لترتفع المرجعيّات الدينيّة فوق المماحكات السياسيّة

الأب جورج مسّوح Sunday April 26, 2009 90

على مرّ الساعات والدقائق تزداد الحملات الانتخابيّة ضراوةً. ويهرع المرشّحون إلى استجداء التأييد والدعم من مختلف الهيئات الاجتماعيّة والنوادي والجمعيّات والعائلات والمخاتير وأعضاء مجالس البلديّات وقبضايات الأحياء والقرى، وصولاً إلى الأفراد. ولا ينسى هؤلاء  المرشّحون استعمال الأدوات اللازمة لإغراء الناخبين، ويأتي على رأس هذه الأدوات السحريّة الخطاب الطائفيّ والمذهبيّ الأكثر فاعليّة في استنهاض الجماهير المغويّة. لكنّ أهمّ فئة يسعى المرشّحون إلى كسبها هي طبقة رجال الدين، وبخاصّة المرجعيّات الكبيرة فيها.

بات مألوفًا في المشهد الانتخابيّ اللبنانيّ أن نرى رجال الدين يدعمون هذا الفريق السياسيّ أو ذاك، ويؤيّدون هذا المرشّح أو ذاك. ولا يتجاوز رجال الدين في هذا التأييد أبناء طوائفهم أو مذاهبهم التي ينتمون إليها إلى أبناء الطوائف الأخرى. فالحدود لدى رجال الدين مصونة ولا ينبغي التعدّي على الأملاك الخاصّة بالآخرين، وفي ذلك اعتراف ضمنيّ بالفيدراليّات الطائفيّة. وتغيب كلّ المعايير الأخلاقيّة والدينيّة عن بال رجال الدين حين يدعمون أحد المرشّحين، وتحضر لديهم معايير لا منطقيّة لتبرير هذا الدعم من مثل “مصلحة الطائفة” و”حقوق أبناء الطائفة”، وصولاً إلى الذاتيّة الشخصيّة البعيدة عن الموضوعيّة.

قد تحدو الطيبة والبساطة، بالمعنى الإنجيليّ الشريف للكلمة، برجال الدين فتدفعهم إلى اتّخاذ مواقف مباشرة في الشأن الانتخابيّ. لكن يجدر بهم الانتباه إلى ما يحوكه لهم رجال السياسة، ولا سيّما منهم المخضرمون ممّن يتحلّون بالانتهازيّة والحنكة الطويلة والدربة وبتبديل البندقيّة من كتف إلى كتف مع تغيّر الأهواء والأمزجة. والمسيح أوصى تلاميذه بأن يكونوا “ودعاء كالحمام وحكماء كالحيّات”، لذلك ينبغي ألاّ تنـزلق بنا مواقفنا من البساطة الممدوحة إلى السذاجة الممجوجة. فيستغلّ السياسيّ المدعوم من مرجعيّته الدينيّة الصورة البهيّة التي يقدّمها هذا المرجع ويلطّخها بوحول الحملات الانتخابيّة، وعندما يصل إلى مراده يرمي بالصورة وبصاحبها غير آبه لا بأخلاق ولا بدين ولا بأيّ قيمة من القيّم التي يمثّلها صاحب المرجعيّة.

هذا عدا عن أنّ المرجعيّة الدينيّة، من أسفل السلّم التراتبيّ إلى أعلاه، واجبها أن ترى بعين واحدة إلى جميع المنتمين إليها والخاضعين لسلطتها الدينيّة. وواجبها أن تجمع لا أن تفرّق، كالأب الرؤوف الذي لا يميّز بين ابن وآخر. ففي مثل “الابن الشاطر”، ظلّ الأب يحبّ الابن الذي طالبه بالميراث وذهب فصرفه على الزواني واللهو الخليع، وعندما رجع الابن إلى أبيه، قبله أبوه وألبسه الحلّة الثمينة وذبح له العجل المسمّن واحتفى بعودته. لم يقطع الأب مع ابنه الضالّ ولم يعتبر أنّ أبنه الثاني الذي بقي بجانبه ولم يخالفه بأيّ أمر أفضل من الابن الذي غادره، بل أحبه وانتظر عودته بحبّ وشوق.

ومن دون أن ندخل في جدال حول وجوب الفصل بين الشأن السياسيّ والشأن الدينيّ، يجدر التذكير بأنّ المرجعيّة الدينيّة هي مرجعيّة محصورة بالشأن الدينيّ، وانّ المرجعيّة السياسيّة تحدّدها الآليّات الديموقراطيّة في صناديق الاقتراع. فلماذا تتنازل المرجعيّة الدينيّة عن موقعها السامي الاعتبار لتؤيّد أحد المرشّحين أو تناهضه؟ وماذا يكون موقفها إن صبّت أكثريّة أصوات المنتمين إليها ضدّ رغبتها؟ لماذا وضع الذات في موضع الحرج؟ لماذا إحداث شرخ بين أبناء الطائفة الواحدة الذين تقسّمهم السياسة ويفترض بالدين أن يوحّدهم؟ ولماذا إثارة الشكّ في مصداقيّة المرجعيّة الدينيّة لاتّخاذها موقفًا ليست مضطرّة إليه بحكم موقعها الدينيّ؟

نحن، المؤمنين، نصبو إلى أن نرى المرجعيّات الدينيّة تسمو فوق المماحكات السياسيّة والهذيانات الطائفيّة والمجادلات الانتخابيّة التي لا طائل منها، والتي يغلب عليها طابع الكذب والنفاق والتملّق. نصبو إلى أن نراها حاضنة بالإنجيل جميع اللبنانيّين. نحن بحاجة إلى توبة حقيقيّة يسعى إليها اللبنانيّون كافّة. ومَن سوى رجال الدين وعلى رأسهم المرجعيّات يقدر أن يساهم في دفع اللبنانيّين في هذا الطريق؟ الوداعة الإنجيليّة هي أكثر ما نفتقده في خضمّ هذا البحر الهائج.

 

الأب جورج مسّوح

“النهار”، 26 نيسان 2009

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share