وَسَأَلَهُ: «أَتُؤْمِنُ بِابْنِ اللهِ؟» أَجَابَ: «مَنْ هُوَ يَاسَيِّدُ حَتىَّ أُؤمِنَ بِهِ؟» فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «الَّذِي قَدْ رَأَيْتَهُ، وَالَّذِي يُكَلِّمُكَ، هُوَ نَفْسُهُ!» فَقَالَ: «أَنَا أُؤمِنُ يَاسَيِّدُ!» وَسَجَدَ لَهُ.
يقول القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفم :”ما الضرر من عمى هذا الأعمى حين قاده إلى معرفة يسوع؟ وفي المُقابل ما الفائدة من بَصَرِ أهله، حِينَ لَم يُؤهِّلْهم البصرُ الجسديُّ لِمعرفته؟ ذاك وهوَ في مُعاناتِه نال الحياة، وهؤلاء وَهُم في صحَّتِهم فقدوا الحياة”. يعالج إنجيل أحد الأعمى إشكاليّةَ المرض، أو الشرور الطبيعيّة، الّتي يَظنّها الكثيرون عقاب الله للإنسان عمّا اقترفَهُ من خطايا. جواب المسيح في الإنجيل واضح “لاَ هُوَ أَخْطَأَ وَلاَ وَالِدَاهُ، وَلكِنْ حَتَّى تَظْهَرَ فِيهِ أَعْمَالُ الله”.
أمَّا السؤال الذي قد نتساءله جميعنا فهو الآتي: وما ذنبه إذاً في أن يولد أعمى؟ هل أعمال الله ومجده يفترض العمى؟ الجواب بالطبع لا، ولكنَّ الله يبتكر شتّى الطُّرُقِ حتّى يؤهِّلَ الإنسان إلى لقائه. في حالة الأعمى هنا، رأى الله بعمقِ حكمتِه أنّ عمى البصر سيقود هذا الإنسان إلى شفاء عينَيْ قلبِه وبصيرتِه، و أن يتأهّلَ بالتالي لمعرفة يسوع.
سمع الأعمى كلمات يسوع، أنّه نور العالم، وآمن به، وكيف برز إيمانه؟ عندما سمح له أن يضع الطّينَ في عينَيه، وارتضى بعد ذلك أن يغتسل في بركة سلوام، فـ”عَادَ بَصِيراً ” كما يخبرنا الإنجيلي. رِبحُ الأعمى جاء مضاعفاً، فقد شُفِيَتْ بصيرتُه الداخليّة، واستعادَ نعمةَ البصر الجسديّ، وبرز ذلك عندما جاء جوابُه عن سؤال المسيح «أَتُؤْمِنُ بِابْنِ اللهِ؟»،«أَنَا أُومِنُ يَاسَيِّد!» وَسَجَدَ لَهُ. يرى البشرُ الشرَّ والظلم في كُلِّ ما هو مؤلمُ ومُتعِبٌ بالنسبة إلى الحواسّ، و لهذا فالعمى هو شرّ وظلم، ويرَون الخيرَ والصلاحَ في كُلِّ ما هو مُريحٌ ومُمتِع. في حين يحدِّدُ اللهُ الشرَّ في كُلِّ ما يُبعِدُنا عن الملكوت ويَذْخَرُ لنا عذاباً أبديّاً، وأمّا الخير فهو الشركة والمُلك معه في الملكوت. عندما يحيا البشر الخير في إطار منظومة المتعة والراحة، يَحيَون في تربةٍ خصبةٍ لِكُلِّ أنواع ودرجات الفساد والاِنحلال الخُلُقِيّ ويتمرّغون فيه. يرتأي الله آنذاك، بعمق حكمته، أن يُلحق بالبشر ما يسمّونه شرًّا كالمرض وغيره… إلخ، وذلك عندما يرى أنّ الخاطئ يهلك بجهالة في خطيئته، ويُصِرُّ بوقاحة عليها. يستخدم الله هذه الشرور كَعَملٍ جِراحيٍّ يستأصل به الشرورَ الحقيقيّة. فعلى سبيل المثال، مَن يَهْتُكُ صِحّتَهُ الجسديّةَ بأعمال الفسق من دون أن يرتدع، يسمح الله بأن يَـمرض جسديّاً كي لا تبقى صِحّتُه بعدُ مَدْعاةً لخطيئته. فهو من جهة يُبعده عنها لِما تَذْخَرُ مِن عذابٍ أبديّ، وَمِنْ جهةٍ ثانيةٍ يَحُثُّهُ بطريقة ما، على أن يستشعر خطيئته، ويدفعُه إلى التوبة عنها. في هذه الحالة يصير المرض صحّةً، لأنّه يَقودُنا إلى التوبة، والصحّةُ مَرَضاً لكونها مدعاةً وعُذرًا للخطيئة. إذ من خلال المرض يشفي الله النفس المريضة.
وتارةً أخرى، يسمح الله بالشرور الطبيعيّة كي يمحّص من جهةٍ إيمان محبيّه مُبرزاً فضائلَهم كنماذج تعليميّة نقتدي بها، مُدَّخِراً لهم من جهة أخرى أفراحاً وغبطةً أبديّةً مضاعفة في الحياة الأخرى، وذلك على غرار ما حصل مع أيّوب الصدّيق.
يسعى الله من خلال هذا النهج إلى شفاء بصائر البشر وتُصحيح معاييرهم تجاه الخير الحقيقيّ والشرّ الحقيقيّ. فالخير الحقيقيُّ ليس سوى الله، والشرُّ الحقيقيُّ ليس سوى البُعدِ عنه وعن ملكوته، له المجد إلى أبد الدهور آمين.