دونك يوحنّا مثالاً.! – الأرشمندريت توما (بيطار)
عظة في الذّهبيّ الفم
وأخي الأرشمندريت يونان في البال
مُسامًا أسقفًا على زحلة في ١٤ – ١١ – ٢٠١٥
يوحنّا الذّهبيّ الفم صورة المؤمن، الّذي يترك كلّ شيء ويتبع المعلّم؛ وهو صورة الأسقف، الّذي يبذل نفسه، بالكامل، عن خراف المسيح. أوّلاً، الذّهبيّ الفم هو الإنسان الّذي افتقر من أجل الملكوت.
وجد الكنز المُخفى، الكثير الثّمن، لا سيّما بفضل تنشئة أمّه أنثوسة؛ فذهب، وباع كلّ شيء له، واشترى ذاك الكنز. من عائلة مرموقة. أبوه جنرال في الجيش. وأمّه من السّيّدات البارزات، في المجتمع الأنطاكيّ.
تسنّى له أن يتلقّى قسطًا وافرًا من علوم الدّنيا. برز. درس على خيرة فلاسفة زمانه. إذًا، كان له، في العالم، كنز وافر. لكنّه، بعدما اكتشف الكنز السّماويّ، ترك كلّ شيء: الكرامة، العظمة، الرّغد… وطلب الملكوت. مات أبوه، وهو صغير. لمّا كبر، أراد أن يخرج إلى جبال أنطاكية، ليسلك في التّوحّد. لكنّه، لأسباب عائليّة، بقي في بيته. وهناك، سلك في النّسك. كان يعي أنّ النّسك، أوّلاً وقبل كلّ شيء، في القلب.
الإنسان يمكنه أن يسلك في النّسك في كلّ ظرف، ما دام يعتبر يسوع هو الكنز.! عندما نزل عند طلب والدته، أن يبقى معها ما دامت على قيد الحياة، عرف أن يُفرغ نفسه من مشيئته الذّاتيّة، وأن يتّضع، وأن يحبّ.
هكذا، أقام، في بيته، إلى أن تكمّلت أمّه، وتقدّست، ورقدت. رتّب شؤون أخته، في معيشتها؛ ووزّع ما بقي له على الفقراء؛ ثمّ خرج، فقيرًا من أمور الدّنيا، إلى جبال أنطاكية، ليتمرّس في الأتعاب من أجل الملكوت: بالصّوم، بالسّهر، بالصّلاة، وبقراءة الكلمة الإلهيّة…
قسا على نفسه. أفرغ نفسه من محبّته لذاته. والنّسك، في الحقيقة، هو القسوة على النّفس، التماسَ محبّة الله. الإنسان، في سعيه إلى إفراغ ذاته من محبّته لذاته، يصير مهيّئًا لأن يمتلئ من محبّة الله. أراد يوحنّا أن يصير الرّبّ يسوع، في حياته، الكلّ في الكلّ. أراد أن يمتلئ من محبّة يسوع. هذا جعله إنسانًا يتجدّد، في الرّوح، كلّ يوم. انعطبت صحّته الجسديّة؛ فاضطرّ، بناءً لنصيحة الشّيوخ، إلى النّزول إلى أنطاكية المدينة. كان يرغب في قضاء حياته، بأكملها، في الجبال؛ لكنّه رضخ لواقع الحال، ولمشيئة ربّه. باتّباعهالحياة النّسكيّة، لم يكن يرمي إلى إنجاز ما، في العالم. كان يكفيه أن يحيا في المسيح، وأن ينمو في النّعمة والقامة، يومًا بعد يوم، وأن يُصلّي من أجلِ سلامِ كلِّ العالم كلَّ يومٍ. ألقى بنفسه بين يدي الله الحيّ، كما على الصّليب. كان مستعدًّا لأن يقتبل كلّ ما يشاؤه الرّبّ الإله له. لم يكن يعرف ما كان ينتظره. في فكر الله، كلّ هذا، الّذي عبر به، كان إعدادًا لهللانخراط في خدمة عظيمة مباركة للكنيسة، في العالم. كان لا بدّ له، في مرضه، من أن يغيّر نظام صومه وتقشّفه؛ لكنّه أبقى على ما يمكن إبقاؤه في حدود الطّاقة.
إذًا، تروّض الذّهبيّ الفم على محبّة الله. هذا أعطاه أن يكون في التّخلّي الكامل، في الزّهد، من جهة العالم. لم يتروّض، فقط، على بيع كلّ شيء لاقتناء الملكوت؛ بل تروّض، أيضًا، على الفقر بالرّوح، أي على إهلاك غرورِ نفسه، وفق تعبير يسوع: “مَن أهلك نفسه من أجلي ومن أجل الإنجيل يجدها”..! هكذا، أعدّه الرّبّ الإله في مدرسة إفراغ الذّات لمحبّة الله، وجعله يعود إلى العالم؛ لأنّه أراد أن يطلقه رسولاً للعالم.! من هنا، من علاقته الكاملة بيسوع المسيح، تحدّدت معالم علاقته بالجميع.! يوحنّا
جُعل كاهنًا، في أنطاكية. في ذلك الزّمان، لم يكن مألوفًا للكاهن أن يعظ. الأسقف، أصلاً، كان هو الّذي يُسمّى كاهنًا، وهو الّذي يعظ. لكنّ فلافيانوس الأنطاكيّ لحظ، في الرّوح، موهبة يوحنّا؛ فأعطاه أن يتكلّم؛ فصار واعظ أنطاكية بامتياز. تأثيره في العامّة من النّاس كان كبيرًا جدًّا. محبّته لكلمة الله كانت فائقة. كان يغتذي منها، ومن بثّها للنّاس. مواعظه كانت خلاّبة، بنعمة الله. كان النّاس يتدفّقون عليه، ليسمعوا كلامه يتدفّق من فاه كالطّيب؛ وكانوا في الدّهشة. ويبدو أنّ العديدين، من أوّل مسيرته، وعوا أهمّيّة المواعظ الّتي كان يتفوّه بها؛ فكان هناك مَن يدوّنها. هكذا، اجتمعت مواعظه في مجلّدات ضخمة. كان يسترسل، وكأنّه نبع فيّاض.
لعلّكم تعلمون أنّه كان قصير القامة، ضئيل الصّوت، ضعيفًا. لكن، كان صوته ينفجر، أحيانًا، انفجارًا كبيرًا.! ولمّا كان، في أنطاكية، قوم لا يفهمون اليونانيّة، لغةً، بل السّريانيّة، كان ثمّة مَن يترجم. ذاع صيته في كلّ مكان؛ وعُرف، بخاصّة، عندما وقعت حادثة التّماثيل. الأنطاكيّون اهتاجوا، عندما فُرضت عليهم ضريبة إضافيّة، وتظاهروا، وحطّموا تماثيل الأمبراطور وزوجته ووالده وولديه. انتشر العسكر، وساد في المدينة صمت جنائزيّ. الرّهبان، في ذلك الحين، نزلوا من الجبال دفاعًا عن شعب أنطاكية. والأسقف فلافيانوس تجشّم أتعاب السّفر إلى القسطنطينيّة، في عزّ الشّتاء، ليستصدر عفوًا من الأمبراطور. وإلى القسطنطينيّة، أيضًا، توجّه رسل عسكريّون، لتقديم تقرير، واستصدار أمر بمعاقبة المدينة.
هكذا، تُركت أنطاكية في جوّ ملبَّد بالغيوم؛ وكان يوحنّا هو المعزّي، من لدن الله. يومذاك، صدح بمواعظه الفذّة في التّماثيل؛ الّتي ما زالت، إلى اليوم، معروفة ب”عظات التّماثيل الاثنتي عشرة”. في نهاية المطاف، رأف الرّبّ الإله بشعبه، وعاد فلافيانوس مظفَّرًا، لأنّه تمكّن من استصدار عفوٍ من الأمبراطور عمّا فعله الشّعب.
يوحنّا كان، إذًا، المعلّم الّذي عزّى بالكلمة الإلهيّة، وشدّد، وقوّى، وثَبَت حيث هو؛ فتعلّق الشّعب به تعلّقًا كبيرًا.
في ذلك الحين، تُوفّي رئيس أساقفة القسطنطينيّة؛ فجرى البحث عن شخص مناسب. وحيث إنّ صيت يوحنّا كان قد ملأ الأمبراطوريّة، فقد خُطف إلى القسطنطينيّة، اتّقاء غضب النّاس، وجُعل رئيس أساقفة عليها. كان يوحنّا مستعدًّا، أبدًا، لأن يبذل نفسه، وأن يقول الكلمة ليتعزّى بها النّاس. في القسطنطينيّة، واجه يوحنّا صعوبات ليست بقليلة. استمرّ، طبعًا، في محبّته للفقر وللفقراء. باع الكثير من الأثاث في الدّار الأسقفيّة، ووزّع ما وزّعه على الفقراء. كان يرفض أن يحيا في التّرف. حوّل داره إلى شبه امتدادٍ لمنسكه في جبال أنطاكية. كان يأكل القليل، وكان “ممعودًا”. من أوّل الطّريق، لم يكن يدعو أحدًا، لا إلى الغداء، ولا إلى العشاء؛ ولم يكن يقبل دعوات كبار القوم. كان يحافظ على إطار الفقر. وهذا، طبعًا، لم يكن مألوفًا. لذلك، النّبلاء والعظماء استاؤوا تصرّفه، لأنّ صورتهم عن أسقف المدينة كانت أنّه وجه اجتماعيّ بامتياز. بدأوا يتآمرون عليه. كبارُ الدّنيا يريدون أسقفًا على صورة شهواتهم. وكان هناك أساقفة يوظّفون المشاعر السّالبة، لدى علّيّة القوم، لصالحهم. في مقدّمة هؤلاء كان ثيوفيلوس الإسكندريّ، الّذي لم ينفكّ يومًا عن التّآمر على يوحنّا. يوحنّا لم يرد أن يسيء إلى أحد. لكنّه كان ضنينًا بحفظ الأمانة الكاملة لله. وكان شجاعًا، لأنّه اقتنى محبّة الله.
لم يكن شيء يحول دون تفوّهه بكلمة الحقّ. كان يعلم أنّه يستمدد سلطانه من فوق. لم يكن يتملّق، ولا يداهن. هذا لا يعني، أبدًا، أنّه كان غير مهذّبٍ. على العكس، كان ودودًا، مُحِبًّا. لكن كان له همّ واحد: أن يكون أداة في يد الله، لبنيان المؤمنين؛ أحيانًا، لتعزيتهم؛ وأحيانًا، لتأديبهم.! كان رجلاً لله، بكلّ معنى الكلمة.
إذًا، علاقته بعلّية القوم استبانت، منذ البداية، صعبة. وجهاء هذا الدّهر يطلبون العظمة، في هذا الدّهر؛ ويوحنّا لا يطلب إلاّ مجد الله، ولا يسعى إلاّ إلى بثّ كلمة حقّ الإنجيل للخلاص.! وكما كانت علاقته بعلّيّة القوم، كانت علاقته بالبلاط. لم يكن مستعدًّا لأن يكون طَيِّعًا للولاة، عميلاً لهم، أداة بين أيديهم. لم يكن مستعدًّا لأن يتزلّف لأحد.! كلّ هذا أدخله في حلقة صراع، لا سيّما مع الأمبراطورة أفدوكسيّا. هذه كانت تنفر منه. لماذا؟.! لأنّه لا يسكت عمّا يعتبره حقًّا.! هذا كان يجرحها.! كانت متعظّمة. أقامت لنفسها تمثالاً فضّيًّا على رخام سمّاقي.! طبعًا، يوحنّا انتقدها، وانتقد التّمثال. بلغ كلامه مسمعيها؛ فأرادت به شرًّا. عرف أنّها تكيد له المكائد. قال: “هيروديّا تطلب رأس يوحنّا”.! حاولت أفدوكسيّا أن تنتقم لكرامتها، ففشلت مرّة، ومرّتين؛ وأخيرًا، تمكّنت منه؛ فنُفي إلى كوكوزا في أقاصي أرمينيا. هناك، كابد الأتعاب الكثيرة، على مدى ثلاث سنوات. أخيرًا، رقد بالرّبّ في كومانا. لبس الأبيض، بعدما عرف أنّ ساعته قد حانت، وكانت آخر كلماته: “المجد لله على كلّ شيء”.
يوحنّا كان في العالم، لكنّه لم يكن رجل العالم. كان مستعدًّا لأن يقف في وجه المتعظّمين؛ ولأن يتّضع، ليجعل نفسه خادمًا للمتّضعين، وللفقراء، وللمساكين. كلّ ذلك فعله يوحنّا في جسد رقيق، ضعيف. نعمة الله كانت هي تحييه. طبعًا، كان هذا بتدبير من الله. الله لا يشاء أن يكون خدّامه مصارعين، ذوي عضلات مفتولة، مغترّين بأنفسهم. لذلك، يختارهم من الضّعاف. يعطيهم شوكةً في الجسد؛ لكي يعوا، كلّ حين، أوهانهم؛ ويدركوا: “قوّتي من عند الرّبّ، الّذي صنع السّماء والأرض”.
يوحنّا الضّئيل، الضّعيف في الجسد، كان قويًّا في الرّوح. بلى، “لنا هذاالكنز في آنية خزفيّة”.! القصّة عينها تتكرّر من قدّيس إلى قدّيس، من زمن إلى زمن، من مكان إلى مكان. هكذا يتمجّد الله في قدّيسيه. يوحنّا صار معلّمًا للمسكونة؛ صار مثالاً للأساقفة؛ وصار، أيضًا، معلّمًا للنّسّاك؛ فلا غرو إن عُرف بأحد الأقمار الثّلاثة، إلى جانب باسيليوس الكبير، الّذي عاش عمره، هو أيضًا، معتلاًّ في الجسد على نحو يوميّ؛ والقدّيس غريغوريوس اللاّهوتيّ، الّذي كان فقيرًا بالرّوح، ضعيفًا بالجسد.! هؤلاء الثّلاثة كانوا متّقدين بالرّوح، وكانوا يشعّون، وما زالوا يشعّون في سماء الكنيسة، إلى اليوم. هذا لنتعلّم أنّ الإنسان، إذا ما كان لله، فالرّبّ الإله هو الّذي يعلنه؛ أمّا هو، فيخفي نفسه، إلى المنتهى. ولنتعلّم، أيضًا، أنّ رجال الله يبذلون أنفسهم حتّى الشّهادة: يشهدون بالكلمة، ويشهدون بالدّم، متى دعت الضّرورة. ولتكون لنا، من خلالهم، أيقونة للأساقفة الآتين من فوق، الّذين يشدّون كلّ شيء إلى فوق. هؤلاء الثّلاثة كانوا، بشريًّا، فاشلين.
وكلّ إنسان لله فاشل، في العالم، بحسب مقاييس هذا الدّهر. الأسقف، أيضًا، كلّ أسقف، إذا ما كان لله، يعيش، بعامّة، مرذولاً، ويموت مرذولاً. فقط، الله يحيي العظام الرّميمة، ويجعل الحجر الّذي رذله البنّاؤون رأسًا للزّاوية.
آمين.