لا ريبَ أن لفظة “دينونة” تثير الرّعب في نفس المسيحي المؤمن مع ما يرافقُها من صُوَر النّار والمخلوقات المخيفة السوداء، الكثيرة الأنياب، الفاغرة أفواهَها تلتهم أجسادًا نحيلةً عاريةً مقيّدةَ الأطراف. هذه الصّور هي وليدة تراكمات ليتورجيّة وثقافيّة لن أخوض غمارها هنا.
يعتقد معظمُنا أن حدَثَ الدينونة هو أمرٌ ناءٍ يرتبط بزمنٍ لم يأتِ بعد وربّما نعتبره مستقبلاً بعيدًا عن أيامنا اليوميّة. وهذا المعتقد له أيضا جذورٌ ضاربةٌ في النّصوص الكتابيّة وتعاليم الكنيسة.
في حياة الكنيسة الأرثوذكسية، يأخذ موضوع الدّينونة حيّزًا كبيرًا بالأخصّ في الفترة التي تدور في فلك الصوم الكبير، حيث يسود جوّ عميم من الشقاءِ والحزن على الحال الذي آلت إليه النفس بسبب الخطيئة “إذا تصوّرتُ كثرة أفعال الرديئَة أنا الشّقيّ” والمصيرِ القاتمِ الذي ينتظر الخاطئ “فإنّي أرتعد من يوم الدينونة الرهيب”. المعزّي في هذه المقاربة أنّ المؤمنَ يعلّل النفسَ بالأمل برحمة الخالق وعطفه على التائب “لكنّي إذ أنا واثق بتحنّنك، أهتف …”
في الأناجيل يرد موضوعُ الدينونة مرّات عديدة في أحاديث يسوع. الكثافةُ في إنجيل يوحنّا حيث يعلنها المعلّم صراحة أنّ “الآب لا يدين أحدًا، بل قد أعطى كلّ الدينونة للإبن” (يو 5/22). لدينا في هذا التصريح إذًا ثابتٌ يقينٌ: أنّ الذي يدين الإنسان هو إبن الله الذي عرفته البشريّة إنسانًا متجسّدًا وحاضرًا في وسطها.
غير أن الأمر الذي يثير الحيرة عند المؤمن هو أن يسوع في أماكن أخرى من إنجيل يوحنّا يقول أيضًا “انتم حسب الجسد تدينون، اما انا فلست ادين احدًا.” (يو8/15) هذا في معرض نقاشه مع الفريسيّن حول رسالته.
إن كان الآب قد أوكل الدينونة للإبن والإبنُ يقول أنّه لا يدين أحدًا، فمن يقيم إذًا هذه الدينونة وما تعريفُها؟
يعلمُ أغلبُنا أنّ معيار الدينونة الذي وضعه يسوع، حين صوّر الحدث أمام الشعب، هو مدى عطفِنا بعضُنا على بعضٍ وإحساسِنا بحاجات الفقير خاصة. في هذا المشهد ينطق يسوع بحكمه والحُكمُ مصيران، إمّا “تعالوا إليّ” أو “إذهبوا عنّي”. نقرأ هذا في إنجيل متّى الإصحاح 25 “جعت فاطعمتموني. عطشت فسقيتموني. كنت غريبا فآويتموني …” يساوي يسوع نفسَه هنا بفقراء الأرض والمهمّشين واللاجئين ليقول لنا أن دينونتَنا في اليوم الأخير هو يُقيمُها أمّا مكيالُها فالمحبّة التي ننتهجُها نحن الآن إزاءَ كلِّ آخرٍ وبالأخص إزاء الذين يسمّيهم هو إخوته الصّغار.
يبقى تعريفُ الدينونة ملتبسًا. ما هي الدينونة؟ نحن المؤمنين نحاول أن نعرف ماهيّتها ولدينا عنها تصوّرات كثيرة لكن يفوتُنا أن الوحيد القادر على ضبط تعريفها هو ربّ الدينونة الذي يقول لنيقوديموس “وهذه هي الدينونة: إن النور قد جاء الى العالم، وأحبَّ الناس الظلمة اكثر من النور، لان اعمالهم كانت شريرة”. هذه العبارة تختزن سرّ الدينونة وكُنهَها. البشر إذا يدينون أنفُسَهُم، كلُّ بالإختيار الذي يصنعُهُ. ربَّنا لا يُلزمُ أحدًا بشيء. إن نحن اخترناه سيقول لنا “تعالَوا إلي” وإن نحن لم نختره سيقول لنا “إذهبوا عنّي”. هو يحترم خياراتنا فوق كلّ شيء.
بهذا تبطُل الدينونة فعلًا مضارِعًا ولا هي مضَت. الدينونة نحن نقرّرها بأفعالنا كلّ يوم وهي امتداد طبيعي منسجمٌ مع ما ننوي فعله هنا.
الدينونة حاصلةٌ الآن وكلّ آنٍ وإلى أن يعلنَها الرب في الزمن الذي يحدّده هو.