يواكب الأزهر الشريف التطوّرات الجارية في البلاد العربيّة بعامّة، وفي مصر بخاصّة، باجتهادات معاصرة يصدرها في وثائق عامّة. آخر هذه الوثائق تناولت موضوع “الحرّيّات العامّة”، دعا فيها الأزهر إلى احترام “حرّيّة العقيدة”، و”حرّيّة الرأي والتعبير”، و”حرّيّة البحث العلميّ”، و”حرّيّة الإبداع الأدبيّ والفنّيّ”. ولا ريب في أنّ هذه الوثيقة تشكّل خطوّة متقدّمة وجريئة نحو تجديد دينيّ لمفهوم الحرّيّة، في السياق الراهن للمجتمعات العربيّة والإسلاميّة حيث ثمّة تنامٍ للتشدّد الدينيّ والمذهبيّ يترافق مع حقبة طويلة حكمت فيها الأنظمة الاستبداديّة بيد من حديد.
تنطلق الوثيقة من التأكيد على كونها تريد تحديد “العلاقة ما بين المبادئ الكلّيّة للشريعة الإسلاميّة السمحاء ومنظومة الحرّيّات الأساسيّة التي أجمعت عليها المواثيق الدوليّة” من دون الإشارة إلى “شرعة حقوق الإنسان”. ثمّ تدعو إلى التآلف ما بين “مقاصد الشريعة الغرّاء، وإدراك روح التشريع الدستوريّ الحديث، ومقتضيات التقدّم المعرفيّ الإنسانيّ”. لذلك، ترفض الوثيقة، في ردّ مباشر على بعض الجماعات السلفيّة، “الدعوات المغرضة التي تتذرّع بحجّة الدعوة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للتدخّل في الحرّيّات العامّة والخاصّة الأمر الذي لا يتناسب مع التطوّر الحضاريّ والاجتماعيّ لمصر الحديثة”.
أحسنت الوثيقة في الإشارة إلى أهمّيّة التأكيد على حاجة البلاد إلى “وحدة الكلمة والفهم الوسطيّ الصحيح للدين والذي هو رسالة الأزهر الدينيّة ومسؤوليّته تجاه المجتمع والوطن”. وبناءً على هذه الوسطيّة تعتبر الوثيقة أنّ “حرّية العقيدة، وما يرتبط بها من حقّ المواطنة الكاملة للجميع في الحقوق والواجبات حجر الزاوية في البناء المجتمعيّ الحديث”. من هنا، تتبنّى الوثيقة “التسليم بمشروعيّة التعدّد، ورعاية حقّ الاختلاف، ووجوب مراعاة كلّ مواطن مشاعر الآخرين، والمساواة بينهم على أساس متين من المواطنة والشراكة وتكافؤ الفرص”. وترفض الوثيقة “نزعات الإقصاء والتكفير، ورفض التوجّهات التي تدين عقائد الآخرين ومحاولات التفتيش في ضمائر المؤمنين”.
وتدافع الوثيقة عن حرّيّة الرأي والتعبير في الكتابة والخطابة والإنتاج الفنّيّ والأدبيّ، وفي تكوين الأحزاب ومنظّمات المجتمع المدنيّ، وفي الصحافة والإعلام بوسائله كلّها… لكنّ الوثيقة تأخذ في الاعتبار، وعن حقّ، أوضاع المجتمعات العربيّ والإسلاميّة، فتنبّه إلى ضرورة “احترام عقائد الأديان الإلهيّة الثلاثة وشعائرها لما في ذلك من خطورة على النسيج الوطنيّ والأمن القوميّ. فليس من حقّ أحد أن يثير الفتن الطائفيّة أو النعرات المذهبيّة باسم حرّيّة التعبير”، وإلى ضرورة “مراعاة القيم الدينيّة العليا والفضائل الأخلاقيّة”.
أهمّيّة هذه الوثيقة الأزهريّة تكمن في كونها محاولة جدّيّة في سبيل تجديد الفكر الإسلاميّ، والاجتهاد في مفهوم الحرّيّة، المفهوم الأكثر جدلاً في عصرنا الحاضر. وقد نجحت الوثيقة في محاولتها تأصيل مفهوم الحرّيّة في الفكر الإسلاميّ من دون إغفال ما بات مسلّمًا به في الفكر الإنسانيّ العالميّ، وما بات من مكتسبات الإنسانيّة جمعاء في العصر الحديث. واللافت أنّ الوثيقة لا تقفل باب الاجتهاد مستقبلاً في هذه المسألة، بل تضعها في السياق الراهن، “في مرحلة التحوّل الديموقراطيّ حتّى تنتقل الأمّة إلى مؤسّساتها الدستوريّة”.
تتبنّى الوثيقة القاعدة الفقهيّة الذهبيّة التي أقامها أئمّة الاجتهاد والتشريع، هذه القاعدة التي تعلي من شأن العقل في الإسلام، والقائلة: “إذا تعارض العقل والنقل، قُدّم العقل وأُوّل النقل” تغليبًا للمصلحة. على هذه القاعدة قامت وثيقة الأزهر، فعسى أن ترسخ في عقول العرب والمسلمين فتصير واقعًا يوميًّا، ويعود إلينا الرجاء.
الأب جورج مسّوح
“النهار”،8 شباط 2012