الحاجة إلى الاجتهاد

الأب جورج مسّوح Sunday October 3, 2010 173

تنعدم فسحات الحوار والنقاش وتبادل الآراء عندما يتناول المعنيّون موضوع المحرّمات أو الخطوط الحمر التي يجب عدم تجاوزها. والمحرّمات التي حدّدها أهل الديانات، وليس سواهم، تزداد يومًا بعد يوم، ويأتي في طليعتها الأنبياء والكتب المقدّسة. وتنقل إلينا وسائل الإعلام المختلفة أخبارًا وتقارير عن خلافات نشبت وجدالات انعقدت لأسباب تتّصل غالبًا بما تمّ التعارف عليه تحت المسمّى بـ”المسّ بالذات الإلهيّة” أو بـ”المسّ بالمقدّسات”…

آخر ما شاهدناه في هذا السياق ما أثارته من ردود إسلاميّة محاضرة للأنبا بيشوي، سكرتير المجمع المقدّس للأقباط الأرثوذكس في مصر. فالأنبا تساءل في محاضرته عمّا إذا كانت بعض آيات القرآن الكريم “قد قيلت وقتما قال نبيّ الإسلام القرآن أم أضيفت في عهد (الخليفة الراشديّ الثالث) عثمان بن عفّان”، ودعا إلى “مراجعتها” بعد أن أشار إلى أنّ الحوار والشرح والتفاهم “يجعل الشخص المقابل لك يبحث داخل ذهنه ويفتّش حتّى يلغي آية تتّهمنا بالكفر”. وقد أكّد الأنبا بيشوي أنّه لم يقصد الإساءة إلى القرآن، وأنّ ما طرحه “كان واقعة معيّنة جرى فيها حوار حول آيات تكفير المسيحيّين”.

وكان من الطبيعيّ أن تجمع الردود الإسلاميّة على استنكار كلام الأنبا بيشوي، انطلاقًا من التسليم بأنّ “تدخّل غير المسلم في تفسير الآيات القرآنيّة بغير ما جاء به الله، وبهدف تغيير مقاصدها، هو أمر مرفوض ولا يجوز شرعًا”، وفق تعبير الدكتور أحمد السايح، أستاذ العقيدة الإسلاميّة في الأزهر. غير أنّ بعضهم بالغ في ردّه إلى حدّ اعتبار كلام الأنبا دعوةً صريحة لأثارة الفتنة الطائفيّة بين المسلمين والمسيحيّين، ووصل بعضهم إلى وصف تصريح الأنبا بـ”الافتراء والإثم العظيم”، وطالبت عريضة موقّعة من أكثر من مائة محام الدولة المصريّة باعتقال الأنبا بيشوي والتحقيق معه بتهمة “إشاعة الفتنة وازدراء الإسلام”.

تعبّر هذه الجدالات الإسلاميّة المسيحيّة عن أزمة عميقة تمرّ بها المجتمعات العربيّة بعامّة، والمجتمع المصريّ بخاصّة. فغياب الدولة المدنيّة بكلّ مؤسّساتها لصالح طغيان العامل الدينيّ على مرافق الحياة كافّة يجعل أيّ رأي أو موقف لفريق معيّن وكأنّه اعتداء على الفريق الآخر. وفي ظلّ غياب المواطنة وقيمها من حيث المساواة بين المسيحيّين والمسلمين في الحقوق والواجبات، وفي ظلّ الحديث عن مصر “الدولة الإسلاميّة” ممّا يثير القلق لدى غير المسلمين ولدى شريحة من المسلمين، وفي ظلّ العودة إلى الحديث عن حقوق غير المسلمين في الدولة الإسلاميّة الغابرة وإمكانيّة العودة إلى نظام “أهل الذمّة” وما يثيره من خوف، ندرك مدى التوتّر الذي أشعلته تصريحات الأنبا بيشوي.

مع إدراكنا لاستحالة ما طالب به الأنبا بيشوي، وبخاصّة في عصرنا الراهن، لجهة مراجعة المسلمين لبعض الآيات القرآنيّة التي تكفّر المسيحيّين أو التي تجعل منهم مواطنين من الدرجة الثانية، ومع احترامنا لما يعتقده المسلمون عن القرآن وتنزيله الإلهيّ، نتساءل لماذا لا يحقّ للمسيحيّين مناقشة الآيات القرآنيّة التي تتحدّث عنهم وعن موقعهم المفترض، وليس عن وضع المرأة ولا عن الإرث ولا عن الزواج والطلاق، في دولة تحكمها الشريعة الإسلاميّة؟ أليست الآيات المقدّسة خاضعة للتفسير والتأويل في كلّ زمان ومكان وبحسب الظروف والأوضاع السائدة؟ ألم نرَ خلال التاريخ الإسلاميّ تبدّلات وتغييرات في فهم العديد من الآيات وممارستها في الواقع اليوميّ؟

غير أنّ ما يطلبه الأنبا بيشوي من المسلمين إنّما هو مطلوب من المسلمين والمسيحيّين معًا. وما قضيّة الطلاق والزواج الثاني في الكنيسة القبطيّة سوى نموذج حيّ من المواضيع التي يطالب بعضهم بإجراء المراجعات الجذريّة بشأنها. المشكلة، إذًا، تكمن في رفع بعض المسائل التدبيريّة إلى مصافّ العقيدة التي لا يجوز المسّ بها. فإذا كان، لدى المسلمين، الإيمان بالله عقيدة، والقرآن تنزيل من لدنه عقيدة، والإيمان بنبوّة محمّد بن عبدالله عقيدة، فهل الدولة في الإسلام وموقع غير المسلمين فيها عقيدة تلزم كلّ المسلمين في كلّ ومكان؟

أمّا البابا شنودة، بطريرك الأقباط، فقد عبّر عن أسفه لتصريحات الأنبا بيشوي التي “جرحت مشاعر المسلمين”، واعتبر أنّ الحوار العقائديّ “خطّ أحمر لا ينبغي التطرّق إليه”، وأضاف أنّ “الحوار الدينيّ بين المسلمين والمسيحيّين يجب أن يكون في النقاط المشتركة بيننا وبين إخوتنا المسلمين من أجل خير البلد ونشر الفضيلة، ويجب ألاّ ندخل في الخلافات الدينيّة”. كلام البابا شنودة مليء بالحكمة وحسن التمييز، غير أنّه كلام يرجئ المشكلة ولا يحلّها. أمّا نحن فننتظر الاجتهادات الجريئة.

الأب جورج مسّوح

“النهار”، 3 تشرين الأول 2010

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share