الأب الياس مرقص التماعات أنطاكيّة .!. (١٥ )

الأرشمندريت توما (بيطار) رئيس دير القديس سلوان الآثوسي Sunday August 25, 2019 191

الحرّيّة حرّيتان: الحرّيّة في الضّمير والحرّيّة في الخطيئة. لا ثالثة لهاتين. الحرّيّة الضّميريّة لا يمكنك تعاطيها ما لم يكن لك ضمير. ما هو الضّمير؟. هو نيّة القلب المُضمَرَة متى لزمتَ الله ومسيحه بالإيمان والتزمتَ مخافته ووصاياه بالمحبّة، وانصرفت عن الخطيئة، كقصد، انصرافًا كاملًا، وحذرت وجاهدت وسعك لكي لا ترتكب المُنكَر في حقّ ضميرك وربّك وقريبك وسائر خلق الله. هذا يتضمّن ما هو بشريّ، أي من ناموس الطّبيعة، وما هو إلهيّ، من فعل سرّ الحضرة الإلهيّة بالتّجسّد، لا سيّما لجهة عمل الأسرار الإلهيّة، بدءًا بسرّ المعموديّة. ناموس الطّبيعة فينا، إذا كان غير منثلِم، يشهد كسابق لناموس المحبّة، ويدفع صاحبه إليه، وإذا كان مشوَّهًا ألقى بالإنسان في الخطيئة، فيوجَد إذ ذاك مقاوِمًا لله بصورة تلقائيّة، إلّا إذا ارتأى ربّك رأيًا آخر ودبّر، لعلمه بميل خفيّ للصّلاح في ابن آدم هذا، فيسلمه، إذ ذاك، لآلام، من خطيئته يكسر بها عناده ليرعوي ويتوب!. بغير ذلك، يتركه يحيا، في عمى نفسه، في خطيئته، ويموت في خطيئته!.

إذًا، يكون لك ضمير أو لا يكون!. ربّك يُحيي الضّمير، فيكون ضميرك مؤشِّرَ حضوره لديك وعمله فيك، أو تذهب الخطيئة بضميرك فلا يكون لك ضمير، بل كتلة نوازع!. إمّا أن تسلك، إذًا، في هذا الاتّجاه فيموت فيك الضّمير، وإمّا أن تسلك في ذاك فيُحيا ضميرك!. على أنّ القضيّة قضيّة مسير يُفضي إلى مصير!. إمّا هذا وإمّا ذاك، تصعد أو تنزل، ولا خلطة بين هذا وذاك!. “مَن ليس معي فهو عليّ، ومَن لا يجمع معي فهو يفرّق”!. وإن كنتَ معه سلكتَ بما له، بالإيمان لا بالعيان!. لا يرضى ربّك بشيء إلّا بالإيمان!. أن تثق به، أن تأمن له، أن يضحى هو وحده مصدر الأمان والتّعزية والسّلام والفرح لديك، لأنّه خارج الإيمان لا أمان ولا تعزية ولا سلام ولا فرح بل تشويش واضطراب حتّى الموت!.

هذه هي حرّيّة الضّمير أو الحرّيّة في الضّمير!. هذه تتكمّل متى أقبلت بك إلى ملكوت ربّك، وإلى روحه ومحبّته، متى أقام فيك الملكوت نورًا في الرّوح والحقّ، ومتى أضحى روح الله هو الفاعل فيك أن تريد وأن تعمل من أجل المسرّة، متى صرتَ محبّةً من المحبّة “الّذي” هو ربّك!. بغير ذلك، تخدم الحرّيّةُ فيك الخطيئة إلى أن تموت الحرّيّة وتصير أنت آلة خطيئة!. الحرّيّة كانت لتكون أداة للبِرّ لا غايةً صمّاء في ذاتها!. خلاصة الكلام أنّك فقط إن أحببتَ كنتَ حرًّا. الخطيئة تعدم الحرّيّة وتجعلها عديمة النّفع!. لم تكن الحرّيّة يومًا لتكون حرّيّة في الخيار، في المطلق. لكنّها كانت لتختار المحبّة لأنّ المحبّة لا تُفرض فرضًا. كلّ خيار آخر غير المحبّة يُفقدك الحرّيّة!. هكذا، إن اخترتَ الخطيئة خسرت المحبّة والحرّيّة سواء بسواء!.

كان الأب الياس رجل حرّيّة بامتياز، بهذا المعنى بامتياز!. تاق إلى الحرّيّة الدّاخليّة بلا حدود!. لذا، ترك كلّ شيء وتبع المسيح!. أراد أن يسلك في الكمال الإنجيليّ!. القول الإلهيّ في هذا الشّأن كان: “إذا أن أردت أن تكون كاملًا فاذهب وبِع كلّ شيء لك وتعال اتبعني”!. كان يعلم جيّدًا أنّه لا حرّيّة للإنسان ما لم يتحرّر أوّلًا مما يُعيق حرّيّته أو يعطّلها!. لا حرّيّة في الحقّ قبل التّحرّر من هوى الخطيئة!. “تعرفون الحقّ والحقّ يحرّركم”. ولكن، ما الّذي يعيق أو يعطّل حرّيّة الإنسان؟. محبّة العالم!. “محبّة العالم عداوة لله”!. ما محبّة العالم؟. هي تعظّم المعيشة!. ما معنى ذلك؟. أدوات المعيشة، في المبدأ، لا تعدو كونها أدوات للعيش. “إن كان لنا قوت وكِسوة فلنكتفِ بهما”، قال الكتاب. في تعظّم المعيشة لا يكتفي المرء بسدّ الحاجة، بل كلّ ما هو من الحاجة يحوّله إلى سبب للتّعظّم ومدًى له!. التّوق، توق ابن آدم، هو توق إلى التّعظّم أوّلًا!. الاكتفاء بالطّعام كغذاء، مثلًا، يتحوّل إلى شهوة لإقامة المآدب ليتعظّم الإنسان في عين نفسه والنّاس!. ويتحوّل اللّباس إلى شهوة لاقتناء كلّ ما هو فاخر أو غريب، في إطار الموضة، ليتعظّم في عين نفسه والنّاس!. على هذا تجد المرء يتعظّم بحذائه، أو بربطة عنقه، أو بقصّة شعره، أو بسيّارته… والنّساء بزينتهنّ أو بمكيجتهنّ أو بعلوّ أكعاب أحذيتهنّ أو بغريب لباسهنّ… كلّ تفصيل من تفاصيل المعيشة يفتح قابليّة الإنسان، والحال هذه، على هوى جديد يخوض فيه الإنسان خوضًا بعيدًا التماسَ التّعظّم أيضًا وأيضًا، ولا شِبع يتأتّى بل ينحدر المرء، في هذا السّبيل، من جوع إلى جوع أعظم!.

لِمَ لم يبقَ الأب الياس في اللّاذقيّة ويسلك هناك في ما للمسيح؟. لسببين: لأنّه كان يعرف كم هو صعب على المرء أن يحفظ نفسه، وسط العالم، من روح العالم، وتاليًا من تعظّم المعيشة… هذا، أقلّه، بحاجة إلى جماعة كالجماعة المسيحيّة الأولى، يؤازر ويشدّد فيها الواحد الآخر، ويوفّر له القوّة الدّاخليّة الّتي تتيح له أن يقف في وجه العالم ويتحدّى روح العالم!. وما هذا بعامّة بموفور اليوم!. لذا، المساومة هي سمة المؤمنين في العالم إلّا أقلّهم أفرادًا!. روح العالم اجتاح الأكثرين من حيث يعلمون أو لا يعلمون!. هذا هو السّبب الأوّل. السّبب الثّاني هو أنّ الأب الياس كان يطلب الملء!. كان يطلب الكمال!. في كلّ أمر، كان الأب الياس كامليًّا!. في دراسته، في عمله، في تطلّعاته… من هنا معاناته في العالم ثمّ تركه كلّ شيء والخروج من العالم!.

هكذا سلك الأب الياس درب التّحرّر. عزم على مصارعة أهواء العالم، ومن خلالها أهواء النّفس، إلى المنتهى. دخل الحرب اللّامنظورة. لا لمحبّة المال بعد. لا للمآدب والحفلات. لا لطلب الرّاحة واللّباس الفاخر والعطور. لا لدغدغة السّلطة وطلب المعالي. طلّق خدمة الآخرين له. التزم سيرة الفقر والصّوم. انخرط في جهد التّعب وغسل أقدام المتعَبين. خرج من حياة الألق الاجتماعيّ إلى حياة التّوحّد. خرج من مناخ التّعظيم إلى إفراغ النّفس. خرج من حلقة المساومة إلى حلقة بذل الدّم!.

طلب الأب الياس مَن قال: “أنا هو الحقّ”!. ضيّق على نفسه تضييقًا شديدًا والتمس وجه ربّه التماسًا عنيفًا!. جوع إراديّ، تعب جسديّ، وقوف لساعات، سهر في اللّيل، صوم بقسوة، خدمة بصمت، صلاة، صلاة، صلاة… كم تعب الأب الياس في سيرة الرّهبنة؟. هذا ربّك وحده عارف به. ما نعرفه زهيد!. لكنّنا نستدلّ على ما لا نعرف ممّا نعرف: نعرف دموعه وصلاته!. الثّبات، بشقّ النفس، ما يزيد على الخمسين عامًا، في سعيٍ حثيث لإتمام عمل الله خلق لديه إيقاعًا إلهيًّا فجّر فيه الدّموع والصّلاة، فبات مُهيّأً لأن يكون من أبناء الملكوت!. أعطِ دمًا وخذ روحًا!.

لا زيت إلّا متى انعصر الزّيتون عصرًا، ولا دموع من القلب، قبل المآقي، إلّا متى قسا المرء على نفسه بلا هوادة!. سَأَلْنا الأب أنطون، الرّاهب في الدّير، ذات مرّة: قُلْ لنا مَن هو الرّاهب؟. قال: هو الممعوس، “المفعوس”، المدعوس!. الأب الياس كان، داخليًّا، من ذاك الرّعيل!. على أنّك تبقى مهدّدًا لأن يَفسد الزّيت فيك ما لم تحرص وتعنف وتثبت إلى المنتهى!. كان الأب الياس يُدمِع كالحمامة بلا صوت. ينعصر لدى ربّه على خطيئته بتواتر!. لا يتلفّظ، في العادة، لمَن حوله، إلّا بكلمات عزيزة مقتضَبَة!. “كنتُ في جحيم”!. صوته الدّاخليّ كثيرًا ما كان يختنق بإزاء ربّه!. كان يحمل قصوره بألم!. لذا، قال: “الإنسان لا يتغيّر… موقفه من نفسه يتغيّر!. في العمق، نزعاته الدّاخليّة تبقى هي هي”!. هذا عند النّاس وليس عند الله. المزمور 31، والمزامير بعامّة في صلاته، كانت تعنيه في تفاصيلها!. “ثقلت عليّ يدك نهارًا وليلًا وغدوت شقيًّا جدًّا، فرجع الألم إلى صدري لكي يقتلني” (31: 4)!. لذا، قال: “أنا اعترفت بخطيئتي ولم أكتم جريرتي… وأنت صفحت عن خباثة قلبي” (31: 5)!. وفي التياعه كانت تأتيه تعزية كلمة المرنّم، كما من إلهه متكلِّمًا: “أنا أدرّبك وأرشدك في هذه الطّريق الّتي تسلك، وأرنو بعينيّ إليك” (31: 8)!.

في هذا الاتّجاه، كان الأب الياس لاهوتيًّا بالمعنى الحيّ للكلمة، بامتياز!. كان يصلّي من قلب انفطر على خطيئته وعلى خطيئة العالم بالحبّ، لذا صار لاهوتيًّا عن حقّ!. حضر الأب الياس، ذات مرّة، لقاء في اليونان، على ما روى الشّمّاس اسبيرو جبّور، تسنّى له فيه أن يقول كلمةً أثّرت في المشتركين لدرجة أنّ بعضهم هتف: “هذا هو اللّاهوت الّذي نريد”!.

اللّاهوتيّ لاهوتيّ الحبّ والصّلاة أوّلًا. في ذا تكمن الحرّيّة لا في الحقّ وحسب بل الحرّيّة الحقّ. بعد التّحرّر بإفراغ الذّات بالنّسك والتّعب والصّمت والصّلاة والدّموع، تأتي الحرّيّة، كحالة كيان، فتتحوّل الدّموع، إذ ذاك، من دموع للتّنقية إلى دموع لمعاينة وجه الله. “صارت لي دموعي خبزًا نهارًا وليلًا”!. لا حرّيّة، في العمق، إلّا حرّيّة الدّموع الّتي يطفر فيها المُجِدّ من دموع المشاعر إلى دموع التّوبة إلى دموع الشّكران!. الله، في نهاية المطاف، يُبكي!… بعد ذلك تجري من البطن أنهار ماء حيّ!.

بهذا المعنى، وبهذا المعنى فقط، بلغ الأب الياس الحرّيّة الحقّ!. “الرّبّ يرعاني فلا شيء يعوزني… أسكنني… ربّاني… أصلح نفسي… هداني… لذا لست أخشى شرًّا لأنّك معي… لكي أسكن في بيت الرّبّ مدى الأيّام…” (المزمور 22).

لتستمر القصّة.!..

الأرشمندريت توما بيطار
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسيّ
الأحد 25 آب 2019

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share