تتنامى الخشية لدى المراقبين من طغيان الأبعاد الطائفيّة والمذهبيّة على ما عداها من الأبعاد في مختلف الدول العربيّة التي تشهد سلسلة من الثورات والانتفاضات والتظاهرات المطالبة بالحرّيّة وبإسقاط الأنظمة القائمة. ففي معظم تلك البلدان بدأت عوامل الفتنة تظهر عبر شحن النفوس بالخطاب الدينيّ المتشدّد وبإبراز التمايزات المذهبيّة، وبالعزف على الأوتار الطائفيّة الناشزة. أمّا الدول التي لا تعرف تنوّعًا دينيًّا أو مذهبيًّا فتجري فيها تغذية الانتماءات القبليّة والعشائريّة وتقديمها على الانتماء الوطنيّ أو القوميّ، أو بإصدار فتاوى دينيّة مستغربة عن عدم جواز التظاهر ضدّ الحاكم…
ليس أفضل من العوامل الدينيّة والمذهبيّة يمكن المرء استعمالها من أجل إجهاض أيّ حركة تحرّريّة أو نهضويّة. وهذا ما شهدناه قديمًا وما نشهده حاليًّا. فمنطق “فرِّق تسُد”، الذي بواسطته بسط الغرب الاستعماريّ سيطرته على الأوطان العربيّة، كان غالبًا ما يستثمر العوامل الدينيّة والمذهبيّة في سبيل تحقيق غاياته. وهذا المنطق لا يزال سائدًا في أيّامنا الحاضرة، وآخر تجلّياته نلاحظها في الكلام على العلاقات السنّيّة الشيعيّة. والمثير للتحسّر في هذا الأمر هو غياب قضيّة الشعب الفلسطينيّ وصراعه مع إسرائيل عن أولويّات العرب بحجّة الخطر الشيعيّ، الذي تمثّله إيران وحلفاؤها من الشيعة والسنّة. بات الخطر الشيعيّ، لدى هؤلاء العرب، داهمًا أكثر من الاعتداءات الإسرائيليّة المستمرّة ضدّ الفلسطينيّين.
لبنان يقع في وسط هذه الصراعات المذهبيّة. فمنذ مدّة غير وجيزة نشهد العمل على المقدّمات الضروريّة لنشوب نزاعات لا تبقي ولا تذر. وقد باتت حالنا كمثل حال ذاك السائر الذي رأى قشرة موز تبعد عنه حوالى عشرة أمتار، فبدأ يفكّر قلقًا ماذا بوسعه أن يفعل كي يتفاداها، لكنّه في نهاية المطاف داس عليها وسقط أرضًا! يبدو أنّ الحتميّة، لدى شعوبنا، أقوى من الإرادات الحرّة. نحن قوم تحكمنا الجبريّة المطلقة وإنْ قالت طوائفنا ومذاهبنا بحرّيّة الاختيار ومسؤوليّة الإنسان عن أفعاله. لذلك نرى الخراب مقبلاً، وليس لنا ما نلجأ إليه سوى الاستسلام الكلّيّ للمصير المحتوم، وكأنّ الله لم يدعونا إلى إعمال العقل من أجل عدم الانجرار إلى المصائر الحتميّة القاتلة.
إذا أصبح الدين أو المذهب أو الطائفة، على العكس ممّا أراده الأنبياء والرسل كافّة، عامل تشتيت وشرذمة وفتنة بين أبناء الوطن الواحد، فلا مفرّ من العمل على الفصل ما بين الانتماء الدينيّ والانتماء الوطنيّ الذي ينبغي أن يتقدّم على ما عداه من الانتماءات من دون إلغائها أو قمعها أو الحجر عليها. وبانتظار تحسين الخطاب الدينيّ البعيد عن الشحن والتعصّب والإثارة، وبانتظار الخطاب الدينيّ العقلانيّ الذي يجمع ولا يفرّق، لا بدّ من السعي إلى دولة مدنيّة تحترم الحقوق الأساسيّة للإنسان وعلى رأسها الحرّيّة والمساواة.
وإذا كان النظام الطائفيّ يشجّع التمييز بين المواطنين في البلد الواحد، فالقيام ضدّه يصبح واجبًا دينيًّا وإيمانيًّا، بل فرض عين على المؤمنين كافّة. وإذا كان أهل السياسة يستغلّون الخطاب الطائفيّ والمذهبيّ، فلا بدّ للمؤمنين من العمل على نزع أعزّ ما يملكونه، أي انتماءهم الدينيّ، من أيدي الممسكين بأمور الطائفة الدنيويّة. آن الآوان لتنـزيه الإيمان من وحول الانحطاط السياسيّ ودهاليزه، وآن الأوان أيضًا لتحرير الدين من القابضين عليه، أولئك الذين يؤدّون شهادات مضادّة أو مناقضة لغايات الدين ولأهدافه الأساسيّة.
لقد صدق فرح أنطون حين قال في كتابه عن ابن رشد: “فلا مدنيّة حقيقيّة ولا تساهل ولا عدل ولا مساواة ولا أمن ولا ألفة ولا حرّيّة ولا علم ولا فلسفة ولا تقدّم في الداخل إلاّ بفصل السلطة المدنيّة عن السلطة الدينيّة”. ونضيف على فرح أنطون القول بفصل السلطة المدنيّة، ومن ضمنها القوانين، عن السلطات الطائفيّة، حيث النظام الطائفيّ. وإذا كان فرح أنطون يدعو إلى فصل السلطتين المدنيّة والدينيّة انطلاقًا من قناعاته العلمانيّة، فإنّنا، نحن المؤمنين، ندعو إليها انطلاقًا من إيماننا الراسخ بالله الذي جعل الحكم بيده وحده. وإلى أن يرث الله الأرض وما عليها، لن نقبل بأنّ ينصّب أحدهم نفسه حاكمًا باسمه تعالى. ولا يسعنا إلاّ أن نضع الحكم باسم بالله في باب الشرك، والعياذ بالله.
الأب جورج مسّوح
“النهار”، 10 نيسان 2011