مركز اللاذقيّة
لم يصل إلينا حتّى الآن سوى هذه الكلمة، وسنوافي القرّاء بوصف الحفلة والخطابات كاملة في العدد القادم.
كلمة المكتب الثقافيّ
صاحب السيادة، آبائي المحترمين، سيّداتي، سادتي!
لقد عوّدناكم، كما ترون على أن نعيّد كلّ عام ونبتهج كلّ عام لذكرى تأسيس الحركة، وعلى أن نتكلّم في هذه المناسبة ونعيد الكلام على الحركة وتحقيقات الحركة. غير أنّنا أيّها السادة لا نعيّد لأجل العيد ولا نبتهج لأجل الابتهاج ولا نتكلّم ونخطب لأجل الكلام والخطابة. إنّنا نعيّد ونبتهج ونتكلّم لنعبّر عن جوهر وعن فكرة. وكلّ ما نطلبه أيّها السادة أن تنظروا إلى تعبيرنا هذا كتعبير فقط وتدركوا الجوهر الذي أردناه من ورائه، وأن تدركوا أنّ هذه الذكرى ليست ذكرى المجد والفخر ولا ذكرى الأعمال والنتائج، بل ذكرى اعتناق الفكرة واكتشاف الجوهر، ذكرى الأساس الذي وجد والاتّجاه الذي انبثق، إذ إنّ الفكرة أيّها السادة هي كلّ شيء، لا تنبثق الأعمال إلّا عن الفكرة ولا قيمة لهذه الأعمال إلّا بالفكرة التي توجّهها. فالأفكار هي التي تسيّر العالم.
أمّا هذه الفكرة في الحركة فهي ليست غريبة عنكم. هي بالعكس فكرة موجودة في صميم كلّ واحد منكم، فكرة ليست لنا بل كانت لكم قبل أن تكون لنا، لكنّها ظهرت وتجسّمت في الحركة، فكانت الحركة تجسّمًا لرغبات الجميع المخفيّة في اللاوعي ونقطة التقاء رغبات الجميع. وأصبح تجسّم الحركة هذا بكيان خارجيّ ظاهر أصبح نداء للجميع، وهو نداء لا يمكن إلّا أن يجد صدى له في النفوس، إذ إنّ الصدى موجود في الأصل، بل هو الأصل والحركة هي الصدى، ولذا أيّها السادة نحن ندعوكم اليوم وندعوكم كلّ عام للاحتفال معنا بهذه الذكرى. بذكرى الفكرة التي كانت فيكم والتي وجدتها الحركة فأوجدت هي الحركة بدورها، ونحن ندعوكم إلى وعي هذه الفكرة معنا وإلى اعتناقها معنا إذ علينا أن نعيها كلّ يوم ونعتنقها كلّ يوم لأنّها علّة استمرارنا.
فما هي هذه الفكرة؟
هذه الفكرة هي، أيّها السادة، إزاء كياننا المتردّد المشوّش، الرغبة في كيان ثابت صحيح، هي إزاء اتّجاهاتنا العديدة المتشابكة المتضاربة التي تقودنا إلى لا شيء، الرغبة في إيجاد اتّجاه واحد يقودنا إلى شيء.
هي إزاء الخمول الشامل والتهامل المتسلّط، الرغبة في العمل، في عمل شيء ما للنهوض والإصلاح وإزاء العمل العادم النظام والمنقطع البائس، الرغبة في عمل منظّم مستمرّ واثق متشبّث، هي إزاء التخبّط والفوضى، إزاء الحيرة وعدم الارتكاز على شيء، الرغبة في التثبّت والتيقّن، الرغبة في الارتكاز على شيء.
هي بكلمة واحدة الرغبة في الكيان الصحيح والاتّجاه الثابت والعمل المنظّم المرتكز على حقيقة سامية فائقة.
وهذه الفكرة، كما ترون أيّها السادة، لا تغرب عن كلّ رجل يعقل ويدرك: أمام حالة من الحالات، كلّ رجل عاقل مدرك يتبيّن نواقص هذه الحالة بالنسبة إلى مثل أعلى معروف، ويدرك أنّ لإصلاح هذه النواقص يتحتّم العمل المنظّم الدائم في حركة منتظمة دائمة.
أمّا الحالة هنا فهي حالة الطائفة وأبناء الطائفة، وكيف يتوجّهون ويفكّرون، إمّا بسخافة أو بوجاهة وكيف يعالجون مشاكلهم ويحلّونها أم يعالجونها ولا يحلّونها. كيف يحيون ويتّحدون ويعملون وينظّمون أو لا يحيون ولا يتّحدون ولا يعملون ولا ينظّمون، وبكلمة واحدة كيف يعيشون وهل يعرفون أن يعيشوا؟
وأمّا المثل الأعلى الذي على أبناء الطائفة أن يفكّروا ويعملوا ويعيشوا بموجبه، فهو ولا شكّ المسيح والمبادئ المسيحيّة والتعاليم والمفاهيم المسيحيّة، تلك التعاليم التي لا تنحصر في الدين فقط بل تتخطّاه إلى سائر نواحي الحياة، اجتماعيّة كانت أو اقتصاديّة أو قوميّة وإلى سائر نواحي التفكير والعمل. تلك التعاليم التي يمكنها أن تجابه جميع مشاكل العالم وتحلّها فكم بالحريّ مشاكلنا نحن…
وأمّا الحركة المنظّمة لتنهض الطائفة من حالتها الحاضرة إلى مقتضيات مثلها الأعلى، فهي حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة التي وعت الحالة على ما هي عليه، ووعت المثل الأعلى بقوّته وجماله، ووعت الفكرة الأساسيّة أي الرغبة في النهوض من هذه الحالة، فتمسّكت بهذه الفكرة وتعمّقتها ونظّمتها وامتلأت منها وتحرّكت نحو المثل الأعلى، وها هي منذ أربع سنوات تتحرّك وتسير نحو هذا المثل وفي كلّ عام تناديكم للسير معها..
ولكن كيف السير؟
السير، أيّها السادة، باتّباع ما تتطلّبه منّا الفكرة، وما تتطلّبه فأشياء كثيرة متعدّدة، غير أنّنا نحصرها اليوم في نقاط رئيسة في شبه برنامج عمل عامّ قدر ما يسمح به الوقت، تتطلّب منّا الفكرة:
١ – تفهّم حقيقة الدين وحقيقة المفاهيم المسيحيّة التي ننتمي إليها ونشرها وتوطيدها بين أبناء الكنيسة، وبخاصّة بين الاطفال وهذه هي قضيّة التربية والتعليم: قضيّة المدارس.
٢ – التهذيب الروحيّ والتهذيب الأخلاقيّ لأبناء الكنيسة كافّة، باتّباع الخدمات الكنسيّة التي هي العامل الأكبر للتهذيب واشتراك الجميع فيها برغبة ونظام وحسن عبادة واحترام، إذ إنّ الاشتراك في الخدمات الليتورجيّة باحترام تامّ هو أبلغ دليل على رقيّ أبناء الطائفة وتهذيبهم: وهذه هي قضيّة الكنائس.
٣ – مجابهة جميع مشاكلنا كمشاكل كنسيّة لا شخصيّة ولا إداريّة ولا ماليّة، وحلّها بالاتّحاد والمحبّة بإرادة مسيحيّة: وهذه هي قضيّة الاتّحاد والعمل المسيحيّ.
٤ – العيش بسلام مع جميع إخواننا، العيش في الأمّة كأبناء للأمّة والاندماج في الأمّة: وهذه هي قضيّة التوجيه القوميّ الصحيح.
٥ – تفهّم حقيقة التيّارات الفكريّة العديدة والمبادئ السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة المتضاربة في العالم، وعدم الانقياد إليها انقيادًا أعمى بل الوقوف منها موقف المسيحيّ الفاهم الذي يتمسّك بمسيحيّته ويضعها فوق كلّ الاعتبارات الأخرى: وهذه هي قضيّة الوعي التامّ والمحافظة على الكيان.
هذه بعض النقاط التي تتطلّبها منّا فكرة الحركة فإلى أيّ مقدار تسير بموجبها الحركة؟
أوّلًا: قضيّة التعليم والتربية: الحركة تهتمّ اهتمامًا زائدًا للرجوع بأعضائها إلى حقيقة الدين وإلى التعاليم المسيحيّة الصحيحة، وهي تعتبر أنّ حقيقة الدين المسيحيّ الأرثوذكسيّ هي في الإنجيل المقدّس والتقليد الشريف والليتورجية الكنسيّة والأسرار المقدّسة… فتلقّن أعضاءها هذه التعاليم في اجتماعات أسبوعيّة منتظمة بشكل أنّ الإنجيل المقدّس مثلًا يتلى أكثر من أربعين مرّة في الأسبوع باللاذقيّة فقط، وأكثر من ثمانين مرّة في اللاذقيّة وتوابعها، وما يقارب المائتي مرّة في المراكز كافّة. وكذلك التعليم المسيحيّ وسيرة القدّيسين وتفسير الخدمات الليتورجيّة والأسرار المقدّسة… وتضمّ الحركة كثيرًا من الأحداث الذين يربّون على المبادئ المسيحيّة. غير أنّ الحركة عالمة أنّها مهما اتّسعت وكبرت لا تستطيع أن تفي بحاجة التعليم والتربية. وهي لذلك تهتمّ اهتمامًا فائقًا لقضيّة المدرسة الأرثوذكسيّة الكبرى لا لشيء إلّا ليفسح المجال فيها لتنظيم التعليم والتربية المسيحيّة بصورة كاملة وافية، وخلق جوّ وتوجيه أرثوذكسيّ عامّ يتغذى فيه أطفالنا وينشأون عليه.
ثانيًا: قضيّة الطائفة في الكنائس: الحركة تهتمّ بتهذيب أعضائها روحيًّا وأخلاقيًّا باتّباع الخدمات الكنسيّة والاقتراب من الأسرار المقدّسة. وهي ليس فقط تشرح لهم الخدمات الليتورجيّة لتفهمهم إيّاها وترغبهم في الاشتراك فيها بل تهيّئ لهم الفرصة العمليّة لحضور الصلوات صباحًا نهاري الأربعاء والجمعة من كلّ اسبوع وذلك على الدوام: كما تشجّعهم على الاقتراب فيها من الأسرار الإلهيّة باستحقاق. وهي لا تُعنى فقط بالاشتراك في الخدمات الكنسيّة بل تهتمّ أيضًا بإيجاد السكوت والنظام التامّ في تلك الخدمات، فتوعز إلى أعضائها بألّا يسمح أحد منهم لنفسه بأن يتكلّم في الكنيسة ولو كلمة واحدة، إن كان أثناء الخدمة أو بعد نهايتها. ونحن نريد أن نصل بهذه الطريقة إلى إيجاد جوّ هادئ في الكنيسة، جوّ ملؤه الاحترام والخشوع وحسن العبادة. عسى أن تعمّ هذه العادة بين أبناء الكنيسة أجمعين، فتكون أبلغ دليل على حسن عبادتهم وعلى تفهّمهم الدين وتمشّيهم مع فكرة الإصلاح.
ثالثًا: قضيّة الاتّحاد والعمل المسيحيّ: الحركة تعرف الوصيّة المسيحيّة الكبرى «وصيّة جديدة أنا أعطيكم أن تحبّوا بعضكم بعضًا كما أحببتكم أنا، بهذا يعرف الجميع أنّكم تلاميذي: إن كان لكم حبّ بعضًا لبعض» (يو ١٣). والحركة تحرص كلّ الحرص على أن تطبّق هذه الوصيّة في أعمالها وفي علاقات أعضائها بعضًا مع بعض فينبغي التقارب والاتّحاد والمحبّة. والحركة أوّل من جابهت التحزّب والتعصّب فصرعتهما وحقّقت في داخلها عدم اعتبار التحزّب، وحقّقت الاتّحاد الذي أراده المسيح. هذا وإنّها تعالج كلّ مشاكلها على أساس المبادئ المسيحيّة وتعمل بإرادة مسيحيّة… هذا ما تطلّبه الفكرة أن يسود في الطائفة، والحركة ليس بإمكانها الآن إلّا أن تهيّئ الجوّ وتدلّ على الطريق.
رابعًا: قضيّة التوجيه القوميّ الصحيح: بعد أن توجّهنا إلى كياننا الداخليّ وبحثنا ضرورة الكيان الثابت والاتّجاه الصحيح والاتّحاد والعمل، تطلب الفكرة منّا أن نتفاهم مع جميع إخواننا في البلاد، ونطبّق المبادئ المسيحيّة في ذلك أيضًا، فنهذب تفكيرنا في هذه الناحية ونتوجّه توجيهًا قوميًّا صحيحًا ونندمج في الأمّة كما تطلبه منّا لا الفكرة فقط بل المسيح والمسيحيّة الأرثوذكسيّة: «أعطوا ما لقيصر لقيصر» يقول المسيح: «اذهبوا وتلمذوا الأمم»، وكلمة أمم جمع أمّة والمسيح بهذه الفقرة أقرّ وجود الأمّة والأمّة تتكوّن من أبنائها وبجهود أبنائها وبمسؤوليّتهم. «لتخضع كلّ نفس للسلاطين الفائقة لأنّه ليس سلطان إلّا الله» يقول بولس الرسول (رو ١٣): «لذلك يلزم أن تخضع له ليس بسبب الغضب فقط بل أيضًا بسبب الضمير. فاعطوا الجميع حقوقهم: الجزية لمن له الجزية والجباية لمن له الجباية والخوف لمن له الخوف والإكرام لمن له الإكرام». «لنصلّ من أجل ملوكنا» تقول الليتورجية كلّ يوم… والتقليد الأرثوذكسيّ بأجمعه يبيّن لنا كيف أنّ الأرثوذكسيّة تقرّ وجود الأمّة وتشجّع كيان الأمّة الصحيح بالعمل الإصلاحيّ من داخل الأمّة ومن قبل الأرثوذكسيّة. فالحركة تعرف كلّ هذا لأنّها تعرف المبادئ المسيحيّة وهي تجهر بهذه المبادئ وتحبّذ كلّ توجيه قوميّ صحيح. وقد بيّنت في منشورها عن الكنيسة والطائفة الذي أذاعته بينكم كيف أنّ مفهوم الطائفة السياسيّ الزمنيّ المبنيّ على مفهوم الجماعة والكتل، والتعصّب هو مفهوم سخيف ليس ليس له أيّة علاقة بالدين والكنيسة وكيف علينا أن نفهم الطائفة كنيسة منظورة كجماعة المؤمنين التي تجمعهم عقائد وتقليد حيّ وإيمان ومحبّة قبل أن تجمعهم مسائل سياسيّة زمنيّة خارجيّة. وهذا ما تطلبه الفكرة وما تسعى الحركة إلى إفهامه قدر استطاعتها.
خامسًا: قضيّة التيّارات الفكريّة العديدة: إذا توسّعنا قليلًا نجد أنّ العالم في غليان من التيّارات الفكريّة المتضادّة التي تدّعي كلّها أنّها تقود إلى الحقّ وإلى الخير المطلق. فإزاء هذه التيّارات علينا أن نحدّد موقفنا منها كمسيحيّين أرثوذكسيّين. ولم يكن تحديد موقفنا إلّا بالتمسّك بمسيحيّتنا التي تعلّمنا أنّ الإنسان هو فوق القيم الأخرى كافّة. فوق المادّة وفوق الاقتصاد وفوق الجماعات وفوق كلّ مفهوم آخر. الفلسفة المسيحيّة مبنيّة على الشخص، على قيمة الإنسان الشخصيّة، على الجوهر الروحيّ في الإنسان، وعلى القيم الروحيّة فيه. فالحركة عالمة بذلك أيضًا وهي تصرح بأنّها تعتبر الشخصيّة المسيحيّة فوق كلّ شيء آخر، وتعلم قبل هذه الشخصيّة التي لا قيمة لها إلّا إذا اتّحدت بالمسيح.
هذا هو أيّها السادة البرنامج الذي يتّضح لنا من درس مقتضيات الفكرة. غير أنّه لا ينفع شيئًا ولا يقودنا إلى شيء إلّا إذا أسّسناه على المسيح. قلنا إنّ الفكرة تتطلّب أن نرتكز على شيء. فايّ ارتكاز أفضل من المسيح الذي هو كلّ شيء. فعلينا ألّا نضيع في وثبتنا هذا الارتكاز الثمين وعلينا أن نشبّه ذلك الإنسان «الذي بنى بيتًا وحفر وعمّق ووضع الأساس على الصخر فلمّا حدث سيل صدم النهر ذلك البيت فلم يقدر على أن يزعزعه لأنّه كان مؤسّسًا على الصخر..» و «الصخرة كانت المسيح».
هذا ما ندعوكم إلى التأمّل فيه أيّها السادة وإلى اعتناقه. وفّقنا الله تعالى في محبّته ومحبّتنا بعضنا لبعض في العمل في حقله، «لأنّ الحصاد كثير والفعلة قليلون. فاطلبوا إلى ربّ الحصاد أن يرسل فعلة أكثر إلى حصاده». آمين.
المرجع: مجلّة النور، العددأن الثاني عشر والثالث عشر، ١٩٤٦.