“تستنكر الحركة التعصّب الأعمى والطائفيّة السياسيّة…”
المبدأ الخامس من مبادئ حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة
في خضمّ ما يجري من أحداث جسام في العالم العربيّ، ثمّة أسئلة جمّة تفرض ذاتها على ضمائر المسيحيّين بعامّة، والأرثوذكس بخاصّة، وثمّة تحدّيات تواجههم في خياراتهم ومصائرهم. وهذه الأسئلة والتحدّيات تستوجب تفكّرًا عميقًا وأجوبة نابعة من صلب تراثنا الكنسيّ الأرثوذكسيّ. لكن، في ما يعنينا، ما هو دور حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة وشبابها في ظلّ هذه الظروف المحيطة بنا؟
لا بدّ من الإشارة، بدءًا، إلى آفتين مستشريتين في جسد هذه المنطقة، هما الاستبداد في أشكاله كافّة، والطائفيّة أو المذهبيّة. وهاتان الآفتان، اللتان تنتج منهما كلّ الآفات الأخرى، واللتان هما وراء كلّ الحروب والنزاعات الداخليّة، تتناميـان باضطـراد حتّى إنّهما لتكادان تقضيان على المجتمعات المتنوّعة والمتعدّدة التي عشنا في رحابها لقرون عدّة. وهذا ما يولّد حالةً من الاشمئزاز والكفر بالبقـاء في أوطاننــا، ومــا يشكّـل دافعًا أســاسيًّا إلى الهــجــرة وتفريغ المنطقة من شريحة عزيزة من أبنائها البررة.
القضاء على هاتين الآفتين يتطلّب من المسيحيّين الإقدام وعدم الخوف من المستقبل. فليس الاستبداد السياسيّ أو التلطّي بالاستئثار بالسلطة هو ما يحمي المسيحيّين أو ما يطمئنهم إلى ما سوف يأتي من أيّام عصيبة. الإمبراطوريّات بادت، والسلطنات اندثرت، وكثير من النظم الديكتاتوريّة غابت، وآخرها الاتّحاد السوفياتيّ العظيم. وإذا ما أمعنّا النظر حوالينا، لرأينا مصير مسيحيّي العراق بعد انهيار نظام كان يزعم أنّه يحميهم وكانوا هم يصدّقون ما لم يكن سوى سراب وأضغاث أوهام وأحلام.
وليست الطائفيّة هي ما يصون حقوق المسيحيّين في الدولـة ومرافقـها. فالنظـام، أيّ نظـام، لا يمـكن أن يدوم إلى الأبـد. والحلّ الطائفيّ أساء إلى الحضور المسيحيّ وإلى شهــادة المسيحيّين فـي مجتمعــنا المتنــوّع، ولـم يصن البتّة وجودهم وفاعليّتهم. والطائفيّة، لكونها توازن أرقام وأعـداد، لا تنفـع مَن يتناقص عددهم أو تتناقص نسبتهم إلى سواهم لأسباب شتّى منها الهجرة، واختلال ميزان الولادات، والبحث عن الرفاه الاقتصاديّ والاجتماعيّ.
نحن لا نرى أنفسنا ملزمين بالخيار ما بين استبدادات رازحة على أعناقنا واستبدادات تلوح في الأفق. نحن نرفض كليهما، لأنّهما يغتالان الحرّيّة التي زرعها اللَّه في الإنسان لتمييزه عن باقي المخلوقات. كلاهما شرّ، ولكن ليس “لا بدّ من أحدهما”. الاستبداد، إن كان سياسيًّا أو حزبيًّا أو دينيًّا، يبقى استبدادًا، وليس من مفاضلة بينهما. وأيّ تزيين لأحدهما بالمقارنة مع الآخر هو قبول بقمع الحرّيّة، أي قمع صورة اللَّه في الإنسان.
ونحن لا نرى أنفسنا مجبرين على الخيار ما بين طروحات شتّى تقوم كلّها على التقاسم الطائفيّ. الطائفيّة، بدورها، ليست “شرًّا لا بدّ منه”، بل هي شرّ مطلق، لأنّها تتنافى وروح المواطَنة القائمة على المساواة التامّة في الحقوق والواجبات بين أبناء الوطن البلد. وكلّ تمييز في الحقوق والواجبات على أساس دينيّ أو مذهبيّ أو طائفيّ لا يقلّ سوءًا عن التمييز العنصريّ والعرقيّ، بل ربّما يفوقه سوءًا لأنّه ينطلق من المبدأ الإيمانيّ الذي يساوي ما بين خلق اللَّه جميعًا، فيجعله الناس مقياسًا للاستعلاء والاستكبار والاستقواء.
نحن لسنا ملزمين بسوى خيار واحد ذي وجهين متلازمين لا يكتمل واحدهما من دون الآخر. الحرّيّة والمواطَنة هما خيارنا الوحيد الذي انطلاقًا منه وحده نبني مواقفنا وآراءنا وأفعالنا. وكلّ موقف يهمل الحرّيّة والمواطنة، أو حتّى يقلّل من شأنهما، هو خيانة للحضور المسيحيّ والتراث المسيحيّ القائم على مبدأ محوريّة الإنسان في تدبير اللَّه للكون. هذا الإنسان الذي من أجله، وليس من أجل أيّ أمر آخر، تجسّد الكلمة الأزليّ وصُلب وقام في اليوم الثالث.
تدبير اللَّه للكون أساسه أنّ “اللَّه أحبّ العالم حتّى إنّه بـذل ابنـه الوحـيد كيلا يهـلك كـلّ مَـن يؤمـن به بل تكون لـه الحيـاة الأبـديّة” (يوحنّا 3: 16). كيـف أحـبّ اللَّه العالم؟ تحنّن على مرضاهم وشفاهم، ضمّد جراحهم، غسـل أقدامـهم، أطعمـهم فـي القفـر، أعـان البؤساء والفقراء والمساكين والأرامل واليتامى، واسى الحزانى والمنكسري القلوب… كان هو السامريّ الرحيم، صاحب الوليمة التي دعي إليها “المساكين والجدع والعميان والعرج”…
المحبّة، إذًا، ليست سوى نقيض الظلم والطغيان. يقول القدّيس أمبروسيوس أسقف ميلانو ما معناه “إنّ الصامت عن الظلم يكون شريكًا للظالم”، فكيف حال غير الصامت بل المجاهر بدعمه للظالم؟ لذلك علينا إسقاط الخوف من نفوسنا، فالخوف نقيض الرجاء أحد أركان المسيحيّة الثلاثة: الإيمان والرجاء والمحبّة، التي إذا سقط واحد منها سقطت كلّها.
“إنكّم في العالم ستكونون في ضيق، ولكن ثقوا فإنّي قد غلبتُ العالم” (يوحنّا 16، 33). الثقة بالربّ تعني، أوّل ما تعنيه، ألاّ نخاف من قول كلمة الحقّ في زمن الرياء والنفاق. وما سوى عليه الاتّكال والتوكّل.
مجلة النور، العدد الثاني 2012، ص 90-91