“الخطيئة هي عدم الإحساس”، عبارة قالها أحد كبار نسّاك الكنيسة المشرقيّة، القدّيس إسحق السريانيّ. عندما يرى المرء الشرّ خيرًا أو يراه شرًّا أقلّ، ولا يحسّ بثقل الشرّ ووطأته على إخوانه في الإنسانيّة تستوطن فيه الخطيئة وتتملكّه من رأسه إلى أخمص قدميه. ويبطل أن يكون إنسانًا، يصير صخرًا عصيًّا على الشعور، يصير جمادًا صلبًا، يصير وحشًا مجرّدًا من أيّ صفة بشريّة. وهل يسعنا اعتبار أحدهم بشرًا إن خلا ممّا يمكن أن يميّزه عن الوحوش أو عن الجماد، إن خلا من الرحمة والمحبّة؟
حرب وحشيّة تستهدف بشرًا آمنين. لن نقول تستهدف فلسطينيّين أو عربًا أو مسلمين، بل نريد أن نذكّر بأنّها تستهدف بشرًا من لحم ودم، بشرًا مثلنا يحلمون بغد أفضل لهم ولأولادهم ولأحبائهم. حرب يواجهون فيها جيشًا جبارًا لا يرتوي من الدماء ولا يشبع من ممارسة هوايته المثلى، المجازر الجماعيّة والإبادة. لا نريد استنهاض الهمم القوميّة والدينيّة والمذهبيّة، نريد إثارة الانتباه إلى كون الشهداء والضحايا الذين يسقطون هم بشر مثلنا وحسب.
حرب تطحن آلاتها شعبًا جارًا، وأكثر من جار، هو أخ لنا، يسكن أمام عتبة دارنا. نطلّ من نوافذنا فنراه يموت أمام أبصارنا. أولاده أتراب أولادنا تتمزّق كتبهم المدرسيّة ودفاترهم وتتكسّر أقلامهم. ونحن غير مبالين به، نحتسي القهوة ونشاهد البرامج ذاتها التي كانت تمرّ على التلفزة قبل الحرب كأنّ الحرب لم تقع، كأنّ لا شيء فظيعًا يجري في الجوار. حيوات إخوتنا عادت لا تهمّنا ولا تحرّك فينا أيّ شعور. فليقلعوا شوكهم بأيديهم كي تبقى أيدينا نظيفة. بتنا بلا إحساس أمام معاناتهم والغضب النازل على رؤوسهم.
يقول القدّيس أمبروسيوس أسقف ميلانو في القرن الرابع إنّ الذي يصمت على الظلم اللاحق بأخيه يكون شريكًا للظالم. فإن لم يكن ظلمًا ما يجري في باحة دارنا من استباحة لدماء بريئة لا ذنب لها سوى أنّها وُلدت في هذه البقعة من الأرض المباركة والملعونة في آن واحد، فماذا يمكننا أن نسمّيه؟ لا مكان للموقف الحياديّ بين الظالم والمظلوم. الحياد في هذا السياق يكون انحيازًا جليًّا مع المغتصِب ضدّ المغتصَب، مع الطغيان ضدّ العدل، مع العدوان ضدّ السلام.
الغريب في الأمر لدى شعوبنا العربيّة والإسلاميّة أنّ العامل الأكبر لاستنهاضها إنّما هو العامل المذهبيّ الذي يستغلّه جيّدًا القادة من الرؤساء والملوك استغلالاً فاضحًا. فهؤلاء القادة نجحوا في تحويل الصراع من كونه صراعًا بين العرب والإسرائيليّين إلى صراع بين محورين إسلاميّين طرفاه أهل مذهبين، أو طرفاه حلفاء متنوّعون لنظامين يتّبعان مذهبين مختلفين، من مذاهب الإسلام. والناس على دين ملوكهم، نسوا العصبيّات الدينيّة والقوميّة والوطنيّة، وانساقوا إلى العصبيّة المذهبيّة. والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو كيف يكون موقف العرب المسلمين من الحرب على غزّة لو كان المعتدي شيعيًّا لا إسرائيليًّا يهوديًّا؟ أما كان استنفر خطباء المساجد المرضي عنهم حكوميًّا للهجوم على إخوانهم في الدين الواحد ودقّ النفير للجهاد ضدّ المعتدين؟
تبقى الحقيقة العارية وهي أنّ أهل غزّة هم وحدهم اليوم مَن يدفع ثمن هذا الشقاق بين المسلمين. مسلمون “يمنعون الماعون” عن مسلمين، فهم إذًا ممّن “يكذّب بالدين” إن استلهمنا سورة الماعون القرآنيّة: “أرأيت الذي يكذّب بالدين. فذلك الذي يدُعُّ اليتيم. ولا يحضّ على طعام المسكين. فويل للمصلّين. الذين هم عن صلاتهم ساهون. الذين هم يراءون. ويمنعون الماعون”. صحيح أنّ القاتل لا يخجل من أن يكون معروفًا، لكنّ المسؤوليّة العربيّة والإسلاميّة لا تقلّ عن مسؤوليّة المعتدي الإسرائيليّ، إذ يتحلّل القادة العرب والمسلمون من الماعون الحقيقيّ لأهل غزّة المستضعفين.
المسؤول مذنب إذا قصّر في تنكّب مسؤوليّته، وإنّه كان مثيرًا للسخريّة ما قالته وزيرة الصحّة الفرنسيّة منذ نحو عشرين سنة عن فضيحة الدم الملوّث بفيروس السيدا إذ أقرّت بأنّها “مسؤولة ولكن غير مذنبة”. ولن يكون مقبولاً من المسؤولين العرب اليوم أن يميّزوا بين المسؤوليّة والذنب. وهل يجرؤ أحد من المسؤولين على مدى العالم العربيّ والإسلاميّ على الاستقالة احتجاجًا على ما يجري أو إعلانًا للإفلاس والعجز التامّين؟ “عدم الإحساس” جريمة وليس خطيئة وحسب. هي الجريمة (مع ألف ولام التعريف) ضدّ الإنسانيّة.
الأب جورج مسّوح
“النهار”، 18 كانون الثاني 2009