عندما تستمع إلى محدّثك تظنّ، للوهلة الأولى، أنّه يتحدّث عن أحد القدّيسين الصالحين، إن كان هذا المتحدّث مسيحيًّا، أو عن أحد الأولياء من ذوي الكرامات، إن كان مسلمًا. لا ينتبه المتحدّث إلى أنّك، حين يكلّمك، يصيبك الاستغراب، فتجمد عيناك، ويختفي كلّ تعبير عن وجهك يمكن أن يجعله يعتقد أنّك تصدّق ما يرويه عليك. مع ذلك، يسترسل بالكلام غير عابئ بك. ثمّة أمثولة حفظها يبلّغك إيّاها، والسلام.
يريد هذا المتحدّث أن يقنعك أنّ زعيمه السياسيّ قد خرج لتوّه من كتاب “السنكسار”، كتاب سير القدّيسين، أو من “قصص الأنبياء”. يريد إقناعك أنّ زعيمه قد اكتسب خبرة روحيّة أو صوفيّة، أو أنّه قد تاب بعد زمان رديء مارس فيه أبشع ما يمكن أن يرتكبه بشر، “خطايا شبابي وجهلي لا تذكرها يا الله”. لكنّك تكتشف أنّه لا يريدك أن تقتنع بذلك وحسب، بل أن تقرّ بأنّ هذا الزعيم ليس سوى المسيح المنتظر، أو المهدي المنتظر، الآتي ليفتتح حكمًا أبديًّا ملؤه السلام والعدل.
هذا الزعيم معصوم عن الخطأ. لا يجوز انتقاد أيّة كلمة يتفوّه بها. كلمته إنجيل أو قرآن. الحقّ ملكه. يزوره الملاك في الحلم، أو في اليقظة، ويوحي إليه بمواقفه وتصريحاته الصحفيّة. لا يمكن أن يأتيه الباطل لا عن اليمين ولا عن اليسار، لا من فوق ولا من تحت. “سبحاني، ما أعظم شأني”، لسان حاله، لا كما قصدها المتصوّف الكبير.
هو، لا أحد سواه، يصبح “الأسوة الحسنة” و”اقتدوا بي”. هكذا تصبح أقواله وأفعاله وشكله هي السنّة التي ينبغي أن تحتذى عند تابعيه. نبرة صوته، مخارج حروفه، محطّات كلامه، ألفاظه، حركات يديه، جحوظ عينيه، ابتسامته، عبوسه، تسريحة شعره… كلّ هذا يتلبّسه محدّثك المنسحقّ كلّيًّا والمتماهي كلّيًّا مع زعيمه. فتخال إنّك في حضرة ذاك لا في حضرة مَن هو في حضرتك. “لا أنا أحيا، بل المسيح يحيا فيّ”، ضعْ أيّ اسم في العبارة مكان اسم المسيح فلا تكون مجانبًا الصواب.
كيف يمكن لبلد أن ينهض، ومعظم شبابه الذين هم رجاء الغد، خطابهم ليس سوى نسخة طبق الأصل عن خطاب زعمائهم. يكرّرون كلام هؤلاء كمَن يلبّي فريضة الصلاة اليوميّة، فتعتقدهم يتلون دستور الإيمان، أو أحد الأدعية. صور الزعماء أيقونات مقدّسة لا تمسّ، تعلّق في الشوارع وفي المنازل وعلى السيّارات وعلى الصدور بمثابة تعويذة تقي حاملها من الاتّهام بأنّه لا ينتمي إلى حيث يجب، بموجب هويّته، أن ينتمي. شباب، إن سمعتهم وعيونك مغمضة، لظننتَ أنّك تسمع تسجيلاً صوتيًّا لقائده.
إله الحرب هو نفسه إله السلام. لا تعدّد للآلهة في الأديان التوحيديّة. ليس ثمّة إله للحرب، وآخر للسلام. هكذا الزعماء اللبنانيّون، يتحدّثون عن السلام ويغمزون من قناة الحرب، من دون أن يرفّ لهم جفن! يأخذون الناس إلى الحرب، فيذهبون لا يردعهم وازع عقليّ أو إنسانيّ. يقولون للناس آن أوان السلام، فيتلاقى المتحاربون ويتعانقون متهلّلين. لقد أصابت الديانات ما قبل التوحيديّة حين جعلت لكلّ فضيلة إلهًا، ولكلّ نقيصة إلهًا، إذ إنّ قادة هذه الديانات فهموا أنّ مَن يقود الناس إلى الحرب لا يمكنه صنع السلام. ينبغي أنّ يكون لكلّ منهما إلهه الخاصّ، إذ إنّهما ضدّان لا يلتقيان.
الثقافة السائدة في طوائفنا كافّة هي ثقافة الانقياد الأعمى إلى أوامر الزعيم المفدّى، حربًا أو سلامًا. وكلّ كلام آخر عن ثقافتين، واحدة للحياة وواحدة للموت لا يستقيم ولا معنى له، إن لم يترافق بثقافة نقديّة تنزل الآلهة من سماواتها وتنزع عن رؤوسها هالات القداسة، فتعيدها إلى إنسانيّة هي أفضل لخير الإنسان من تأليهات كاذبة.
جريدة “النهار” 30 آذار 2008