يستاقنا فيه، كراع، إلى معارج الرّوح/ السّموات اللاّمتناهية! لذا بات، بإمكاننا، بالمعموديّة والمِسحة والوصيّة، أن نقيم، في يسوع المسيح، في الأبديّة، كلَّ حين، لأنّ “يسوع المسيح هو هو أمسًا واليوم وإلى الأبد” (عبرانيّين 13: 18)! على هذا تمسي الأبديّةُ مرتبطة، عضويًّا، باللّحظة الّتي نحن فيها الآن!

“اليوم إن سمعتم صوته فلا تُقسّوا قلوبكم” (عبرانيّين 4: 7). إنْ تَحْيَ في الماضي، اليومَ، يَكُنِ المسيحُ قد عَبَر بك وتجاوزك، وترككَ تجترّ الذكرى! وإنْ تنتظرِ المستقبلَ حتّى تلتقيه تَكُن قد فُتَّه، الآن، وهو بين يديك، ولمّا يبقَ لك غيرُ غدٍ عرقوبيّ كذوبٍ، يَعِدُ ولا يفي، يخدِّر ولا يعزّي، يملأك سرابًا ولا يُشبعك منًّا وماء من الصّخرة! الزّمن الجديد الّذي أُدخِلنا فيه، زمنُ الأبديّة، زمنُ الملكوت، هو حاضر يدوم. الماضي، في زمن النّعمة الجديد، لم يعد ذكرى! الذّكرى من الموت! الماضي، كما في فَهْم الإنسان العتيق، لم يعد، للإنسان الجديد، من الماضي، بل حَدَثٌ، ولو جرى بالأمس، لكنّه مُستحضِرٌ، اليومَ، الآن، بالإيمان والنّعمة والكلمة، حضرةً إلهيّةً كاملة، حبلى بالبركات ذاتها، بالكشف عينه، المطلَقِِ بالأمس، دون أن تكون للأيّام الّتي تفصلنا عن وقت حدوثه أثر تغييبيّ عليه! ما حدث بالأمس ممدودٌ إلينا، اليوم، بكلّيّته، بقوّة الرّوح وآنيّة الرّوح! لذا كلّما أكلنا ذاك الخبز المعطى، ذات يوم، وشربنا تلك الكأس، نَلقى مسيحَ الرّبّ إيّاه، كما خارج الزّمن، نلقاه فوق الزّمن، في أبديّة الزّمن، اليومَ، الآن، حيًّا، في ملء حياته الإلهيّة، في كامل حضرته السّماويّة. كأن ما حدث في الزّمن لم يعد، مذ ذاك، أسيرَ الزّمن. أفلت من الزّمن! فبات هو الحياةَ إيّاه يبثّ الحياة إيّاها في كلّ زمن!

     على هذا، الحياة الرّوحيّة هي، في آن، التّروّضُ على الحياة الأبديّة والدّخول فيها! إذا كنّا لا نتوخّى العودة إلى الوراء، فإنّنا، بالقياسِ عينه، لا نتوخّى شيئًا ما يأتي في المستقبل! ما دام أنّ العريس والرّوح هنا والآن، فليس شيءٌ، بعدُ، لم يُعطَ، وإن كنّا في سيرورة من نور إلى نور ومن مجد إلى مجد! نحن هنا والآن على قمّة ثابور دائمة! لم نأتِ من نور وحسب ولا نحن آيلون إلى نور فقط، بل نحن، الآن، في النّور! بكلام القدّيس غريغوريوس بالاماس: العالم، مذ ذاك، لمّا دفق من جنب السّيّد، على الصّليب، دمٌ وماءٌ، يَسْبَح في النّور غير المخلوق، جاريًا بلا توقّف… إلى الأبد!

     كلّ لحظة، إذًا، كلُّ آن، بات مطلاً على الملكوت. بالتّوبة، بحفظ الوصيّة، بمساهمة الأسرار الكنسيّة تنفتح اللّحظة الآنيّة لنا على الأبديّة. الأسخاتولوجيّة* المعيشة تأتينا الآن. المسيحيّة الحقّ هي الأسخاتولوجيّة الآنيّة. مسيحيّة الأمس تاريخ، ولو صبّت في أوقيانوس اليوم. في ذاتها، لا جدوى منها ولا تنفعنا. ومسيحيّة الغد نظريّة ووعد، كوعد الجائع، حتّى الموت، إلى الخبز، الآن، بالخبز غدًا! غدًا يكون قد مات! الماضي، في ذاته، لا فقط تاريخ ومتحف، بل، بالأَولى، مجالُ انتفاخ! والغد، في ذاته، وعدٌ ومخدِّر وحيلة بقصد صرفنا عن السّلوك في الحياة الإلهيّة اليوم! فقط فُسْحة “الآن” تجسيدٌ لتجسّد ابن الله فينا ودخولٌ في شركة الحياة الأبديّة!

     هكذا تكلم الكلمة: “الحقّ الحقّ أقول لكم إنّه تأتي ساعة وهي الآن، حين يسمع الأموات [الأحياءُ الأموات] صوتَ ابن الله والسّامعون يحيون” (يوحنّا 5: 25)! الآن تمجَّد ابن الله…

* الأسخاتولوجيّة: ما يختصّ بكمال الدّهور، بكمال القصد الإلهيّ…



0 Shares
0 Shares
Tweet
Share