الحوار الدينيّ ما بين الصدق والتلفيق

الأب جورج مسّوح Wednesday December 5, 2012 160

وصلنا من القدّيس يوحنّا الدمشقيّ (+750 م) مقالتان جداليّتان موضوعهما الدين الإسلاميّ، وعنوانهما “الهرطقة المائة”، و”مجادلة بين مسلم ومسيحيّ”. ويذهب غالبيّة الخبراء إلى الاعتراف بصحّة نسبتهما إلى الدمشقيّ، وذلك لأسباب شتّى أهمّها الشبه التامّ ما بين الحجج اللاهوتيّة التي يستعملها كاتب المقالتين المذكورتين والحجج التي يعرضها يوحنّا في كتابه “المائة مقالة في الإيمان الأرثوذكسيّ”.

يبدو يوحنّا ملمًّا بالدين الإسلاميّ وبالإشكاليّات التي كانت آنذاك تستقطب المفكّرين من المسلمين والمسيحيّين. فهو عالم، مثلاً، بالاختلاف المسيحيّ الإسلاميّ في شأن هل الله هو خالق الشرّ، وعارفٌ بالنقاش الذي بدأ يظهر بين المسلمين في شأن مسألة كون كلمة الله مخلوقة أم غير مخلوقة، وبمسألة انقسام المسلمين بين تيارَي القدَريّة والجبريّة.

يركّز يوحنّا في ردّه على هذه المسائل جميعًا على التمييز بين ما يشاؤه الله من جهة وبين ما يسمح به من جهة أخرى. وهنا نجده يؤكّد في مقالتين عنواناهما “في أنّ الله ليس هو علّة الشرور”، و”ميزات الطبيعة الإلهيّة” أنّ “الله يقدر على كلّ ما يشاء، ولكنّه لا يشاء كلّ ما يقدر عليه”. وهذه العبارة الأخيرة سوف يتبنّاها المتكلّمون المعتزلة والمعتقدون بالقدَريّة.

بعد أن يدعو يوحنّا المسلمين إلى عدم أخذ الكلام الإلهيّ بمعناه الحرفيّ أو الظاهريّ، بل ضرورة البحث عن التأويل أو عن المجاز في فهم الآيات، يجيب يوحنّا على سؤال المسلم المشكّك بأزليّة المسيح-الكلمة بضرورة التمييز بين ما هو كلمات صادرة عن ذات الله أو عن كلمته، وبين كلمات هي صادرة بوحي منه ولكن بواسطة كتّاب ملهمين منه. في هذا السياق، يكون المسيح-كلمة الله وحده غير مخلوق ومتميّز عن باقي الكلمات.

ويسعنا هنا أن نستنتج بأنّ يوحنّا عندما وضع كتابه “المائة مقالة…” لم يغِب عن باله تكاثر عدد المسلمين في المحيط الذي يعيش فيه وعن تحدّيهم إيّاه، فجاءت بعض مقالاته في هذا الكتاب تردّ على بعض التحدّيات الإيمانيّة التي طرحها المسلمون في وجه المسيحيّين كالمقالات الآتية على سبيل المثال لا الحصر: “البرهان على أنّ الله واحد لا كثرة”، و”إيضاح منطقيّ في الكلمة ابن الله”، و”كيف الثلاثة إله واحد”، و”في الصليب والسجود له”، و”في السجود للأيقونات”.

لا يتوانى يوحنّا عن استعمال الأسلوب الهجوميّ ضدّ المعتقدات الإسلاميّة. غير أنّه يجب ألاّ يغيب عن بالنا السياق الذي وُجد فيه يوحنّا واضطراره إلى صدّ الخطر الكبير الذي شكلّه آنذاك انتشار الإسلام في كلّ بقاع الشرق المسيحيّ. كان زمن يوحنّا زمن صراع من أجل البقاء، فدخول المسلمين إلى بلاد الشام قد أخاف المسيحيّين من الوافدين الجدد المعتنقين ديانة تخالف معتقدهم وتدعوهم إلى التخلّي عن إيمانهم.

كان زمن يوحنّا زمن الدفاع عن الإيمان المسيحيّ، لذلك لم يوفّر أيّ سلاح فكريّ أو لاهوتيّ يفيده في معركته ضدّ الديانة الجديدة. لكنّه بقي حريصًا جدًّا، في الآن عينه، على محبّة المسلمين. المحبّة لا تعني التلفيق في العقائد. المحبّة لا تعني انعدام الصدق، ولا الصدق يعني انعدام المحبّة. هل يدرك العاملون اليوم في حقل الحوار بين الأديان هذا الأمر، ويقبلونه؟

 

الأب جورج مسّوح

“النهار”،5 كانون الأول 2012

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share