13 نيسان ذكرى عبرت أم حروب آتية؟

الأب جورج مسّوح Wednesday April 13, 2011 100

اليوم، الثالث عشر من نيسان، يتذكّر اللبنانيّون بداية الحروب الداخليّة في وطنهم الأمّ. هي الذكرى السادسة والثلاثون لحروب قيل منذ عشرين عامًا إنّها انتهت إلى غير رجعة. لكنّنا في الواقع نشهد مقدّمات لحروب آتية يتأهّب فيها أبناء الوطن الواحد بعضهم ضدّ بعض. يستسهلون المغامرة المقبلة، بلا ريب، بخفّة لا تطاق وكأنّهم قادمون إلى حروب افتراضيّة تجري أحداثها على الآلات الإلكترونيّة ولن يسقط فيها ضحايا من لحم ودم. يعبثون بمستقبل البلد كما يعبث الطفل بدمية لا حول لها ولا قوّة.

منذ العام 1840 يشهد لبنان حروبًا داخليّة تحرّكها الآلات الطائفيّة. إذًا، ليس الأمر جديدًا ولا طارئًا على الذهنيّة التي تحكم اللبنانيّين جيلاً بعد جيل. هم يرثون تلك الذهنيّة الطائفيّة عن آبائهم وأجدادهم كما يرثون الأموال المنقولة وغير المنقولة، وأسماء عائلاتهم وعشائرهم. هم يرضعون التعصّب الطائفيّ مع حليب أمهّاتهم، ويشربونه مع الماء فيسري في شرايينهم ويتحكّم بأعصابهم ويوجّه تصرّفاتهم وسلوكاتهم مع جيرانهم من باقي الطوائف والمذاهب.

منذ مائة وسبعين عامًا لم يستخلص اللبنانيّون الدروس والعبر من الخبرات المتراكمة في شأن حروبهم الداخليّة.         فأثناء المذابح الطائفيّة التي وقعت في جبل لبنان، كتب المعلّم الرائيّ بطرس البستاني، عام 1860، في دوريّة أنشأها عقب تلك الأحداث باسم “نفير سورية” منتقدًا العصبيّات التي حلّت محلّ حبّ الوطن في أفئدة اللبنانيّين، فقال: “ومن شأن هذا المبدأ الخبيث (العصبيّة) أن يتلوّن في كلّ دور بلون، وينتمي إلى ذات معتبرة كقيسيّ ويمنيّ، ثمّ جنبلاطيّ ويزبكيّ. ومن أشنع هيئاته وأقبحها الهيئة التي ظهر بها في هذه السنين القريبة العهد التي انتحل بها ألقابًا قديمة مقدّسة عند أهلها كنصرانيّ ودرزيّ، ثمّ مسلم ومسيحيّ لعلمه بما تحت هذه الألقاب التي كانت ضايعة تحت ألقابه القديمة من القوّة السحريّة الرائعة”.

اللبنانيّون لا ينتفعون من دروس التاريخ ولا يتّعظون، هذا ما يكرّره دائمًا بطرس البستاني، فيقول وكأنّه يكتب اليوم: “يا أبناء الوطن، طالما سمعناكم تقولون هذه ثالث خربة في برهة أقلّ من عشرين سنة. فها قد جرّبتم مرّة بعد مرّة الحروب الأهليّة وحسبتم أرباحها وخسايرها. ماذا نتج إلاّ الترمّل واليتم والسفالة والفقر والخراب، دينًا ودنيا، والمذلّة والصغر في أعين العقلاء والأجانب، وتقليل عدد الأيدي التي يتوقّف على كدّها وجدّها عمار البلاد وراحة العباد، وتيتيم البلاد ممّن هم أعقل وأقدر وأغنى وأنبه رجالها”. لم تتغيّر الأحوال، فالهجرة، إلى يومنا الحاضر، نزيف مستمرّ لا يتوقّف. الداء معروف، والدواء موصوف، أمّا الإرادة بالشفاء فمعدومة.

ما يبدو جليًّا هو استسلام اللبنانيّين لهذا القدر الغاشم الذي يتحكّم بهم، وكأنّه لا يمكنهم تغييره عبر إعمال العقل والبحث عن تفاديه. كما يبدو أنّ تشخيص المرض بديهيّ لدى كلّ مَن لديه ذرّة من حسّ التمييز، ومع ذلك يبدو المريض مرتاحًا إلى مرضه، بل يعتبره نموذجًا جيّدًا للعيش فيمتدحه ويقرّظ حسناته ويتمادى إلى حدّ تقديمه إلى العالم نموذجًا ممتازًا للعيش المشترك. يتساءل البستاني، وكأنّه يكتب اليوم لا منذ قرن ونصف، مستهجنًا تصرّفات أبناء وطنه: “بماذا نعتذر عن أبناء بلادنا أمام الأجانب غير الغباوة وعدم التمدّن وغلبة شهوة النفس على قوى العقل؟” لا يجد البستاني مبرّرًا للتقاتل بين أبناء بلاده سوى التخلّف وتغييب العقل لصالح الغرائز التي تناقض الطبيعة الإنسانيّة القائمة على حرّيّة الاختيار لا على الانسياق الأعمى إلى الغريزة.

لم ينجح اللبنانيّون في تجاوز انتماءاتهم الطائفيّة إلى التوحّد في انتماء وطنيّ لا لبس فيه. لذلك، تتفاقم أزمة الهويّة لديهم حتّى بات لكلّ طائفة مفهومها الخاصّ لانتمائها الوطنيّ. الهويّة الوطنيّة الجامعة هي وحدها الفريضة الغائبة عن العلاقات السويّة المنشودة ما بين اللبنانيّين على اختلاف ألوان طيفهم. ستبقى الطائفيّة مولّدة للحروب والانقسامات والتباغض طالما هي التي ترعى تقاسم الحصص والمواقع والتوازنات.

آن الأوان لنورّث وطنًا موحّدًا للأجيال الناشئة لا طوائف متقاتلة وقبائل شتّى. ثمّة مفهوم اسمه المواطنة يرعى المساواة في الحقوق والواجبات بين مختلف أبناء الوطن الواحد. ليس الوطن وطنًا إذا لم تكن المواطنة حقًّا مكتسبًا لكلّ فرد من أفراد المجتمع الواحد. سوى ذلك سنظلّ في الدوامة ذاتها، وسيعبر الثالث عشر من نيسان كأنّه عائد بمجد عظيم ذات يوم قريب.

الأب جورج مسّوح

“النهار”، 13 نيسان 2011

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share