الأب إيليّا متري
كنّا فتيانًا يوم أراد لنا إخوتنا الكبار أن نختبر الإقرار بالذنوب أمام شيوخ معتبَرين. هذه أتتنا دعوةً أصيلةً فيما تعوّدنا، إخوةً ضيّقت الحرب علينا دروبنا، أن نكشف قلوبَنا بعضُنا لبعض. وهذه، خبرةً أصيلةً أيضًا، دفعتنا إليها، إلى ضيق الحرب، أنّ الذين كانوا يباركوننا في أدعيتهم لم يكونوا كلّهم، حينئذٍ، قادرين على إتمام إرادة الإخوة. وكان دير القدّيس جاورجيوس – دير الحرف، أحيانًا، خيارًا ممكنًا.
لم تكن لنا حكمة الكبار. جددًا كنّا. هذا ليس تبريرًا. ورأينا أنّ تحقيق ما دعينا إليه يكمل إن ركنّا إلى الوجه الأعلى. تعالٍ، بلى، إنّما ارتجال صغار! وإذًا، وجه رئيس الدير كان هدفًا يحقّق ما نصبو إليه!
في رحلتنا الأولى إلى دير الحرف، أخذنا جمالُ الطريق المتعرّج. كانت الأشجار، قائمةً على جانبيه، بعضُها تصفّق لبعض، وأخريات تمدّ ذاتها كما لو أنّها تريد أن تعانق القائمات في الجانب الآخر. وأنت، ابنَ مدينةٍ، لا شيء يغريك كما مشهد أشجار تكاد لا تراها في سوى الصور. الهواء العليل اكتشاف أيضًا!
لم تكن الرحلة تخلو من بعض خوف، أو… كثير منه. ذكرت: كنّا في حرب. ولكنّ ما كنّا نطلبه بدا أقوى من خوفنا. صعدنا حذرين، إنّما واثقين بأنّ اللَّه قادر على أن يكمل لنا سعينا، صعودًا ونزولاً.
أطلّ علينا الدير قَبْلَ أن نصل إليه. كنّا، أوّل مرّة، نشاهد ديرًا. بلى، صُوّر لنا كلمات. وحُكي لنا عن مجد الذين (أو اللواتي) يتركون الدنيا في إثر إله حيّ، ليطلبوا الوحدة به. لكنّ رؤية الدير تفرض عليك وقارًا تطلّ عليه الكلمات طلاًّ. الرؤية لها أسرارها وكشوفاتها. وقدَّمَ إلينا ما رأينا وقارَ ذاتِهِ بذاته.
كان الإخوة الكبار قد قالوا لنا، أيضًا، عن الكنيسة، »السماء على الأرض«. صعدنا درجًا ينتهي عند كنيسة كان بابها مفتوحًا. ودخلنا. لا أذكر كم كانت الساعة تمامًا. ما أذكره، تمامًا، أنّ ثمّة صلاةً، كانت تُجرى، يؤمّها أحد الكهنة. أيّ صلاة كانت؟ عدتُ لا أذكر. كان بعض أشخاص، متوزّعين على مقاعد، يصلّون بانسكاب ظاهر. ليسوا جميعهم رهبانًا. كان ثمّة رهبان يقفون، أمام الهيكل، يمينًا وشمالاً، يقرأون، ويرنّمون. وأدهشنا مشهدُ الكنيسة كاملاً. أفصح عمّا أخبرَنا عنه الإخوةُ لفظًا. صار خبرًا أبلغ بعد عين! رأينا إخوةً، يصلّون، تحوط بهم صور الربّ وقدّيسه من كلّ جانب. يا لهذا المشهد الذي يحكي عن ذاته أيضًا! كان المشهد قولاً مرئيًّا لما سمعناه كلمات قَبْلاً، قولاً محكمًا أنّ الكنيسة هي، فعلاً، سماء على الأرض!
بعد أن خرجنا، عرفنا الكاهنَ الذي كان يؤمّ الصلاة. سألْنا. وعرفنا. كان مَنْ حسبنا أنّنا صاعدون إليه، لنعترف! كان أبانا إلياس، رئيس الدير. سلّمنا. طلبنا البركة. نلناها. سألْنا عن إمكان ما نريده. سَأَلَنا أن ننتظر. اعتذر. وتركَنا. وفهمنا أنّه يريدنا أن نلحق بركب الذين يعترفون أمام كاهن آخر.
لا أعتقد أنّ ما أراده كان ردًّا على تعالٍ وصفته بارتجال صغار. هل كان؟ هل كان فعلاً؟!
انتظرنا بعضَ أشخاصٍ (أعتقد أنّهم كانوا ثلاثةً، ونحن أيضًا) نسكوا الدير قَبْلَنا. مشهد الخارج يختلف عن الداخل. يبدو، في خروجه، أكثر إصرارًا على خيار الجِدّة. وجاء دورنا. دخلنا، وخرجنا.
لا أريد أن أرمي على ماضٍ بعيد ما قد يُحسب أنّني أشعر به الآن، وينعشني الآن. لكن، بصدق، لم يثرني، أوّلاً، حينئذٍ، ما جرى في تلك الغرفة الصغيرة التي كان قاعدًا فيها رجل شيخ ينتظر أشخاصًا، يعرفهم أو لا يعرفهم، واحدًا تلو الآخر. هل أتنكّر لطيبته، لقدرته على الإصغاء، لما قاله، لصوته في ما كان يصلّي؟ لا، لعمري، لا! لكنّني، مشغولاً بما جرى قَبْلَ تلك الغرفة، يجب أن أعلن، على وضاعةٍ لم تفارقني، أنّ ما أثارني أوّلاً، أو كثيرًا جدًّا، ذاك الآخر الذي وجَّهَنا إلى سواه! أثارني أنّني شعرت بأنّه كان يثق، ثقةً كلّيّةً، بِمَنْ كانوا يشاركونه في حياة ديره. كيف لرئيس أن يحيا واحدًا ضمن جماعة الإخوة؟ قبول الاعتراف مسؤوليّة، نفوس ممزّقة ينبغي جمعُها، فكيف؟! هل هي »فكرة المواهب« التي كلّمنا الإخوة الكبار عليها أيضًا؟ يبدو أنّ هذا الدير يحوي مشاهدَ عديدةً، تُحاكي ما سمعناه من أقوال طيّبة، وتُجَسِّده!
لم نترك الدير توًّا. طلبنا أن نودّع رئيسه. خرج إلينا، وألحّ على أن نقبل ضيافتهم. تبعناه إلى قاعة الدير. كنّا نعرف أنّ الرهبان فقراء. لقد عُلِّمنا أنّ ثمّة نذورًا يتعهّدونها يومًا فيومًا، ومنها الفقر. سألَنا إن كنّا نفضّل شيئًا. وبانتظار ما سيأتي، طلبَ أن يعرفنا واحدًا واحدًا. ودار حديث عمّا نفعله كنسيًّا وفي الحياة الدنيا. وعاد الرئيس، إذا وجّه كلامه إلى أيٍّ منّا، يناديه باسمه. بتنا معروفين! هذا، إلى الضيافة، كان له وقع شديد علينا. الضيافة قالت عن كرم الفقراء! ومعرفته إيّانا قالت إنّنا قد سكنّا ذاكرته. هل فهمنا، يومئذٍ، أنّ هذا يعني أنّه سيتكرّم علينا بذكرنا في صلاته؟ أعتقد، اليوم، أنّ هذه المعرفة هذا معناها. فالرهبان قوم يعرفون أنّ اللَّه هو الذي يثبّت نعمه في الناس. وطريقتهم واحدة لا غير: أن يستمطروها بصلواتهم. سحرنا جميعَنا هدوؤه، وكلماتٌ تخرج من فمه بسرعة لا تعارض الهدوء، ودعواتٌ طيّبةٌ إلى أن نبتسم، بثقة. هل أراد أن يقطع ما قد نحسبه مسافةً، أي أن نقترب؟ أو أراد أن يخفي لاهوتًا في بشريّة؟ سؤالان أستعيرهما من الحاضر. وحاضري يحضّني على أن أستريح إلى أن أعتبر كلاًّ منهما جوابًا!
كان الإخوة يريدوننا أن نعترف بذنوبنا. هل هذا ما كانوا يريدونه فحسب؟ أو كانوا يريدون أن نضمّ إلى قلوبنا علمًا أنّ حياتنا في المسيح تفترض استقامتها أن يكون لنا حجّ دائم إلى أهل البرّيّة؟