مار مارون والصفّ الأماميّ – الأب جورج مسّوح
الكنيسة المارونيّة أكبر من أيّ موقع وطنيّ أم سياسيّ. هذا الكلام لا ينفي، بأيّ حال، أهمّيّة انتخاب رئيس جديد للجمهوريّة، وفق الوضع القائم، كي يكتمل المشهد الدستوريّ، ويستقيم عمل المؤسّسات.
صارت الكنيسة المارونيّة مستقلّة على عهد يوحنّا مارون، بطريركهم الأوّل (توفّي عام 707)، الذي أنشأ تنظيمًا كنسيًّا خاصًّا مستقلاًّ عن باقي الكنائس المشرقيّة. وعاشت الكنيسة المارونيّة عصرها الذهبيّ، وتميّزت بالعلم والمعرفة واللاهوت، قبل أن ينشأ لبنان الوطن العام 1920، وقبل أن يُكرّس موقع الرئاسة للموارنة.
ازدهرت الكنيسة المارونيّة، منذ نشأتها وقبل أن يستلم أبناؤها مقاليد الحكم، وتألّق نورها حيثما استوطنت، فعرفت تاريخًا مليئًا بسير الشهداء والقدّيسين والأبرار وكبار المفكّرين الكنسيّين. ازدهرت هذه الكنيسة عبر شهادتها، بالكلمة وبالحياة، لإيمانها الحيّ. وما تأسيس المدرسة المارونيّة في روما إلا الدليل على الأهمّيّة التي اكتسبها الموارنة على الصعيد الكنسيّ العالميّ.
بيد أنّ الكنيسة المارونيّة، وبلا ريب، قد تأثّرت بالقدّيس مارون ونهجه. فهي كنيسة عانت الاضطهاد كثيرًا، وأوى أبناؤها إلى أعالي الجبال هربًا من بطش المخالفين لهم، وعاشوا في ظلّ ظروف قاسية. لذلك غلب عليها، وما زال إلى يومنا الحاضر، طابع التقشّف والنسك.
ميزة الكنيسة المارونيّة تكمن في هذه الروح البسيطة المسكوبة في عباداتها وطقوسها السريانيّة النابعة والمتماهية مع التقليد الشعبيّ العريق. هي كنيسة مدعوّة إلى الحفاظ على هذا التراث العظيم. وهذا لا يتطلّب مراكز سياسيّة لتتوافر شروطه، بل الالتزام بروحيّة القدّيس مارون، والقدّيس سمعان العاموديّ وسواهما من كواكب النسّاك.
اشتُهر القدّيس مارون بحيازته موهبة الأشفية حتّى ذاع صيته في كلّ مكان، فكان يستثمر هذه الموهبة لإرشاد الآتين إليه للشفاء إلى التعليم الحقّ. وكان لا يكتفي بشفاء عاهات الجسد فحسب، بل كان أيضًا يأتي للنفوس بالعلاج المفيد، شافيًا “هذا من داء البخل، وذاك من الغضب، مانحًا هذا التعليم المؤدّي إلى الحكمة، وواضعًا لذاك الإرشادات إلى الفضيلة، مروّضًا ميوعة هذا، ومنعشًا ذاك من كسله” (ثيوذوريطس أسقف قورش (توفّي عام 466)، مؤلّف كتاب “تاريخ أصفياء الله” المرجع الوحيد لسيرة مارون الناسك).
الكنيسة المارونيّة جزء عزيز من هذه الكنيسة الأنطاكيّة المشتّتة طوائف وكنائس عديدة. ولا بدّ لهذه الكنيسة المارونيّة إذا شاءت الشهادة للمسيح في هذه الديار من أن تحثّ أبناءها على ابتداع أدوار رياديّة يؤدّونها في مجتمعاتهم المتنوّعة، كما فعل أجدادهم من صانعي عصر النهضة العربيّة. فانكفاء دور الموارنة السياسيّ ينبغي ألاّ يؤثّر سلبيًّا على دورهم التربويّ والفكريّ والدينيّ والثقافيّ والحضاريّ. فهم قبل أن يستلموا المواقع السياسيّة العليا في لبنان برعوا في كلّ الميادين الأخرى، وكانوا من أركان الفكر العربيّ الحديث.
كما ثمّة تحدّيات جمّة ما زالت تواجه الكنيسة المارونيّة، وشقيقاتها من الكنائس الأخرى، وبخاصّة في ظلّ ما يجري من أحداث في لبنان وبلدان الجوار. ومن هذه التحدّيات الفقراء والنازحون والمهجّرون والمهاجرون، وهنا الميدان فسيح للعمل والشهادة المسيحيّة الحقّ.
هل كان المسيح ليهتمّ بهويّة إمبراطور روما؟ أو مار مارون بهويّة والي سوريا؟ أو مار شربل بهويّة الرئيس اللبنانيّ؟ هل كان مار مارون ليهتمّ بمَن يجلس في الصفّ الأماميّ في يوم عيده، أم يبحث عن الفقراء والمرضى والأرامل واليتامى والمستضعَفين؟
استمرّت المسيحيّة في هذه البلاد على الرغم من الاضطهادات والاحتلالات، وستستمرّ إلى يوم الدين على الرغم من وجود رئيس مارونيّ أو عدمه.
ليبانون فايلز
11 شباط 2015