يا ربّ، يا من تعرف حقيقة ضعف الإنسان، تعرفه ليس فقط لأنك الخالق و”عارف القلوب والكلى”، بل تعرفه أيضًا من الداخل، إذا صحّ التعبير، لأنك شئت أن تختبره وتذوقه بنفسك عندما اتخذتَ طينتنا في ابنك يسوع المسيح؛
يا ربّ، أنت تعرف أن الإنسان كتلة من القلق والأسى، والحنين والدموع، تمزّقه المتناقضات وتعصف به رياح الأهواء، وتتأكلُه الأيام ويخيّم عليه شبح الموت، ملقيًا بظلّه الثقيل على أوقاته كلّها، واسمًا إياها بسمة الفناء.
وعاء الهوان هذا، أنت شرَّفته، ألقيت فيه ضياءك، استودعتَه طاقاتك ووعودك، “كنزًا في إناء خَزَفيّ”، لؤلؤة كامنة في ظلمة الأعماق، جوهرة يلتمع بريقها في عتمة الحياة.
***
يا ربّ، أنت تعرف هشاشتنا وسرعة عَطَبنا، ومنها تدعونا إلى معاشرتك، إلى فرح وليمة حبّك، وتعدّ لنا “ما لم تسمع به أذن ولم تره عين ولم يخطر على قلب بشر”.
أما نحن، فيصعب علينا أن نواجه حقيقة ضعفنا، أن نعترف بها في العمق، أن نتقبّلها ونتآلف معها منطَلَقًا لا مفرّ منه لتجاوزها وتخطّيها. لذا نحاول بشتّى الوسائل أن نتجاهل وهننا ونتناساه، فنبني لأنفسنا وهم القوة والجبرؤوت، لنحتمي به من مواجهة حقيقة هزالتنا.
ومن أجل ترسيخ هذا الوهم وتعزيزه، وتغليبه على كل تكذيبات الواقع، وحماية خيوطه العنكبوتية من التمزّق في مهبّ الريح، نتستّر بالتسلّط على الآخرين، وبالقسوة على ضعفاتهم ، وبالسعي إلى إذلالهم وتحطيمهم، وبالإمعان في تكسير فخاريتهم، لننسى أننا من نفس الفخّار مصنوعون.
وقد نتذرع لتبرير عملية التدمير هذه، وإخفاء بشاعتها، بأنبل الذرائع وأسماها، بـ”المنطق”، و”الحقيقة”، و”الأصول”، و”ألأخلاق”، و”الدين”…، منصبّين أنفسنا مراجع لا ريب فيها لهذه القيم كلّها.
ونتجاهل، في خضّم هذا التهشيم، ما تحويه تلك “الأواني الخزفية”، التي نبرع في تسويدها بغية تبييض صفحتنا نحن، نتجاهل ما تحويه من كنوز دفينة تنتظر من يكتشفها، وبراعم متوهّجة تحتاج إلى دفء المحبة والرأفة والثقة والتفهّم والرعاية، لتتفتّح وتبرز إلى النور.
***
في خضمّ هذا الهرب المسعور من أنفسنا، يغيب عنا أننا، بهذا، لا نحلّ مشكلتنا، بل نعمّقها، وأننا نزيد على بؤسنا بؤسًا وعلى شقائنا شقاءً،
نُمعِنُ في التغرّب عن حقيقتنا، وبالتالي عن حقيقتك التي هي أصلها ومصدرها،
نحوّل حياتنا إلى وهم وسراب، نذوق مرارة العزلة ونحرم أنفسنا طعمَ المشاركة والحنان،
نصبح عملاء الموت وشركاءَه، فينا وحولنا.
***
أنت تعرف، يا ربّ، أن المجتمع الذي نعيش فيه، ونربى وننشأ، يدفعنا دفعًا إلى تلك المتاهات.
إنه مجتمع عنيف لأنه مبنيّ على القهر والتسلّط، على نقيض إنجيلك،
وذلك في العائلة والمدرسة، في الهيكليات الاجتماعية والسياسية، في العلاقة بين الجنسين، في التعامل بين الناس.
والأدهى هو أن هذا المجتمع، الكافر بإنسانيته، والرافض بالتالي لك، لا يتورّع عن أن يتخذ منك، أو بالتالي لن صورة مشوّهة مغرضة يرسمها عنك، من صنم رهيب يأبى إلا أن يدعوه زورًا باسمك، يتخذ من هذا الإله الممسوخ الذي صنعته أوهامه، رأس هرم لبنيانه الساحق.
ينشأ الناس فيه على عقدة النقص والحرمان، فينفّسون عن ضيقهم المقيم بالعدوانية، “يخانقون ذباب وجوههم” كما يقول المثل، ويمعنون حولهم تكسيرًا وتدميرًا، بالأشياء والطبيعة والناس – ألم تكن “خربنا القذرة” الطويلة كاشفًا مخيفًا لمرضنا العضال هذا؟
ويخلّدون في علاقتهم بالأجيال الصاعدة ذلك القمع عينه الذي أثخنهم بالجراح، ويشتكون بعد ذلك إذا رأوا الناشئة تحفظ دروسهم السامّة وتعمل بموجبها.
***