مقابلة صحفيّة لصاحب الغبطة يوحنا العاشر بطريرك أنطاكية وسائر المشرق مع مجلّة “الوحدة”

mjoa Saturday February 21, 2015 82

youhana-russia1مقابلة صحفيّة لصاحب الغبطة يوحنا العاشر بطريرك أنطاكية وسائر المشرق مع مجلّة “الوحدة”

مجلّة “الوحدة”:
يا صاحب الغبطة إن الكرسي الأنطاكي منذ اليوم الأول من تأسيسه صار مكاناً للتضحيات المستمرة، للجهاد والتجارب وإنه ومنذ تكوين الجماعة المسيحية الأولى نشأت صراعات خريستولوجية تبعتها منافسة بين المدارس اللاهوتية ثم التجارب بالنسبة للفتح الاسلامي في الشرق الأوسط. فكنا نرى وكأن أنطاكية تعيش أيامها الأخيرة. ولكن الرب تدبر الأمر وصمدت الكنيسة وهي ماتزال حتى اليوم تشهد للمسيح الحق بين الملايين من رعاياها الذين ليسوا في الشرق الأوسط فحسب بل في كل العالم.
وأنتم اليوم كرئيس لها بماذا ترون قوة العمل الحياتي في الكنيسة الأنطاكية؟؟

صاحب الغبطة:
الكنيسة الأنطاكيّة هي كنيسة الروح بامتياز. هي بالأحرى كنيسة الروح الذي لا ينام. في أنطاكية إيمان يغلي وغيرة رسولية. وبهذا المنحى نحن نقرأ تاريخها مع كلّ صواعده ونوازله. إن يكن هناك من مدارس لاهوتية واتجاهات لاهوتية فيها وفي غيرها فما هذا إلا منعكسٌ لحريّة الروح وللاهوت المتقّد الذي فيها. قد يكون التاريخ قد جار على أنطاكية وعلى كنيستها إلّا أن الشدّة تخلق رجالاً وتخلق إيماناً وطيداً بالرّب لا يتزعزع. قد يعيش الكثيرون في العالم كمسيحيين، إلّا أن أنطاكية وموسكو كما غيرهما عاشا ويعيشا المسيحية متجسّدة في الحياة ويعيشونها تيّاراً حياتيّاً وكنهًا وجوهراً لمعدن إنسانهم لا مجرد إيمانٍ نظري. والكنيسة الأنطاكيّة تحاول على قدر ما أعطاها الله في هذه الظروف الصعبة أن تكون إلى جانب إنسانها المهجّر والمنكوب، وتحاول أن تجسّد قولاً وفعلاً قول ابنها الكاهن يوحنا الذهبي الفم: “القريب هو مذبح الله”. فخير ما تقدّمه هذه الكنيسة اليوم هي أن تكون إلى جانب الملهوف والمحتاج.

مجلّة “الوحدة”:
من المؤسف أن السياسة غالباً تقرر ليس مصير الشعوب بل وضع الديانة في العالم. لقد انتخبتم بطريركاً في وقت تاريخي ومأساوي وعندما توتر فجأة الوضع الديني في الشرق الأوسط حيث تصل الأخبار عن اضطهاد جماعي ومصرع آلاف المؤمنين وتدمير مقامات مسيحية مقدسة. ما هو الممكن الذي عليه عليه أن يفعله أرثوذكس العالم أجمع لمساعدة أبناء كنيستكم في سوريا وفي بلدان أخرى في المنطقة؟

صاحب الغبطة:
مما لا شك فيه أن ما يجري في الشرق هو صراع بين منطق الإصغاء إلى منطق الاعتدال، ومنطق التطرّف والإيديولوجيات المتطرّفة. نحن لا نغالي إذا ما قلنا أن الشرق الأوسط عرف عيشاً واحداً بين كافة مكوّناته. فلنرجع فقط أربع سنين إلى الوراء ولنتذكّر كيف كانت الحال وكيف أمست الآن. هناك وضع مأسوي بلا شك إلّا أن المأساة لا تعني أن نستسلم ونيأس لقدرٍ لا نريده. هناك اضطهاد للمسيحيين ولغيرهم من أصوات الاعتدال. وهناك تدمير لأوابد عيش واحد مشترك. ونحن ننتظر من العالم أكثر من التضامن اللفظي لأنّنا سئمنا لغة الوعود ونريد لغة الأفعال. العالم كلّه يتفرّج على مأساة المهجرين ومأساة الجياع، وبدلاً من التشّجيع على الحوار نرى البعض يستمر بسياسة الحصار الاقتصادي الخانق على الشعب السوري في حين أن سوق السلاح مفتوحة على مصراعيها.

العالم كلّه يتفرّج على أزمة أخوينا المطرانين يوحنا ابراهيم وبولس يازجي ويكتفي بالتضامن أو حتى بالصمت. نحن هنا في روسيا لنُسمع أولاً وجعنا مما يجري. ولنضع سؤالنا برسم كلّ العالم: أين هم مطارنتنا؟.
نحن بلا شك نشكر كلّ ذوي النيات الحسنة وكلّ الخيّرين الذين يهبون من أموالهم لمساعدة أهلنا ونأمل من الجميع أن يعتبر أن المساعدة الأولى للمسيحيين سياسيًّا تكمن في الدفع نحو إحلال السلام في أرضهم الأولى، وأن المساعدة المادية أو المعنوية الواجبة لهم ولغيرهم ولكل ملهوف في هذه الدنيا هي المحك الأوّل للمسيحية وللأرثوذكسية بشكل خاص.

مجلّة “الوحدة”:
ما هي التحديات الموجودة في النظام العالمي والتي تشكل تهديداً للحضارة المسيحية ولا سيما القائمة من جهة العالم الاسلامي التي تحيا كنيستكم في محيطه؟؟ هل يكفي أبناء كنيستكم أن يحافظوا على قوة الإيمان والجهاد والتواضع
في مجتمع يتفجر شراً إذ يسمى المسيحيون فيه بأعوانٍ للغرب والولايات المتحدة؟؟ هل من الممكن في الواقع الحالي الحوار والتفاهم المتبادل بين الحضارات الشرقية والغربية؟؟

صاحب الغبطة:
المسيحيون في المشرق هم عون بلادهم وهم أصيلون فيها وليسوا زوّار تاريخ ولا مخلّفات حملات. فليكن هذا واضحاً. المسيحيون لم يكونوا يوماً أعواناً لأحد، بلّ كانوا إلى جانب من أراد الخير لبلادهم ولأوطانهم.
بوصلة الأرثوذكس كانت دوماً خير بلدانهم.
بوصلتهم لم تكن فئوية ولا حتى طائفية ولا دينية.
من حقّهم أن يحيوا بسلامٍ في أرض أجدادهم، ومن حقّهم ومن واجبهم أن يدافعوا عنها في وجه الغريب.

مجلّة “الوحدة”:
دمشق ليست فقط مدينة ارتداد الرسول بولس للمسيح ولكنها المكان التاريخي لعظماء المجاهدين والقدّيسين. ما هو وضع المسيحيين في دمشق؟؟ وماذا بقي في ضمير الناس؟؟ وماذا بقي من التراث التاريخي لتلك الأزمنة؟؟

صاحب الغبطة:
إن قدر دمشق هي أن تكون دوماً مدينة المهتدين. وهذا ما يقوله المثل الفرنسي: ” وجد طريق دمشق”. المسيحيون في دمشق حالهم فيها حال من يوّد العيش بأمان وسلام. نحن نعرف أن الأيام صعبة علينا وعلى الجميع، ولكن لا يجب علينا أن ننسى أن رماد التجربة ليس له أن يحجب شعاع ووميض الحق والحقيقة التاريخية وهي أن بلاد الشام عرفت في ناصع أيام تاريخها عيشاً واحداً بين كلّ الأطياف.
من ينظر إلى التاريخ فليكن كالنحلة التي يتحدّث عنها القدّيس باسيليوس الكبير التي تنتقي بديع الأزهار. ولنتذكر دوماً أن أربع سنين من الإضطرابات لا يجب أن تهز صورة سلام وجمال هذا المشرق الذي نحبّه ونريد سلامه.
بقي ويبقى في ضمير الناس كلّ التراث التاريخي للأزمة الغابرة.
بقي ويبقى أن أجدادنا المسيحيين تحمّلوا كلّ شيء وأرضعونا الإيمان بالمسيح مع حليب الأمهات، ونحن بدورنا سننقل هذا الإيمان إلى أبنائنا، وسننقل معه التصاقنا بأرض أنطاكية التي دمغتنا أولاً باسم يسوع المسيح.

مجلّة “الوحدة”:
عام 2016 ينتظر حدثاً مهماً وهو المجمع الأرثوذكسي العام في اسطنبول. كيف بنظركم تغيّر العالم بعد ألفي سنة عندما ولأوّل مرة أعلن من أورشليم عن ضرورة انعقاد مجمع كهذا وما تعتبرونه الأهم في قراراته؟؟

صاحب الغبطة:
من الجيّد لا بل من الضروري أن يلتقي الأخوة وخصوصاً في هذا الزمن الحاضر ومن الجيّد لا بل من الواجب أن يتعدّى اجتماعهم الطابع البروتوكولي ليلامس حقاً هموم كنائسهم وهموم إنسانها. ومن الضروري أن نتطلّع كلّنا إلى قاعدة الهرم، إلى الشعب وحاجاته، قبل أن نذهب إلى بحث تراتبية الكراسي.
معيار نجاح المجمع هو بحسن التحضير له وبإزالة العوائق التي من شأنها أن تعيق جلوس الإخوة معاً. نحن وببساطة كليّة نأمل حل قضية التعدّي الأورشليمي على كنيسة أنطاكية والمتمثّل بإقامة “رئيس أساقفة” على قطر، والتي تنتمي جغرافياً وكنسياً وقانونياً لبطريركية أنطاكية. ونأسف لأن تزيد بطريركية أورشليم جرحاً على جروحنا وتضرب بعرض الحائط كل وساطات الحل. ونحن نعتبر أن أهم مداولات هذا المجمع ومقرراته هي تلك التي تبحث قضية وجود المسيحيين في الشرق الأوسط. فوجودهم الراسخ هناك هو جسر تواصل مع العالم الإسلامي وغيره وهو ضرورة ودعامة لشهادة مسيحية أرثوذكسية ليسوع المسيح في أرضه وجسر تلاقٍ للجميع. كما ننظر أيضاً بعين الاهتمام إلى قضية الانتشار والوجود المسيحي والتنظيم الكنسي في بلاد الانتشار.

مجلّة “الوحدة” :
إنه ومن مصلحة قرائنا التعرّف أكثر عليكم؟؟ كيف وأنتم إنسان مولع بالموسيقى اخترتم لنفسكم طريق خدمة الرب؟؟ ما هي الأمنيات والواجبات التي وضعتموها نصب أعينكم؟؟ وما هي الأوّلويات عندكم كرئيس للكنيسة الأنطاكية القديمة؟؟

صاحب الغبطة:
|نشأت في اللاذقية وترعرعت في الأبرشية التي أسندت لسلفي إغناطيوس الرابع يوم كان متروبوليتاً عليها. في سنة 1979 رسمت شماساً بيد صاحب السيادة يوحنا منصور مطران اللاذقية. درست في البلمند وأكملت علومي اللاهوتية في اليونان. انتخبت أسقفاً سنة 1995 على الحصن ومتروبوليتاً على أوروبا في 2008. وانتدبني آباء المجمع الأنطاكي بطريركاً في كانون الأول 2012. أذكر أني يوم دخلت دمشق في 20 كانون الأول 2012 أعطيت شمعة في الكاتدرائية المريمية في دمشق. ويومها سئلت: ما هو برنامجكم صاحب الغبطة. أجبت وببساطة: أن أكون مثل هذه الشمعة أذوب على قدر ضعفاتي لتسمو كنيسة المسيح بشعبها. أذوب في الخدمة كهذه الشمعة على قدر ما أعطى الله.

مجلّة “الوحدة”:
إن هيئة التحرير تهنّئكم من صميم القلب يا صاحب الغبطة لمنحكم عن جدارة واستحقاق جائزة المؤسسة العالمية لوحدة الشعوب الأرثوذكسية على اسم قداسة البطريرك ألكسي الثاني. وذلك لعملكم البارز في تقوية وحدة الشعوب الأرثوذكسية ولاعتماد وتقيّيم القيم المسيحية في حياة المجتمع. كيف تقبلّتم هذا القرار وبأي شعور ستوافون إلى موسكو؟؟

صاحب الغبطة:
أشكر منظّمي هذه الاحتفالية. وأعتبر هذا التكريم تكريمًا لكنيسة أنطاكية ولشعب ديارها الذي يقاسي الإرهاب والتكفير. وأعتبر الوسام الموضوع على صدري شهادة تقدير أضعها بدوري على صدر مطرانينا المخطوفين يوحنا وبولس، وتبقى قضيتهم وصمة عار في جبين المتشدّقين بحقوق الإنسان زوراً وبهتاناً. أعتبره وساماً أضعه على صدر كلّ معذّب في هذا المشرق الذي يتوق إلى السلام. وأصلّي من هنا من أجل السلام في سوريا والاستقرار في لبنان. وصحيح أن شعورنا يختلط بالحزن لما يجري في أرض كنيسة أنطاكية، إلا أن بعد الصليب قيامة.

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share