عبور الصّوم – الأرشمندريت توما (بيطار)

mjoa Monday February 23, 2015 118

عبور الصّوم – الأرشمندريت توما (بيطار)

   في العام 2006، خلال شهر حزيران، توفيّ أحد أبرز وجوه الكنيسة القبطيّة، الأب متّى المسكين. ميزته الأهمّ كانت كلّيّتَه في طلب ربّه، نسكًا وصلاة، إلى أبعد حدود طاقة البشرة على استيعاب النّعمة، في الأرض. من منظار الحكمة البشريّة كان أبله، ومن منظار الحكمة الإلهيّة، فاق بَلَهه، أو قل تبالهه، كلّ عقل!. طبعًا، لا شركة لنا، نحن الرّوم الأرثوذكس، والكنيسة القبطيّة الأرثوذكسيّة، في الكأس الواحدة، رغم التّقارب الّذي بيننا!. لكن الرّوح القدس الفاعل في الّذين هم له، عندهم وعندنا، هو، في الحقيقة، مَن يجعلنا واحدًا!. وهذا لا يأتي من النّاس، بل من فوق، على الّذين يقتبلونه ويتعزّون به ويتبادلونه، في وحدة إلهيّة بشريّة تنبع من جنب السّيّد، لسرور المؤمنين!.

عبور-الصومفي هذا الإطار، تحضرني قولة جميلة لأحد الزّهّاد المتنسّكين المسلمين، إبراهيم الأدهم. قال: “المؤمن يفرح بالمؤمن”!. هذا لأنّ روح الله فينا يفرح بروح الله في سوانا!. ما لم يتخطّ المرء ترتيبات النّاس وأحكامهم، لينفتح، في الرّوح، على كلّ ما لروح الله، في كلّ مكان وزمان وإنسان، فإنّه يبقى ساعيًا على بطنه، يأكل ترابًا، ويبقى أعقم من أن يخرج من الأرضيّات إلى السّمائيّات!. ميل الإنسان الدّهريّ، أبدًا، هو إلى جعل الإلهيّات أسيرة تدابير البشر، باسم الله، واستنادًا إلى ما ورد في “الكتب المقدّسة”؛ وقد غاب ويغيب عن الأذهان، أكثر الأحيان، أنّ ما أُعطي لنا من كلام من فوق كان ليعلّمنا ويجعلنا نتمرّس بتسليم أنفسنا للعليّ بالكامل، لا بجعل الله مسلَّمًا للنّاس يدعمون به أفكارهم ومراميهم وأحكامهم، على سجيّتهم!. البشر، من دون الله، صانعو فرقةٍ مهما سعوا إلى الالتئام، ولو باسم الله، لأنّ قلوبهم نجيسة، فيما الوحدة، في الرّوح والحقّ، بينهم، لا تأتي إلاّ من استيداع ذواتهم بين يدي الله!. إذ ذاك، وإذ ذاك فقط، يتخطّون ترتيبات النّاس، على عقمها، ليأتي بهم روح الله إلى وحدة غير منظورة في المنظورات!.

   على هذا تنفتح أذهاننا، أو ينبغي أن تنفتح، بلا عِقَد، لنتلقّن روح الله وفعله وحركته في كلّ مؤمن، وبالأكثر في كلّ إنسان، حيثما كان، سواء عُدَّ منتميًا إلينا أم إلى سوانا!. ولا يسعني، في هذا السّياق، إلاّ أن أُبدي أنّ “الكتب المقدّسة” لا تصنع قدّيسين. تدلّك على درب القداسة، فإن كنت قويم القلب، نفعتك، وإلا فاتتك!. تفسيرات النّاس لها، أحيانًا، تجعلها، في الأفهام، أسبابًا، تُحسَب إلهيّة، لقتل النّاس، وروح الله في النّاس!. ما لم تقد “الكتب المقدّسة” البشريّة إلى تخطّي الإنسان ذاتَه، ليبذل نفسه لله وخليقة الله، فإنّها، أي “الكتب”، تمسي أداة يستغلّها الشّرّير لتدمير الإنسان، باسم الله!. حيلة الخبيث أن يقنعك بأنّ ربّك قيدٌ، وأنّ الشّرّير مطلقك من كلّ قيد، حتّى يكون لك، في اتّباع مشيئتك الذّاتيّة، ملءُ الحرّيّة وكمال المعرفة!. ويفوتك أنّ تمسّكك بمشيئتك الذّاتيّة يجعلك لقمة سائغة في فاه إبليس، لأنّ إبليس سيّد المستغرِبين عن مشيئة ربّهم!. وما مشيئة ربّك إلاّ الضّمانة في تحقيق ذاتك، إنسانًا!.

   بالعودة إلى الأب متّى المسكين، سألوه، مرّة: أيستجيب ربّك متى صلّيت؟ فأجاب: لو لم يكن ليستجيب لكنت مزّقت “الكتاب المقدّس”، وألقيته في صندوق القمامة!. طبعًا، يستجيب!. حيّ هو الله الّذي أنا واقف أمامه!.

   دور الصّلاة، اليوم، تعاظم، في خلفيّة القلب القويم!. الحوارات، على كلّ صعيد، قلّما عادت تجدي!. السّبب أنّ العزلة الكيانيّة، بين النّاس، تعاظمت!. الإنسان ينقطع عن الإنسان، على نحو مطّرد، لأنّه ينقطع عن الله!. وفيما يتعاظم دور العقل في النّاس وتقديسُهم إيّاه، يمعن الإنسان في الغربة عن الإنسان، ويقيم حواجز فولاذيّة حول ذاته، حتّى لا يصل أحد إليه، غير مبال بالامتداد صوب سواه!. لم يعد الحوار، في مناخ اللاّمبالاة والإلغاء الكيانيّ للآخر، أكثر من ذرّ للرّماد في العيون، ابتغاء وحدة كذوب مؤسّسةٍ على بيان مشترك، والتماسَ وحدةٍ حقيقتُها دهريّة تأتي من تلفيق وزيف!. تغور الكلمة باطّراد في جبّ الإلحاد!. تصير بلا مضمون إلهيّ لأنّها لا تصل أحدًا بأحد بالله!. لم يعد الإقناع والاقتناع ينفعان ويكفيان، لأنّ القلب لم يعد إلى القلب!. فلا غرو إن كثُر الكلام واشتدّت المعاناة بالأكثر!. الصّمت، إلاّ أقلّ الكلام، بات أبلغ!. لم تعد الأزمة أزمة كلمة بل أزمة قلب!. ما بقي غير الصّلاة ليُشفى مَن يُشفَى في العالم!. الله يسمع أنّة العالم، اليوم، أكثر من أيّ وقت مضى!. التّجربة تشتدّ، لذا النّعمة تزداد جدًّا!.

   فيما سبق، كانت الصّلاة بحاجة إلى تعب، وإلى تعب شديد!. اليوم، ليستجيب الرّبّ الإله، لم تعد الحاجة لأكثر من وجع قلب على النّاس، ولو أقلّه!. هذا زمان الضّياع؟!. صحيح!. ولكن، بذات القدر، هذا زمان الرّضى!. ربّك يزداد حنوًّا على وجع خليقته!. فيه نذوق الوحدة الحقّ، مهما باعدت المسمّاة “ديانات”، والجغرافيا والتّاريخ والسّنن والأعراق والاقتصاد والفلسفات والسّيكولوجيا، فيما بيننا!. الوحدة تَوَحُّد إلى ربّك، واستيحاد في التماس محبّة القريب!. أَحِبَّ قريبك كنفسك!. كواحد وإيّاه!. لا أقلّ من ذلك!.

   وحده ربّك يغيِّر!. بإزاء حضارة برّاقة هَرِمَ فيها الإحساس بآلام النّاس، يُطبق علينا الموت من كلّ جهة ليحيل عالم خِلْقة الله جحيمًا وخواء، نجدنا في عجز أبدًا!. كيف نخرج إلى النّور؟!. ثقافة تروّضنا على فراغ الكيان وأن نُشَيَّأ وأن ننحدر، في تعاطينا أحدنا الآخر، إلى ما دون مستوى البهيمة، لسنا نشاؤها!. أعِد إليّ إلهي!. أعد إليّ روحي!. أطلق يديّ!. حتّى متى أحيا أهرب من الموت في ظلال الموت!. أشتاق إلى الحياة!. لست آلة!. لست فكرة!. لست رقمًا!. لا أشاء أن أُقاس، بعدُ، بشيء!. لا بساعات عمل، ولا بأجر ولا بطاقات!. أنا قلب!. أنا حبّ!. خُلقت للفرح لا للشّقاء!. للمعيّة لا للأنانيّة!. مَن ينقذني من حضارة الموت هذه؟!.

   لِمَن تذهب خليقتك، ربّاه، إلاّ إليك!!. بتنا كتلة جراح!. في الصّيام نأتيك لأنّه ليس مَن يحبّنا إلاّك!. مخلوقك يستجدي الحنان ولا مَن يعطيه!. تعبنا!. ناسُك منهَكون!. اللّهمّ بادر إلى معونتي، يا ربّ أسرع إلى إغاثتي!.

الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي
دوما – لبنان
22 شباط 2015

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share