هل استقلنا من المسيحية؟

مرسيل مرقس Friday February 23, 2018 1158

بقلم: مرسيل مرقس -1957

 

عندما قامت حركة الشبيبة الأرثوذكسية منذ أربع عشرة سنة، انبثقت عن المشكلة الأساسية الكامنة في صميم الطائفة. وهذه المشكلة الأساسية لا تزال قائمة حتى اليوم وهي: “أنّ الطائفة موجودة ولكن لا كما يجب أن توجد”. الطائفة موجودة ولكنّها تعلم وتشعر أنّ وجودها، بشكله الحاضر، وجود ناقص غير كامل، وهي تسعى نحو وجود كامل. وليس المؤتمر الأرثوذكسي الأخير في دمشق وليست الانتخابات الملّية القادمة في الكرسي الأنطاكي المقدس والأحاديث المختلفة في كلّ بيت أرثوذكسي حول الاصلاح والتنظيم سوى مظاهر سعي الطائفة نحو وجود أصلح وأكمل. وهذا يبشر بالخير إن شاء الله ويدلّ على أن هناك روح نهضة وتحرك في الطائفة.

إلّا أنّنا إذا حللنا الموقف ببصيرة ودقّة، نرى أنّنا، رغم القوانين والانتخابات المرتقبة وسائر التنظيمات المنشودة، نلمس في أعماقنا شيئاً من عدم الارتياح وعدم الاطمئنان الكليّ، على ضميرنا كطائفة مثالية يسودها الوئام المسيحي والنشاط البنّاء. نشعر أنّنا بحاجة إلى شيء آخر غير القوانين والانتخابات وبالاضافة إلى القوانين والانتخابات، وأن هناك خللاً. لا بد ان يكون هناك خلل ما في طريقة وجودنا وطريقة كيأنّنا وحياتنا الآن، فأين الخلل؟

الخلل، نراه في صفة وحدة، في صبغة واحدة نصطبغ بها جميعاً، وهذه الصبغة هي: الاستقالة، الاستقالة من المسيحية. نحن كمسيحيين مستقيلون من المسيحية. لسنا مستقيلين من الطائفة ولكن من المسيحية. أي أنّنا مستقيلون لا اسماً ولكن فعلاً. وهذا لعمري أبشع انواع الاستقالة.. وهذا ما يفسر لنا عدم اثبات وجودنا كمسيحيين. نحن لا نثبت وجودنا كمسيحيين لا بين بعضنا البعض ولا مع الآخرين. في الكنيسة نتسحي أن نصلي. في البيت، كم من بيت أرثوذكسي ليس فيه إنجيل ولا يعرف معنى الصلاة! في المجالس والأحاديث نتنصل من العقائد المسيحية الأساسية: كألوهة المسيح له المجد، ونستهتر بالأخلاق المسيحية الأولية كالمحبة المجانية ومحبة الأعداء، كأنّنا حاولنا أن نطبقها ونعيشها فلم نجد فيها حقيقة الانسان الأخيرة والعظمى.

في مهنتنا ماذا يميزنا عن غيرنا؟ أي صدق وأي اخلاص وأي روح عدل يميزنا عن غيرنا؟ بين ظهر انينا عشرات من العائلات الفقيرة التي يزورها يومياً الجوع والعري والمرض. من منا يهتم بذلك؟ مع أن المسيح صور لنا الدينونة العامة بهذه الأقوال: “كنت جائعاً فلم تطعموني، وعطشان فلم تسقوني، وعرياناً فلم تكسوني، ومريضاً فلم تزوروني”. أتظنون أن المسيحيين الاولين كانوا يسمحون بأن يكون بينهم عائلة واحدة في عوز وحاجة من غير أن يهبوا جميعاً للمساعدة والبذل؟

في الطائفة خلاف يشقّها منذ أكثر من عشرين سنة ولم نعرف حتى الآن أن نحله، مع أن وصية المسيح الكبرى والأخيرة كانت لنا “أن أحبّوا بعضكم بعضاً كما أحببتكم أنا، بهذا يعرف الجميع أنّكم تلاميذي إذا كان لكم حبّ بعض لبعض”.

في المجالس النيابيّة والمؤسّسات الرسميّة ومختلف الهيئات الاجتماعية والشركات وغيرها من يفكّر أو يتجرّأ أن يقول: رأي المسيحية في هذه القضية كذا وكذا، أو روح المسيحية تقضي بأن يبت في هذه المشكلة بالطريق كذا وكذا؟ أمام التيارات الفكرية والاجتماعية العميقة التي تجتاح مجتمعنا في هذه الأيام وتعيد تكوينه على أسس جديدة من العدل الاجتماعي، ما هو موقفنا سوى بقائنا جالسين متفرّجين مستسلمين، كأنّنا نكرات وكأن ليس لمسيحيتنا وجهة نظرها بل كلمة الفصل الحقة في هذه التيارات، بما فيها من خير لا تخلو منه، بما فيها من شر، وكأنّ الخيرالذي فيها، كالتحسّس بالظلم وبالفاقة والرغبة الحارة في التغلّب عليها اذا ما نقيناها وطهرناها من البعض والكره والحقد وأقرنّاها باحترام الشخص وكرامته وحريته، كأن هذا الشعور الذي يدفع كلّ إنسان خيّر إلى تحقيق العدل الاجتماعيّ بروح المحبّة ليس في الأساس شعوراً مسيحياً بتحسّس به أولاً المسيحيون الحقيقيون.

ومع كل هذا، نبقى مسيحيين، بل نعتز بمسيحيتنا. هذه هي استقالتنا ايها السادة: استقالة داخلية عملية، نحن عملياً لا مسيحيون ولا غير مسيحيين، لا نقول نعم ولا نقول لا. لا نحن باردون ولا ساخنون. واذا قالوا عنا أحياناً بعد كل ذلك، اذا قالوا عنا جبناء، اسألكم بالله، أيحق لنا ان نحتج ونزعل؟

إذن ما العمل؟ العمل قليل من الرّجولة، أيها الأخوة. إنّ في المسيحية الرّجولة الأصلية والثقة والثبات والعطاء والاحترام، ولا شيء في الدنيا يناقض المسيحية كما يناقضها روح السلبية والانكماش.

نحن نبقى مسيحيين لأنّنا نعرف في داخلنا أن المسيحية لا يُتخلى عنها، إذ هي أثمن ما لدينا في الحياة وفيها ينابيع الحياة. فلنأتِ إلى هذه الينابيع ونستثمر تدفّق النّعم والبركات والقوى الفاعلة التي تجري في أعماقنا ونهدرها هدراً. المسيحية وُجدت لا لتبقى كلاماً بل لكي تُعاش وتُعاش كلّياً. نحن مسيحيون؟ فلنكن مسيحيين صراحة وكلّياً ونهائياً، في البيت والمجتمع. لنصلِّ ونحترم عقائدنا وندرسها ولا ندع أحداً منا محتاجاً، ونحل خلافاتنا دون تأخير ونتفهم التيارات الفكرية المختلفة وننقها ونوجهها نحو المسيحية، ونتفاعل ونتجاوب مع الآخرين في انفتاح وانطلاق، مساهمين في بناء مجتمع أفضل وطابعين إياه بطابع المسيحية لتكون الطائفة كما يجب أن تكون: أي لا طائفة بل كنيسة، كنيسة المسيح….

 

كتاب أنطاكيا تتجدّد ص 134-136

 

 

 

 

 

 

 

103 Shares
103 Shares
Tweet
Share103