مَن يحبّ الله تضحى حياته كلّها مكرَّسة له. مَن يحبّ الله يسعى إلى السكنى الدائمة معه. مَن يحبّ الله يحبّ الحياة ولا يطلب الموت لنفسه ولا يستعجله. لكن لا بدّ من قبول الموت يومًا لأنّ الإنسان لا يسعه أن يحيا إلى الأبد. يصبح الموت لديه انتقالاً من الحياة إلى الحياة. تصبح الحياة على الأرض عبورًا إلى حيث الحياة الحقّ. تصبح الحياة على الأرض زمنًا وجيزًا يكون فيه الإنسان مستعدًا في كلّ حين لمواجهة مصيره الحتميّ. وأفضل استعداد يكون في التوبة ومحبّة القريب التي من دونها لا يمكن أن يكون الإنسان محبًّا لله.
صحيح أنّ الموت دخل إلى الطبيعة الإنسانيّة عقابًا من الله بسبب سقوط الإنسان في الخطيئة، غير أنّه ما زال ينافي هذه الطبيعة التي تميل إلى الحياة. لذلك، أعطى الله الإنسان عهدًا ووعدًا بأنّه سوف يحيا إلى الأبد إذا شاء الإنسان ذلك لنفسه. هذه المشيئة الإنسانيّة على صاحبها أن يهذّبها كي تقترب من المشيئة الإلهيّة ما أمكنه ذلك. هذا التطابق ما بين المشيئتين، الناجم عن المشيئة الحرّة للإنسان، هو الذي يجعل اللقاء بين الله والإنسان لقاءً بين حبيبين لم يسأما من انتظار أحدهما الآخر.
في هذا السياق نورد في ما يلي قول سمعان الشيخ حين حمل على ذراعيه يسوع الطفل ذا الأربعين يومًا، الذي جاء به يوسف ومريم إلى الهيكل، وكان الروح القدس قد أوحى إليه أنّه لا يذوق الموت قبل ان يرى مسيح الرب. قال سمعان: “الآن أطلق عبدك أيّها السيّد حسب قولك بسلام، فإنّ عينيّ قد أبصرتا خلاصك الذي أعددتَه أمام وجه كلّ الشعوب، نورًا لاستعلان الأمم ومجدًا لشعبك إسرائيل” (لوقا، 2، 29 – 32).
سمعان عندما رأى يسوع المخلّص، المسيح الموعود به، صار مستعدًّا بفرح عظيم للانطلاق إلى الحياة الأخرى. مَن يحبّ يسوع لا يهاب الموت، ولنا في الشهداء القدّيسين خير الأمثلة عن هذا الأمر. حبّهم له جعلهم شجعانًا يواجهون الموت بثبات ورجاء كبيرين. حبّهم له جعلهم لا يخونون إنجيله وتعاليمه، فلم يتخلّوا عن مبادئهم في سبيل حياة فانية، بل قبلوا التخلّي عن هذه الحياة الفانية ولو كان الثمن حياتهم.
يتّخذ التراث الإسلاميّ هذا النهج أيضًا. فثمّة رواية عن النبيّ إبراهيم الخليل غير مذكورة في كتاب التوراة أوردها الإمام الغزالي في “إحياء علوم الدين”، في باب “حبّ العبد لله”، هذا نصّها: “إنّ إبراهيم عليه السلام قال لملاك الموت إذ جاءه لقبض روحه: هل رأيت خليلاً يميت خليله؟ فأوحى الله تعالى إليه: هل رأيت محبًّا يكره لقاء حبيبه؟ فقال إبراهيم: يا ملاك الموت الآن فاقبض”. كما نجد قولاً مماثلاً لدى المتصوّف الشهير سفيان الثوريّ: “لا يكره الموت إلاّ مريب، لأنّ الحبيب على كلّ حال لا يكره لقاء حبيبه”.
ما زال الصراع بين الحياة والموت قائمًا، وسيظلّ قائمًا ما دامت الدنيا قائمة. غير أنّ الحياة أقوى من الموت، لأنّ الحبّ أقوى منه. فلنحبّ الإنسان ونبذل ذواتنا من أجله، لأنّنا، إن كنّا مؤمنين أو ملحدين أو لاأدريّين، نكون بذا، عن معرفة أو عن غير معرفة، نحبّ الله فعلاً.
الأب جورج مسّوح
“النهار”،9 أيلول 2017