متى يُولد المواطن في لبنان ؟

الأب جورج مسّوح Sunday February 8, 2009 159

تقترب الانتخابات النيابيّة فتعلو نبرة الخطاب الطائفيّ والمذهبيّ. وتدرك أنّ أهمّ عامل ينبغي العزف على وتره لكسب شعبيّة معقولة للنجاح في الانتخابات إنّما هو هذا الخطاب الغرائزيّ. ثمّ يأتيك مَن يحدّثك عن الشعب اللبنانيّ الذي لا يختار ممثّليه إلاّ بناءً على ما فيه مصلحة الوطن ومنفعة المواطنين. ويأتيك أيضًا مَن يحدّثك عن الوعي الذي حازه شعبنا في القضايا المصيريّة الكبرى فيأتي خياره الانتخابيّ عن قناعة حرّة وبناءً على معايير وطنيّة لا يشوبها أيّ انفعال طائفي أو مذهبيّ.

عندما ترتفع أمواج الخطاب الطائفيّ والمذهبيّ قل إنّ تباشير الانتخابات قد اقتربت. وكلّ كلام عن وعي شعبيّ لا يسعنا وضعه إلاّ في خانة الخرافة أو الأكذوبة الكبرى. والدليل الساطع هو هذا الانجراف الشعبيّ وراء الزعيم الأبرز لكلّ طائفة من الطوائف التي تتشكّل منها ألوان الطيف اللبنانيّ. هذا الزعيم الذي يقدّم نفسه منافحًا عن حقوق أبناء طائفته في مزارع الدولة ودهاليزها وصناديقها ومزاريبها الخفيّة والمعلنة. هذا الزعيم الذي يبالغ في اختراع الأخطار التي يمكن أن تشكّلها بعض الطوائف الأخرى ضدّ أبناء طائفته. فيتمّ التجديد على تطويبه قدّيسًا أو وليًّا صالحًا، أو بطلاً أعظم وواليًا أوحد على الطائفة ومقدّراتها.

ولا تكتمل العدّة إلاّ ببعض رجال الدين المطلوب منهم إضفاء صبغة شرعيّة على أداء الزعيم المبجّل. فيظهر هؤلاء على الشاشات والمنابر يصيحون بالويل والثبور وعظائم الأمور ذودًا عن حياض الطائفة ودفاعًا عن مقدّساتها ومحارمها، والمقصود بالمقدّسات في هذا المقام ليس دور العبادة بل المواقع الجليلة في الدولة وإداراتها الدسمة. والحلف المقدّس بين السلطان – وزعماؤنا ليسوا أقلّ من سلاطين الزمان الغابر – وبين المؤسّسة الدينيّة ليس بالأمر الجديد. فالفقهاء، مسلمون ومسيحيّون، الذين يبحثون عن النعمة على أبواب أصحاب النفوذ الدنيويّ كثير عديدهم وعدّتهم الفقهيّة لا تنضب ولا تُستنفد.

والمشهد لا يكتمل من دون بعض أهل النخبة من المثقّفين الذين يكتبون الخطب المنمّقة بلغة بليغة وبأبيات شعر تقرّظ ولي النعمة وتهزأ من الأعداء. فترى بعضًا من أساتذة الجامعات الذين يدرس عليهم طلاب أجيالنا الصاعدة يغالون في مذهبيّتهم إلى حدّ الصفاقة. وترى بعضًا من أهل العلمانيّة سابقًا يزايدون في طائفيّتهم المستجدّة على الطائفيّين الذين حاربوهم قديمًا وسعوا إلى قتلهم محاولين تصفيتهم عن بكرة أبيهم، إلى حدّ إعلانهم التوبة عمّا اقترفته أفكارهم ومثاليّاتهم العلمانيّة أيّام ضلالهم وتيههم في حقّ الطائفة الكريمة أو المذهب الأكرم. طبقة “كتبة السلطان” ظاهرة قديمة هي أيضًا، لكنّها تزداد في زمننا المعاصر حدّة وبؤسًا.

ثمّ يريدونك أن تصدّق الكلام الرائج في شأن تحرّر الشعب اللبنانيّ من التأثيرات الطائفيّة والمذهبيّة على خياراته وسلوكاته في علاقاته مع أخوانه المواطنين المنتمين إلى الطوائف الأخرى. ويريدونك أن تصدّق مقولات العيش المشترك الراسخ بين عموم شرائح اللبنانيّين. لكنّنا لا نستطيع أن نصدّق كلّ ما نسمعه عن إيجابيّات التواصل في الاجتماع اللبنانيّ المتعدّد، طالما أنّ المحرّك الأساسيّ لمشاعر اللبنانيّين السياسيّة هو المحرّك الطائفيّ أو المذهبيّ الذي يمكن أن يجعل جارك، بين ليلة وضحاها، عدوًّا مستعدًّا لمحاربتك بكلّ ما أوتي من قوّة ولتهجيرك ومصادرة بيتك وأمتعتك.

حلف السلطان ورجل الدين و”الفيلسوف” لا بدّ منه لاستنهاض همم العوام وجرّهم إلى انتخابات يزيّن لهم فيها أنّ الكلمة العليا إنّما هي لهم. فيتوهّم الناس أنّ السلطة في إيصال مَن يصل هي مُلك أيديهم وخياراتهم الحرّة والواعية. معظم اللبنانيّين لم يرتقوا بعد إلى مستوى أن يستحقّوا إطلاق لقب المواطنين عليهم. وطالما مفهوم المواطن غائب عن الممارسة اليوميّة السائدة في السياسة اللبنانيّة فلا يمكننا أن نرجو غدًا أفضل من حاضرنا الذي هو بدوره أسوأ من ماضينا. وهنيئًا لمَن يستطيع أن يتغلّب على طائفته وعلى مذهبه وعلى قبيلته، فهو الوحيد الذي يستأهل الحياة ويحبّها عن حقّ.

 

الأب جورج مسّوح

“النهار”، 8 شباط 2009

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share