فليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح يسوع: «الذي إذ كان في صورة اللَّه لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً للَّه، لكنّه أفرغ ذاته آخذًا صورة عبد صائرًا في شبه الناس، وإذ وُجِد في الهيئة كإنسان، وضع نفسه، وأطاع حتّى الموت موت الصليب» (فيليبّي ٢: ٥- ٨).
يبدو لي أنّ هذه الآيات تعيدنا إلى سرّ الوجود، سرّ الكيان. فعندما يقول لنا الرسول بولس «فليكن فيكم هذا الفكر»، كأنّه يقول عودوا إلى ما كنتم عليه، إلى ما أنتم، إلى العدم الذي خُلِقتم منه، فتصيروا سليمي الكيان والوجود…
وربّما لهذا يعمد إلى إفراغنا من ذواتنا بالمصائب والضيقات، والأمراض والعجز والفشل، وما إلى ذلك، لكي يفرغنا حتّى النهاية ونحن لا ندري أنّ هذه إنّما هي نعمة، بل النعمة الكبرى حتّى يفسح لذاته مكانًا في كياننا، حتّى يزيل أنانا البغيض ويملأنا من ذاته… «ملكوت اللَّه في داخلكم» (لوقا ١٧: ٢١).
إنّ العذراء لمّا قبلت دعوة الملاك جبرائيل، تلك الدعوة الغريبة غير المعقولة، أفرغت ذاتها ولذا أمكنها أن تصير أمّ اللَّه. إنّها الممتلئة نعمة أي إنّها النعمة تملأها كلّيًّا، فلا مكان فيها لأناها…
فلنفهم ونشكر… هذه أحكام اللَّه للذين اختارهم ويقبلون… «فلن أموت بل سأعيش» (مزمور ١١٧: ١٧). هذا هو باب الربّ ومنه يدخل الصدّيقون (مزمور ١١٧: ٢٠).
في جهادنا في هذه الطريق يوحي إلينا الكتاب المقدّس، بمرحلة ربّما لا بدّ منها، لكي نبلغ إلى إفراغ الذات. نستنتج ذلك، على سبيل المثال، من إنجيل القدّاس الإلهيّ يوم عيد القدّيسة مارينا: فالمرأة النازفة الدمّ منذ اثنتي عشرة سنة وقد تألّمت كثيرًا من أطبّاء كثيرين، وأنفقت كلّ ما عندها ولم تنتفع شيئًا، بل صارت إلى حالة أسوأ (مرقس ٥: ٢٥- ٢٦)، لمّا سمعت بيسوع، جاءت في الجمع من وراء، ومسّت ثوبه، لأنّها قالت إن مسست ولو ثيابه شُفيت (مرقس ٥: ٢٧- ٢٨)… «للوقت جفّ ينبوع دمها» (مرقس ٥: ٢٩).
ربّما إن لم نصل إلى الإحساس بأنّنا صرنا إلى حالة أسوأ، لن نجاهد حسنًا في طريق الخلاص والقداسة…
وتدعم ذلك كتبنا الطقسيّة حيث تكثر صرخات اليأس سواءً على الصعيد الشخصيّ الفرديّ، أو على صعيد الشعب كالعبارات التالية: «نحن المطروحين في اليأس»، و«خلّص يا مخلّصنا شعبًا يائسًا»، و«أنا الطريح في اليأس»، و«نفسي اليائسة»، و«إنّي غريق من جرّاء اليأس»، و«أحاق بي اليأس والقنوط»، و«ارحمني أنا اليائس القانط»، و«إنّ لجّة الخطايا تدفعني إلى قعر اليأس والقنوط»، و«اقبلني أنا اليائس تائبًا» و«أهّلني أنا اليائس لأصير شريكًا لأسرارك السماويّة».
وكأنّ اليأس مرحلة ضروريّة في سيرتنا الروحيّة النسكيّة، على منوال المرأة الخاطئة والابن الشاطر والنازفة الدم، واللصّ الشكور الخالي من أيّ برّ ذاتيّ، وأيضًا الذين تمسّكوا ببرّهم واتّكلوا عليه فقال لهم الختن: «من أين أنتم لا أعرفكم» (لوقا ١٣: ٢٥). إنّهم من أنفسهم وليس من فراغهم، علمًا أنّ اختيار اليأس هذا يحصل، بصورة خاصّة، للمجاهدين والملتزمين بالحياة الروحيّة إلى حدّ كبير… بل كلّيًّا.
كذلك في قصّة عشرة «الرجال البرص» الذين شفاهم يسوع، ولم يرجع ليشكره سوى السامريّ فكان عظيمًا جدًّا… وهو الغريب الجنس الذي لا فضل له ولا حقّ، فقد أدرك أنّ الربّ يسوع طهّره من شيء عظيم وهو غير مستحقّ (لوقا ١٧: ١٥- ١٨).
ونحن هل ندرك ونعي من أيّ شيء عظيم يطهّرنا الربّ؟
النتيجة أنّنا لا نخلص ولا نتقدّس إلاّ بالإيمان فقط، الإيمان المبنيّ على معرفة ذواتنا بالعمق: «برّنا كخرقة الطامث» (إشعيا ٦٤: ٦).
لنرجع إلى (رومية ٤: ٢٥)، و(متّى ٧: ٢١- ٢٣): ليس بالناموس كان الوعد لإبراهيم… بل ببرّ الإيمان وإبراهيم «أب لجميعنا». والذي حُسِب له سيحسب لنا الذين نؤمن بمن أقام يسوع ربّنا من الأموات… الذي أقيم لأجل تبريرنا.
هذا شرط أن نحفظ وصاياه… وإلاّ «لا أعرفكم من أين أنتم» (لوقا ١٣: ٥).
هذا، وقد قيل إنّ القدّيسين عند دخولهم إلى الفردوس يرتعدون «ارتعادًا مقدّسًا». فالسبح للَّه دائمًا.l