الأب الياس مرقص التماعات أنطاكيّة .!. (٢٨)

الأرشمندريت توما (بيطار) رئيس دير القديس سلوان الآثوسي Sunday December 1, 2019 283

عندما استعرت أزمة انفصال المطارنة الأربعة عن المجمع الأنطاكيّ المقدّس، وبدت الكنيسة في خطر الانشقاق، دخل الأب الياس ورهبان دير الحرف في الصّوم والصّلاة.

الصّوم والصّلاة، على سيرةٍ أمينة لله ووصاياه، وعلى قلب خاشع متواضع، هما وسيلتا الاتّصال بامتياز بين الإنسان وربّه. الله هو السّميع المستجيب. “القلب الخاشع المتواضع لا يرذله الله”. كلّ همّ بين النّاس هو همّ في العلاقة بين الله والنّاس أوّلًا. اختلال العلاقة بين الله والإنسان، شخصًا وشركةً، ينعكس اختلالًا على العلاقة بين النّاس، في ما بينهم، كائنةً ما كانت طبيعة أو نوعيّة هذا الاختلال!. ليس أنّ الله طرف في كلّ مشكلة بين اثنين أو أكثر، بل الله هو الطّرف الأساس، والطّرف الآخر هو النّاس، كجماعة وكأشخاص، كلًّا على حدة. المشكلة دائمًا هي مع الله، والمشكلات بين النّاس هي نتيجة المشكلة مع الله!.

الله، من جهته، في كلّ حين، مستعدّ وقادر على كلّ شيء. أكثر من ذلك أنّ مفتاح كلّ مشكلة، مهما كانت كأداء، هو في يده، وفي يده وحده. أَصلِح ما بينك وبين الله، يصطلح ما بينك وبين العالم!. بدوني لا تستطيعون أن تفعلوا شيئًا!. ثمّ، أليس هكذا خاطب إرمياء النّبيّ الرّبّ الإله: “آه، أيّها السّيّد الرّبّ! ها إنّك قد صنعتَ السّموات والأرض بقوّتك العظيمة وبذراعك الممدودة، ولا يعثر عليك شيء” (32: 17)؟. لكنّ ربّك لا يبادر إلّا إذا صلّى إليه أخصّاؤه، أحبّاؤه، شهوده الأمناء له، ولو واحدًا!. هكذا دبّر!.

قديمًا، في سِفر التّكوين (20)، مثلًا، كان أبيمالك ملكًا على جَرار. هذا أخذ سارةَ، زوجة إبراهيم، بعدما قال إنّها أخته. فجاء إليه الله في حلم اللّيل وقال له إنّه موتًا يموت، هو وكلّ مَن له، إن لم يردّ المرأة لرجلها. فحاول أبيمالك أن يبرّر نفسه بأنّ رجل المرأة قال له إنّها أخته. إذًا، هو فعل ما فعله بسلامة قلبه. فأجابه الرّبّ الإله: قد علمتُ ذلك، وأنا أيضًا أمسكتك عن أن تُخطئ إليّ. لاحِظْه، قارئي العزيز، في ما يقول: تُخطئ إليّ!. الخطيئة، كلّ خطيئة، في الحقيقة، في عمقها، ليست خطيئة ضدّ النّاس، وإن كانت خطيئةً ضدّهم، بل ضدّ الله أوّلًا!. وأردف الله: لذلك، لم أدعك تمسّها!. يسمح ربّك بالخطيئة أو لا يسمح بها، هذا متوقّف على نيّة القلب!. الأثيم يُؤخَذ بخطيئته، أمّا المستقيم القلب فيعفيه ربّه منها، بطرق هو يعلمها!. والأهمّ، في الحوار، قول السّيّد الرّبّ لأبيمالك: “فالآن، رُدَّ امرأة الرّجل فإنّه نبيّ، وهو يصلّي لأجلك فتحيا”!. لا فقط ردّها!. هذا لا يكفي!. إذا كانت الخطيئة ضدّ إنسان خطيئةً ضدّ الله، فالله لا يغفرها لك إلّا بطلب من أخيك!. صفحُ ربّك، إذًا، يحتاج إلى أمر آخر هو رتّبه!. الحاجة، جعلها ربّك، لأنّ يصلّي قريبُك لأجلك وإلّا لا تحيا!. وردّ أبيمالك المرأة مع هدايا، بقرًا وغنمًا وعبيدًا وإماءً. “فصلّى إبراهيم إلى الله فشفى الله أبيمالك وامرأته وجواريه فولدن”، بعد أن أُمسكت أحشاؤهنّ، وضُرب القوم بالعقر.

من هنا أهمّيّة الصّوم والصّلاة، في كلّ حال، وبإزاء كلّ همّ، صلاة المتبتّلين الأبرار إلى الله!. “طلبة البارّ تقتدر كثيرًا في فعلها”!. هذا الأمر رسمه الله مفتاحًا لكلّ مشكلة بين النّاس، لأنّ ترتيب ربّك هو أنّ الإنسان بالإنسان يُصلَح!.

هذا والملمّات أزمنة الله بامتياز!. حين يَلقى الإنسان نفسه في حال العجز بإزاء ما يحدث، فكأنّ ربّه يريد أن يأخذ أمره على عاتقه بالكامل!. فقط، على المرء، إذ ذاك، أن يسلم نفسه لله ويسأله العون!. لكنّ ربّك لا يسمعك إن سألته بلسانك وحسب!. يتركك أوّلًا تعاني، لا لأنّه يحبّ الإيلام، بل لأنّك أنت مَن يحتاج إلى الألم، بمقدارٍ أو بآخر، هو عارف به، ليتحرّك قلبك، وليتسنّى لك، تاليًا، أن تصرخ إليه من الأعماق!. تَفَهٌ القول إنّ ربّك مُرسِلٌ الآلام للنّاس عقابًا لهم لأنّهم أخطأوا إليه!. خطيئتهم تعاقبهم!. أمّا هو فيسمح بمثل هذا العقاب لأنّه يرى فيه إمكان شفاء لهم!. لا يسمع ربّك صوت اللّسان!. يسمع صوت القلب!. أما قرأتم: “إلى الرّبّ صرخت في ضيقي، فاستجاب لي”؟!.

ثمّ، لا يحسبنَّ أحد أنّ الصّلاة هي لمَن نعرف وحسب، وأنّها محدودة بنا وبخصوصيّاتنا!. الصّلاة هي للعالم بأسره!. هي لغة الوصال، في النّاس، بين الله والعالم!. هذا لأنّه بالحبّ، وبالحبّ وحده، نعرف كلّ إنسان، ما دام أنّه بمحبّة الله كان كلّ إنسان!. في زمن القدّيس برصنوفيوس الغزّاوي، قيل عن ثلاثة أبرار، يبدو أنّه هو كان واحدًا منهم، إنّهم حفظوا العالم بأسره بصلاتهم!.

وفي شهادة لامرأة كولومبيّة اسمها غلوريا بولو أنّها قضت احتراقًا بصاعقة. وبعدما عبرت بالجحيم وعاينت الرّبّ يسوع، عادت إلى الحياة، خلافًا لكلّ التّوقّعات، وأُجريت لها عدّة عمليّات جراحيّة على مدى سنوات. وأخيرًا، استعادت عافيتها. هذه كشفت، في شهادة لها، أنّ الرّبّ الإله أعطاها، في رؤيا قلبها، أن ترى مزارعًا فقيرًا مغمورًا لم يسبق لها أن التقته، قال لها إنّها بصلاته، خاصّة، أعطاها أن تعود إلى الحياة لتتوب وتشهد لما حدث لها!. هذا الفلّاح، بكلام الرّبّ يسوع: “أحبّكِ لدرجة أنّه لم يعرفك”!. فإنّه، بترتيب الله، اشترى سكّرًا، من أحد المحالّ، لفّوه له بورق جريدة اليوم التّالي لحدوث حادثة غلوريا بولو، الّتي احترقت في 5- 5- 1995. وكانت في الجريدة صورتها، كلّها محروقة!. فجعل الفلّاح المسكين، بصورة عفويّة، يتضرّع إلى الله، وينتحب بحرقة عظيمة وهو يصرخ: “يا أبتاه!. ارأف بأختي الصّغيرة هذه!. يا ربّ، نجّها…”. ثمّ نذر أن يزور مقام السّيّد في بوغا، في القسم الجنوبيّ الغربيّ من كولومبيا وهو الفقير المقيم في القسم الشّماليّ الشّرقيّ في سْيارا نيفادا دي سانتا مارتا!. يا له من إنسان جميل!. تجشّم مشاقَّ عظيمةً محبّةً بأخت للمسيح لا يعرفها!.

كان الأب الياس يؤمن بقوّة الصّلاة، وطبعًا بالصّوم كمعين على الصّلاة، لمواجهة كلّ مشكلة في الكنيسة والعالم!. يعمل الإنسان ما يقدر عليه طبعًا. لكنّ الأزمات، لا سيّما الكبرى، تأتي من تعقيدات الخطايا وتداخلها، على مرّ الأيّام!. هذه لا باعَ للبشر على حلّها مهما حاولوا!. وسُذّجًا يكونون، من حيث لا يعلمون، متى حسبوا أنّ البشر بالخطط والدّراسات يواجهون الهموم!. هذا لأنّ لبّ المشكلة، أنّى تكن، ليس فيها وحسب، كما على نحو موضوعيّ، ولا في الآخرين فقط، بل أيضًا، في معظم الحالات، في الّذين يحاولون حلّ المشكلة، هم أنفسهم!.

“إذا كان أعمى يقود أعمى يسقط كلاهما في حفرة”! فكيف للعقل أن يحلّ مشكلةً ناجمةً عن تعقيدات خطايا النّاس مجتمعةً؟!. في أحسن الحالات ربّما يخفّف من حدّة بعض ظواهر المشكلة!. وفي معظم الحالات، يزيدها تفاقمًا!. كيف تحلّ مشكلة الجشع مثلًا بغرور العقل، أعني متى تحرّك العقل بقوّة الغرور!. الجشع مشكلة، لا شكّ في ذلك، لكنّ الغرور مشكلة أقسى منها بأشواط!. مَن تراه يحسب أنّ مشكلات النّاس تُحَلّ بتواضع القلب، بالاعتراف بالخطايا، بالصّبر، بالتّوبة… وصولًا إلى المحبّة الحق؟!. هذه جهالة عند النّاس بامتياز!. هذه عثرة حتّى بين أكثر مَن يحسبون أنفسهم مؤمنين بالله!. ولكن، هذه، بالذّات، هي مفاتيح حلّ المشكلات بين النّاس!. لذلك، جعل ربّك الحلّ، أو كما نسمّيه نحن، في كنيسة المسيح، “الخلاص”، أقول جعله في عهدة هؤلاء المنبوذين، المعتَبَرين سِقطًا، وكأنّهم مخبولون، مجانين بالله!. هنا، نحتاج حتمًا إلى وقفة ضمير!. “ألم يجهّل الله حكمة هذا العالم؟” (1 كورنثوس 1: 20). ألم يقل ربّك: “جهالة الله [أي ما يعتبره النّاس جهالةً] أحكم من النّاس، وضعف الله [أي ما يعتبره النّاس ضعفًا] أقوى من النّاس” (25)؟.

في الظّروف القاسية، تعلّم الأب الياس، كأيقونة للإنسان الجديد، أن يسلم نفسه بالكامل لله، في اضطرابه كإنسان!. أجل، الجدليّة الدّاخليّة بين الاضطراب والتّسليم، لدى كلّ إنسان، لا بدّ منها، إلى أن يأتي ابن آدم إلى التّسليم الكامل!. إذًا، بالخبرة يتعلّم المرء، أخيرًا، أن يفرح بذلك، وذلك بفرح هو، في الحقيقة، من فوق، فتصير الحالة الميؤوس منها، بشريًّا، بتدبير الله، مناسبةً للفرح الأكمل لديه، كما لتكتمل تهيئته للموت، الّذي هو المرحلة الأخيرة من سعي الإنسان إلى الحياة الحقّ!. “في يديك أستودع روحي”!. فكأنّك، متى بلغتَ العجز الكامل، تكون على وشك أن يتّخذك ربّك وما تواجهه بالكامل!. هذه ذروة الإيمان ابتغاء ذروة المحبّة، “لسرور المؤمنين”!.

مرّة، خُطف الأب الياس عند حاجز. إثر عودته، بدا متماسكًا، صامتًا. كان يترجّح بين اضطراب وثقة بالله، على شكر له وللّذين عملوا على إطلاقه!. هذه الحادثة، رغم أنّها هزّته، زادته تسليمًا فوق تسليم لربّه!. لا يسلمك ربّك إلى الأوجاع إلّا للمنفعة!. رجل الله تزيده الآلام التصاقًا به ورجل العالم انصرافًا عنه، إلى أن يعي هذا الأخير، في العمق، قصوره وعجزه، ساعتذاك قد يعود، أو ييأس ويموت في خطيئة نفسه!.

ليس في قاموس مَن يحبّون الله ما هو من اليأس!. يدنو محبّ الله من اليأس كما دنا بولس قبل أن يشطّط في مليطة!. لكنّ ربّك لا يدع رجلك تزلّ ولا ينام حارسك!. هناك، أخيّ، ما هو منك، وهناك ما هو من ربّك!. في اليُسر، تعمل وِسعك بشكر لله، وفي العسر تتعلّم أن ترى ضعفك وأن تسلم أمرك بفرح لربّك، وهو مدبّرك بأكثر ممّا تتوقّع أو تتصوّر، لأنّه يحبّك أكثر ممّا تحبّ نفسك!. لذلك، في ضعفك أيضًا، تتعلّم أن تشكر وأكثر!. ولذلك أيضًا لسان حال حبيب الله، وهذا كان لسان حال الأب الياس: “أفتخر بالحريّ بضعفي لكي تحلّ عليّ قوّة المسيح”!.

… لتستمرّ القصّة!.

الأرشمندريت توما بيطار
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسيّ
الأحد 1 كانون الأوّل 2019

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share