وجه البير لحّام
جورج غندور
رحل ألبير لحّام لملاقاة وجه السيّد الذي أحبّ وأخلص له طيلة حياته. رحل بصمت وخفر، مكفّنًا بتواضعه ومكلّلاً بإكليل الجهاد الذي ضفره بعمله الدؤوب والمضني في حقل الربّ. رحل حاملاً معه همّ الوحدة الأرثوذكسيّة التي شغلته وسعى جاهدًا إلى تحقيقها حتّى رمقه الأخير. رحل وقد ترك وراءه أجيالاً من الذين تتلمذوا عليه من مختلف الكنائس الأرثوذكسيّة.
عرفت ألبير قبل أن ألتقيه. كان اسمه يتردّد دائمًا على لسان جورج أبو مراد، وهو من مرافقي ألبير في مطلع نشوء حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة. كان جورج أبو مراد يقول لي دائمًا: »لا يمكنك أن تحوط بماهيّة الحركة قبل أن تتعرّف إلى ألبير لحّام«. وكان يروي لي كيف كان ألبير، وهو المحامي اللامع والمشهور، يتنقّل من قرية إلى قرية واعظًا ومؤسّّسًا فروعًا حركيّة، ومدافعًا عن الإيمان القويم في وجه الحملات التبشيريّة، التي كانت تستهدف الأرثوذكس في قرى جبل لبنان. وما زلت أذكر حتّى اليوم، اللقاء الأوّل لأهل قرية عين داره، بعد عودتهم، بألبير حيث كان فرح هؤلاء عظيمًا بالأستاذ ألبير الذي »ولدهم في المسيح«، والذي كان يشاركهم في عيد فرعهم الذي أسّّس.
وشاءت ظروف الحياة أن التقي بألبير لحّام في فندق البريستول في بيروت لمقابلة نشرتها مجلّة النور، وكنت حينها طالبًا في كلّيّة الحقوق. يومها لفتني في الرجل رصانته، وصوته الهادئ، وعمقه في مقاربة الشؤون الكنسيّة، وتواضعه ومعرفته الموسوعيّة بالكتاب المقدّس والليتورجيا والآباء وتاريخ الكنيسة، وجرأته، وروحه النقـديّة، ومرونـته وقـدرته على اجتراح الحلول لمسائل كنـت أظنـّها شائكـة، وإحاطـته بشؤون الكنيسة الأرثوذكسيّة الجامعة وشجونها. خرجت من المقابلة ودوّنت في مفكّرتي يومها: »اليوم التقيت برجل استثنائيّ، يحمل الكنيسة الأرثوذكسيّة في قلبه وكأنّه بطريركها المسكونيّ«.
وتعمّقت معرفتي بألبير لحّام مع انتقالي إلى السكن في جنيف. حيث كنت ألتقيه أيّام الآحاد في كنيسة القدّيس بولس في المركز الأرثوذكسيّ في شامبيزي، وأجالسه بعد القدّاس الإلهيّ لنتناول القهوة معًا. في جنيف فهمت معنى قول جورج أبو مراد إنّه لا يمكن أن تحوط بحركة الشبيبة الأرثوذكسيّة ما لم تتعرّف إلى ألبير لحّام. فرغم شيخوخته، كان ألبير يتّخذ طيلة القدّاس الإلهيّ، زاوية من زوايا الكنيسة، يقف فيها مأخوذًا بالليتورجيا، مخطوفًا إلى فوق، والدموع تغمر عينيه. وكنت فورًا تشعر بأنّ الرجل يقف في حضرة اللَّه، وأن نور اللَّه يشعّ من وجهه. وبعد القدّاس الإلهيّ، كان يجالسنا، ويغوص في شرح معاني الكتاب أو الأعياد، بعمق وبساطة وبوجه يغمره الفرح. وغالبًا ما كنت أسترق بعض اللحظات لأستوضح منه بعض التفاصيل عن مراحل تاريخيّة مرّ بها الكرسيّ الأنطاكيّ. كنت أعرف أنّه أدّى دورًا محوريًّا فيها، وغالبًا ما كان يجيبني، شارحًا ومفصّلاً ومحلّلاً، من دون أن يشير إلى دوره، وكأنّه كان شاهدًا لا لاعبًا أساسيًّا فيها. وهذا، بالطبع، يدلّ على تواضع الرجل وامّحائه.
ومنذ سنوات، فيما كان يتحضّر لمغادرة جنيف إلى بيروت، حيث كان يريد أن يمضي بقيّة حياته بقرب الشباب وبين الحركيّين الذين أحبّ، سألته لماذا لا تنشر مذكّراتك فهي مفيدة لإزالة الغموض عن جزء مهمّ من تاريخ الكرسيّ الأنطاكيّ. بادرني مبتسمًا »الماضي مضى ولماذا نبشه الآن. أنا لم أكن إلاّ شاهدًا على ما حصل«. لاحقًا، علمت أنّه رمى الجزء الكبير من أرشيفه قبل مغادرته جنيف.
يبقى أنّ شهادتي في ألبير لا تفي الرجل حقّه. فالكبار الكبار لا يحوط بهم أحد و»لا يخلفهم أحد، ولكنّهم يبقون في النفوس أجيالاً تتوالى«.
إلاّ أنّني أنشر في ما يلي رسالة لألبير كتبها في العام 2002 للمطران فيلبّس (صليبا) تتناول طلب أبرشيّة أميركا منحها الاستقلال الذاتيّ. الرسالة تقول ببلاغة من هو ألبير. وهي تبيّن مدى تواضعه وسعة إطّلاعه وعمق تحليله. إنّها تشهد لمدى تحسّس الرجل للقضايا الكنسيّة ومدى تحرّقه من أجل الوحدة الأنطاكيّة والوحدة الأرثوذكسيّة.
وإذ أنشر هذه الرسالة، لا يسعني إلاّ أن أدعو إلى العمل على جمع الرسائل والدراسات والتقارير التي كتبها ألبير خلال حياته لما فيها من رؤية وعمق ومواقف نبويّة، ولأنّها تشكل مدرسة في الديبلوماسيّة الكنسيّة الراقية، إذا جاز التعبير.
يبقى أن أشهد أنّ البطريرك إغناطيوس (الرابع) غالبًا ما كان يسألني في سنواته الأخيرة، لمّا كنت أتحدّث معه في الشؤون الكنسيّة: »شو رأي ألبير؟«، لأنّه كان يعرف أنّ ألبير لحّام كان »إطفائيّ« الكنيسة، ورجل المهمّات الصعبة، تسعى إليه ولا يسعى إليها، فيجهد ليحوّلها مطرحًا من مطارح السجود ومكانًا لا يرى فيه إلاّ المسيح وحده.
مجلة النور 2013، العدد 7، ص 350-352