المؤسّسة القاتلة لا أظلم من غربة البيت!.الحلقة الأخيرة (١٥) – الأرشمندريت توما (بيطار)
“لا فرح أعظم من الفرح
النّاجم عن تقبّل الظّلم من أجل المسيح”.
القدّيس بائيسيوس الآثوسيّ.
هل يحتِّم استمرارُ الكنيسة وجودَ المؤسّسة كما لو كانت الحشا الّذي يُفرع الخدّام، والحضنَ الّذي ينشئهم، والمِعجن الّذي يضمُّهم وميراثهم، أُكُلاً للأجيال المتعاقبة، وخميرًا لطلوع عجين البشريّة؟ إذا ما سلّم الواحد بأنّ المؤسّسة هي، فعلاً، كذلك، وهذا هو الحاصل، بالأكثر، والمعتبر أمرًا بديهيًّا، فإنّ المؤسّسة تضحى هي الثّابت في تاريخ الكنيسة، فيما الخدّام هم المتغيِّرون!. من أين يأتي الخدّام، والحال هذه؟ من المؤسّسة!. لكن المؤسّسة ملفّ ونظام: الملفّ هو سجل أحداث وتعليم؛ والنّظام هو آلية ضوابط. الملفّ، في أفضل الحالات، يمكن أن يكون بعضُه سجلَّ روح الله. مستحيل عليه أن يكون روحًا!. والنّظام، يمكن أن يكون بعضُه قواعد أخلاقيّة!.
مستحيل عليه أن يكون إنجيلاً حيًّا!. إذًا مستحيل على المؤسّسة أن تفرع كنيسة، أو تعادل كنيسة، أن تكون جسد المسيح، أو أن تُخرج أغصانًا، انتماؤها العميق إلى الكرمة الّتي هي المسيح، أي قدّيسين يُقام منهم خدّام للقدّيسين!. إذًا الكنيسة لا تستمرّ بالمؤسّسة، لأنّ المؤسّسة، في ذاتها، شيء ميت، ولو أشار بعضها إلى الحياة، ولا يمكن أن تفضي إلاّ إلى موت!. إذًا، المؤسّسة أداة موت؛ ولا أقول، فقط، إنّها لا تؤمّن استمرار الكنيسة، بل تشدّ، بطبيعتها، المؤمنين إلى الموت؛ واعتمادها، مهما جرى تطويرها، إطارًا وقاعدة لحفظ الكنيسة واستمرارها، هو اعتماد لمسرى القضاء على إنجيل الحقّ، وتاليًا على الكنيسة!.
عندما كتبتُ أنّ للكنيسة بُعدًا مؤسّساتيًّا، تمييزًا لها عن كونها مؤسّسة، ماذا قصدت؟ كلّ خدمة تطال مجموعة من النّاس لا بدّ أن تؤدّى بلياقة وترتيب. لا خدمة حقّ، خاصّة إذا كانت خدمة روح، يمكن أن تكون عشوائيّة. ولكن، هذا لا يعني، أبدًا، أنّ اللّياقة والتّرتيب يجوز أن يصيرا هدفًا. مجرّد ميزة!. في كلّ حال، اللّياقة والتّرتيب مساعدان للخدمة!. الموضوع هو الخدمة، فيما اللّياقة والتّرتيب يرتئيهما الخادم بالمحبّة والحكمة اللّتين يؤتاهما من فوق. همّ اللّياقة والتّرتيب لا يجوز أن يطغى على الخدمة، أو أن يصير الخادم أعجز من أن يحيط بالخدمة بسبب ثقل همّ اللّياقة والتّرتيب عليه. وهذا يمكن أن يحدث إذا ما زاد عبء المخدومين على طاقة الخادم، سواء من حيث العدد أم من حيث أنواع الخدمة. ما يعني أنّ الخدمة ينبغي أن تبقى في حدود طاقة الخادم على الاستيعاب، وفي حدود الحفاظ على الطّابع الشّخصيّ للعلاقة بين الخادم والمخدومين. ساعة تتخطّى الخدمة قدرة الخادم على الاستيعاب، وساعة يتآكل الطّابع الشّخصيّ للخدمة، في العلاقة بين الأخ الخادم والأخ المخدوم، فإنّك تجدك بإزاء خدمة من نوع آخر تمامًا غير المحبّة، محورها ما يؤدَّى، لا العلاقة الأخويّة المحبّيّة بين مَن يؤدّيها ومَن تؤدَّى له!. في خدمة الموائد، ليس الموضوع أن تعطي الأرامل خبزًا وحسب، بل خبزًا وحنانًا، في آن!. كذلك ليس الموضوع أن تحصل الأرامل على الخبز وحسب بل أن تحصل بالأولى المساواة ويؤدَّى الشّكر لله وتترسّخ أخوّة القربى في المسيح بين أبناء الكنيسة الواحدة!. الهدف الرّوحيّ من خدمة الموائد هو، بالأَولى، المبتغى، لا فقط قضاء حاجة الجسد!. المهمّ أن يكون المسيح، أوّلاً، ما يعطيه الخادم، في الخبز، وما يأخذه الأخ المحتاج، من ثمّ، للشّكران وفرح الرّوح؛ وما تبقّى علامة محبّة تُعطى وتُتعاطى وتُزاد!.
أمّا في خدمة الكلمة، فليس الموضوع إلقاء الكلمة وإمامة خدمة العبادة وحسب، بل أن يطفر الخادم، بالأَولى، بكلمة الكلمة، بالرّوح الّتي خاطب بولس الرّسول فيها أهل فيليبي لمّا قال لهم: “الله شاهد لي كيف أشتاق إلى جميعكم في أحشاء يسوع المسيح”!. ليس الموضوع فقط أن يدعوهم إلى البطولات الرّوحيّة، بل، بالأَولى، أن يسوقهم إلى الجهاد عينه الّذي يرونه ويسمعونه فيه!. ولا الموضوع أن يَحثّهم على العبادة وحسب، بل، بالأَولى، أن يمدّ روحه إليهم إذ يحيطهم بأنّ الله الّذي يعبده بروحه يشهد له كيف بلا انقطاع يذكرهم ويتضرّع دائمًا في صلواته من أجلهم!. ساعتذاك يتحقّق الهدف الرّوحيّ من بثّه الكلمة فيهم وهو أن يلدهم وينشئهم في المسيح، لا أن يكون حَسبُهم معرفة إدراكيّة به تنفخهم، من حيث إنّ العِلم ينفخ، فيما المحبّة وحدها تبني!. المهمّ أن يكون المسيح ما يتعاطاه الخادم المتكلِّم، كسِرّ، والمخدوم السّامع، في تفاعل القربى، لبنيان الكنيسة وسرور المؤمنين!.
النّهضة، إذًا، لا تكمن في مؤسّسة أكثر تنظيمًا وأحسن إدارة وأجدى مفعوليّة!. هذا إمعان في الاستغناء عن الرّوح وتغييبه!. النّهضة مكمنُها في روحنة الخدمة وشخصنتها ومُحبّيّتها!. إذًا، الخادم القدّيس ذو الموهبة الإلهيّة يُلاحَظ ويُفرَز ويُقام على الخدمة، بوضع الأيدي، في حدود ما يمكن احتواؤه!. “المؤسّسة” الّتي لا طاقة للخادم على الإحاطة الشّخصيّة بالمؤمنين فيها، والّتي يضيع فيها المؤمنون المخدومون ويُمسون أدنى إلى الأرقام والملفّات والوجوه العابرة ليست من عمل الكنيسة ولا تنتمي إلى روحها ولا يجوز اعتمادها، لأنّها تستحيل سرطانًا شرعيًّا يغتذي بدم الشّركة ويفتك بها ويفرغ الكنيسة من مضمونها الرّوحيّ ويحيلها كتلة دهريّة من النّاس، جامعُها الكنسيّ إسميّ أجوف!. بكلام آخر، روح المؤسّسة، إن استبدّت بالكنيسة، زكّت روح العالم فيها ورسّخت الإلحاد الكنسيّ (راجع المقالة الثّانية) في الأكباد وأطاحت البيعة!.
على أنّ واقعنا هو أنّ المؤسّسة أضحت مكوِّنًا أساسيًّا، لا بل الأرضيّة المعمّمة لنسيج وجداننا في الكنيسة!. التّخلّص منها، في المستوى العامّ، مستحيل!. عليها ينطبق كلام مَثَل القمح والزّؤان الّذي زرعه العدو في حقولنا، فلا يُنزَع الزّؤان ولا يُنقّى القمح تمامًا قبل اليوم الأخير!. طبعًا، المؤسّسة، ولو كانت تساهم، في كلّ حين، في إيلام الرّوح ويباسها، فإنّ التّداخل بين ما للرّوح وما للعالم فيها يبقى واقعًا قائمًا!. الرّوحيّون، فيها، يقيمون، وعلى نحو متزايد، كما في غربة، مضطهَدين، يحملون في أجسادهم سمات الرّبّ يسوع، مصلوبين!. إلى خاصّته جاء مسيح الرّبّ وخاصّته لم تقبله؛ والرّوحيّون الأخيريّون المتمسِّكون بروح الفقر التماسَ غنى ربّهم، يبدون كأنّهم في أرضهم الخاصّة، لكنّ أرضهم تستهين بهم وتنبذهم وتطرحهم خارجًا!.
في الكنيسة الأولى، كان القدّيسون يضطهدهم وثنيّو الخارج. اليوم، الوثنيّة الكنسيّة هي الّتي تلفظ القدّيسين، خارجًا، باسم المسيح!. أقام السّيّد، أوّل إقامته، غريبًا، حقيرًا، في مغارة، وقِيس بالبهائم الّتي لا عقل لها، ونشأ وسار بين النّاس، حتّى الصّليب، لا مطرح يسند إليه رأسه؛ واستمرّ غريبًا، بعد صعوده، في أحبّته!. إن كانوا قد اضطهدوني فسيضطهدونكم أنتم أيضًا!. خاصّتُه هي الّتي تفعَل بهم ذلك!.
مَن يحبّون الله، اليوم، وجعُهم كنيستُهم!. المقيمون في “قصورهم” باقون فيها، ولا مطرح لأحبّة الله الصّغار إلاّ في المغاور والكهوف الفكريّة؛ ولا موضع يرتاحون فيه إلاّ مزاود البهائم!. هؤلاء هم الشّهداء الجدد الّذين يُحاكون الشّهداء الأوائل!.
يرتحل ذهني إلى الخدّام، حاملي روح الله، اليوم، المقامين على خدمة الكلمة، في مناخ المؤسّسة!. يا لَوجعهم!. كيف يخدمون الله في أرضهم المستغرِبة؟!. لا يقدرون أن يغادروا، أقلّه رحمةً بالصّغار، ولو كان الزّمن زمن الفتات!. ولا يقدرون أن يستمرّوا إلاّ نزفًا، لأنّ روحهم تأبى عليهم الخوض في الكنيسة بروح المؤسّسة!. على أنهار بابل كنيستنا، هناك جلسنا وبكينا… سألَنا الّذين “سبَونا” كلمات ترتيل… كيف نرتِّل ترتيلة الرّبّ في أرض غريبة؟!.
“أعطني هذا الغريب…”!.
* هذه المقالة الخامسة عشرة، من سلسلة “المؤسّسة القاتلة”، تعالج، بمزيد من الدّقة والإسهاب، بنودًا سبق إيرادها، في مقالات سابقة، ولكن بقيت على شيء من اللَّبس، ما حدانا إلى الخوض فيها جلاءً لها.
الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي
دوما – لبنان
30 أب 2015