المقاصد الإلهيّة – الأرشمندريت توما (بيطار)

mjoa Monday May 16, 2016 171

المقاصد الإلهيّة – الأرشمندريت توما (بيطار)

   في الأحد الثّاني، بعد الفصح المجيد، تذكر الكنيسة المقدّسة حاملات الطّيب، مع يوسف ونيقوديمس. هؤلاء كانوا من خارج الحلقة الحميمة، الّتي كانت تتحلّق حول الرّبّ يسوع المسيح. بعد أن مات الرّبّ يسوع، على الصّليب، تفرّق التّلاميذ الإثنا عشر، واختبأوا في مكان أو في آخر، وراحوا يلتقون بطريقة سرّيّة، لأنّهم كانوا خائفين. ليس مستبعَدًا، أبدًا، أنّهم كانوا مطلوبين، وربّما مطارَدين؛ لأنّ اليهود كانوا يعرفون أنّ للرّبّ يسوع تلاميذ، ويخافون من أن يلفّق تلاميذه قصّة ما، ويدّعوا أنّه قام من بين الأموات. لهذا السّبب، كانوا يريدون القبض عليهم.

7amilat-tib   في تلك الأثناء، حرّك الرّبّ الإله حاملات الطّيب، اللّواتي كنّ بضع نسوة، عرفن الرّبّ يسوع، وربّما نقّى الرّبّ يسوع بعضهنّ من الأرواح الخبيثة؛ وربّما، أيضًا، كنّ ينفقن على الرّبّ يسوع من أموالهنّ؛ وكنّ محتفّات به، ويتابعنه من مكان إلى آخر. لكنّ الأمر اللاّفت جدًّا هو أنّ حاملات الطّيب قمن بفعلين غريبين عن العادات اليهوديّة، يجعلان المرء يتساءل لماذا، بشريًّا، فكّرن بالطّريقة هذه.

   أوّلاً، أخذن أطيابًا، ليطيّبن جسد الرّبّ يسوع. وهذا أمر لم يكن معروفًا، في ما يبدو، بين اليهود؛ لأنّ تطييب الجسد يتمّ قبل دفنه، لا بعد ذلك. العادة المتّبَعة كانت أنّ الميت يُطيَّب بطيوب كثيرة، ويُلَفّ، بكلّيّته، بلفائف من كتّان، ويُلفّ رأسه على حِدة، إنّما يغطّى كلّه، بعد أن يكون قد طُيِّب. هذا ما فعله يوسف الرّاميّ، ويُظَنّ أنّ نيقوديمس كان مشتركًا معه. فلماذا، إذًا، أخذت حاملات الطّيب طيوبًا، وذهبن إلى القبر بقصد تطييب الجسد؟!.  هذا أمر غريب جدًّا.

   ثانيًا، إنّ النّسوة، اللّواتي ذهبن ليطيّبن جسد الرّبّ يسوع، سبق لهنّ أن رأين أين وُضِعَ الرّبّ يسوع، ورأين أنّه قد دُحْرِجَ حجر على باب القبر. طبعًا، ولو كنّ ثلاثًا، أو أربع، وربّما أكثر، فلن يكون سهلاً، بالنّسبة إليهنّ، أن يدحرجن الحجر. هذا، أيضًا، أمر يبدو أنّهنّ لم يفكّرن فيه.

   بالإضافة إلى ذلك، هناك عقبة ثالثة، لم يأخذنها، أيضًا، في عين الاعتبار، وهي أنّ حرّاسًا كانوا موجودين عند القبر. بعد موت الرّبّ يسوع، طلب اليهود من بيلاطس أن يضع حرّاسًا على القبر، لئلاّ يسرق التّلاميذ جسده، ويدّعوا، فيما بعد، أنّه قام من بين الأموات. فقال لهم بيلاطس، حينذاك: “إنّ عندكم حرّاسًا، فاذهبوا واضبطوا القبر كما تعلمون”. هذا لأنّ اليهود كان لديهم مجموعة من الحرّاس، تهتمّ بحراسة الهيكل.

   إذًا، هناك ثلاثة أسباب، على الأقلّ، تمنع حاملات الطّيب من أن يتجرّأن ويذهبن إلى القبر، أو من أن يكنّ واقعيّات وعملانيّات، في ذهابهنّ. ومع هذا كلّه، ذهبن. لماذا؟!. لا شكّ في أنّ الأمور كانت مختلطة، في أذهانهنّ. ربّما كانت محبّتهنّ للرّبّ يسوع، وتعلّقهنّ به، دافعًا إلى ذلك؛ لأنّ المرأة، عمومًا، إنسان قلب. وربّما، أيضًا، تشجّعن، لأنّ النّساء، عادة، لا أحد يعترضهنّ؛ إذ لا أحد يقيم لهنّ وزنًا. اليهود كانوا يفتّشون عن التّلاميذ، لا عن النّسوة اللّواتي كانت لهنّ علاقة به. هؤلاء كنّ، بالنّسبة إليهم، نكرة، إلى حدٍّ بعيد. لكن، في العمق، هؤلاء النّسوة ذهبن إلى القبر، لأنّ روح الرّبّ حرّكهنّ. وعندما يحرّك روح الرّبّ إنسانًا، فإنّه لا يتصرّف، من بعد، بالضّرورة، بطريقة عقلانيّة، أو منطقيّة، أو عملانيّة، بل يتصرّف بقوّة الرّوح الّذي يدفعه إلى التّصرّف بالطّريقة الّتي يتصرّف بها. إذًا، مع العلم أنّهنّ أخذن طيوبًا، إلاّ أنّ دافعهنّ كان، بشريًّا، الفضوليّة. والرّبّ الإله أراد أن يُظهر، من خلالهنّ، أمرًا لم يكن في الحسبان. قديمًا، قيل، مثلاً، عن شاول، الّذي كان أوّل ملك على إسرائيل، إنّه خرج للبحث عن حمير أبيه، الّتي كانت ضائعة؛ فقيل إنّه وجد الملكوت؛ إذ، في ذلك الحين، أخذه صموئيل النّبيّ، ومسحه ملكًا على إسرائيل. مقاصد الرّبّ، إذًا، ليست كمقاصد البشر. يتصرّف البشر، أحيانًا، بطريقة غير واضحة. لكن، القصد من دفع روح الله للنّاس في اتّجاه معيّن يظهر فيما بعد. عندما يشاء الرّبّ الإله أمرًا محدّدًا، فإنّه يحقّقه، من خلال تحريك قلوب النّاس؛ لأنّ هذه الأخيرة هي بين يديه. هكذا، حرّك روح الرّبّ قلوب النّسوة؛ فتصرّفن بالطّريقة الّتي تصرّفن بها، على الرّغم من العنصر غير المنطقيّ، وغير الواقعيّ، وغير العملانيّ، في تصرّفهنّ.

   من جهة أخرى، عندنا يوسف ونيقوديمس، اللّذان نقيم ذكرهما، اليوم، أيضًا. هذان يبدو أنّهما كانا معروفين، في شعب إسرائيل. يوسف كان من بلدة اسمها “الرّامة”، تبعد عن أورشليم خمسة وأربعين كيلومترًا، إلى الجهة الشّماليّة الغربيّة. والنّصّ يقول عنه إنّه كان مشيرًا وتقيًّا؛ وكان هو، أيضًا، ينتظر ملكوت الله. يبدو أنّ يوسف كان، سرًّا، يتابع أخبار الرّبّ يسوع؛ وكان مؤمنًا، في قرارة نفسه، به؛ لكنّه كان يفضّل أن يتوارى؛ لأنّ اليهود، في وقت من الأوقات، كانوا متشدِّدين جدًّا، بحيث إنّ مَن يجاهر بإيمانه بالرّبّ يسوع يُخرَج من المجمع. والإخراج من المجمع، عند اليهود، يعني أنّ هذا الإنسان قُطِعَ من شعب إسرائيل. طبعًا، هذا أمر مخيف جدًّا، يشبه ما نقول به نحن، اليوم، أي إن لفظ إنسان هرطقة ما، فإنّنا نقطعه عن الكنيسة، وعن الكأس المشتركة؛ فيمسي خارج الكنيسة، ويخضع لعقوبات معيّنة. إذًا، هذا الأمر كان قاسيًا جدًّا، ومخيفًا، بالنّسبة إلى النّاس. لذلك، كان هناك العديد من اليهود، الّذين آمنوا بالرّبّ يسوع، لكنّهم لم يجاهروا بإيمانهم به؛ لأنّهم كانوا يخافون على أنفسهم لئلاّ يُطرَحوا خارج المجمع اليهوديّ، لئلاّ يُقطَعوا من أمّة اليهود. لهذا السّبب، كان يوسف الرّاميّ يؤمن، في قلبه، من دون أن يجاهر بهذا الإيمان. طبعًا، هناك سؤال يُطرَح: إذا كان يوسف الرّاميّ، حين كان الرّبّ يسوع، بعد، على قيد الحياة، لم يجاهر بإيمانه به؛ فلماذا جاهر به، بالطّريقة الّتي جاهر بها، بعد أن مات الرّبّ يسوع؟. كان من المفترض أن يكون موت الرّبّ يسوع دليلَ فشلِ القصدِ الّذي سبق للرّبّ يسوع أن تكلّم عليه. فإذا كان يوسف يتوارى، حين كان الرّبّ يسوع على قيد الحياة؛ فمن الطّبيعيّ جدًّا أن يهرب بعد أن مات الرّبّ يسوع. لكنّه لم يفعل ذلك. لماذا؟. أيضًا، لأنّ روح الرّبّ هو الّذي حرّكه. إذًا، مَن كان يقود كلّ ما يجري لم يكن أحدًا من البشر، إنّما روح الرّبّ هو الّذي كان يجمع العناصر؛ حتّى يصل بها إلى اكتشاف قيامة الرّبّ يسوع. ثمّ إنّ يوسف كان رجلاً معروفًا. هنا، يسمّيه الإنجيل “مشيرًا”، أي صاحب مشورة، ما يعني أنّه إنسان ذو حكمة، يعود النّاس إليه لكي يأخذوا برأيه، في قضايا تتعلّق بحياتهم العامّة. وليس مستبعَدًا، أبدًا، أن يكون يوسف الرّاميّ أحد أعضاء المجمع اليهوديّ. عند اليهود، كان هناك مجمع كبير، هو الّذي يحكم بكلّ أمور اليهود الدّينيّة، وكان مكوّنًا من سبعين عضوًا، ويضمّ العديد من الفرّيسيّين، ورؤساء الكهنة، والرّؤساء على عائلاتهم، أو في قومهم، وفي الوقت نفسه، من أشخاص مشيرين وبارزين في شعب إسرائيل. هذا المجمع كان يُسمّى “مجمع السّنهدرين”، أو “مجمع السّبعين”. إذًا، ليس مستبعدًا، أبدًا، أن يكون يوسف واحدًا من أعضاء هذا المجمع؛ لذلك، كان يتوارى، لأنّه كان معروفًا.

   بالإضافة إلى يوسف الرّاميّ، كان هناك نيقوديمس، الّذي تسمّيه الكنيسة بـ”التّلميذ اللّيليّ”. هذا، في إنجيل يوحنّا، الإصحاح الثّالث، أتى إلى الرّبّ يسوع ليلاً، وجرى بينه وبين الرّبّ حديث لاهوتي، بشأن الولادة الجديدة. إذًا، نيقوديمس، أيضًا، يبدو أنّه كان تلميذًا، وكان عضوًا في مجمع “السّنهدرين”؛ وقد أتى ليلاً، لأنّه كان خائفًا. الإنسان يخاف على مركزه بين النّاس… هذا أمر بشريّ جدًّا. لكن، كيوسف الرّاميّ، بعد موت الرّبّ يسوع، جاهر بانتمائه إليه، واشترك في تحنيطه، أو تطييبه، ودفنه.

   إذًا، في كلّ ما جرى، من الواضح أنّ الرّبّ لا يعتمد، بالضّرورة، على مَن هم بارزون، في الجماعة الّتي تؤمن به؛ بل يعتمد، أيضًا، على أناس غير بارزين، أبدًا؛ ويحرّك قلوب أشخاص كانوا متردّدين؛ حتّى يتمّم قصده من خلالهم. مثلاً، نعرف، عندما نقرأ الأناجيل المقدّسة، أنّ الرّبّ يسوع كان لديه شبكة معارف، بين النّاس. هؤلاء ساعدوا في إتمام المقاصد الإلهيّة. مثلاً، أرسل الرّبّ يسوع اثنين من تلاميذه، حتّى يهيّئوا القاعة، حيث سيأكل وتلاميذه الفصح، أي الخروف الفصحيّ. عند اليهود، كان هناك عيد اسمه “عيد الفصح”، أو “عيد الفطير”، وهو عيد قديم جدًّا، كانت كلّ عائلة تذبح، فيه، خروفًا، وكانوا يأكلونه مع خبزٍ فطير وأعشابٍ مرّة. أرسل الرّبّ يسوع اثنين من تلاميذه إلى أناس غير معروفين، قالا لهم إنّ المعلّم قد أرسلهما لكي يهيّئا القاعة. فأرشدوهما إلى القاعة… مَن هم هؤلاء النّاس، بالضّبط؟. لا نعلم. مرّة أخرى، أيضًا، أراد الرّبّ أن يدخل أورشليم، فأرسل، أيضًا، أشخاصًا من تلاميذه، وقال لهم أن يذهبوا إلى مكان معيّن، حيث يرون حمارًا، أو، بالأحرى، أتانًا، أي أنثى الحمار، مع جحشها، فيحلّونهما، ويأتونه بهما، وإذا ما سألهم أحد ماذا يفعلون، يقولون له إنّ المعلّم طلب ذلك. وهذا ما حصل فعلاً… إذًا، كان لدى الرّبّ يسوع أشخاص عديدون ينتمون إليه، بطريقة أو بأخرى؛ ويحبّونه؛ ويخدمونه؛ وكانوا مستعدّين، أيضًا، لأن يؤدّوا خدمات مختلفة له، بحضوره أو بغيابه.

   كلّ هذا، حتّى نعرف، في نهاية المطاف، أنّ الرّبّ، عندما يريد أن يفعل شيئًا، لا شيء يقف في وجهه، على الإطلاق، سواءً تعاون الآخرون معه أم لم يتعاونوا. عندما كان الرّبّ يسوع داخلاً أورشليم، طلبوا إليه أن يُسكِتَ الأولاد الّذين يصرخون “هوشعنا في الأعالي”؛ فقال لهم: “إذا سكت هؤلاء، فالحجارة تصرخ”. إذًا، كلمة الله، أو قصده لا يمكن أن يعود إليه فارغًا. دائمًا يتحقّق. لهذا السّبب، نحن علينا، بصورة دائمة، أن نكون على ثقة أنّنا، إذا ما سلكنا بأمانة مع الرّبّ الإله، نبلغ إلى حيث يريدنا هو أن نبلغ، ولو كنّا لا نعرف كيف، ولا متى يكون ذلك. لكن، كلّ التفاصيل حاضرة في ذهن الله. والرّبّ الإله يحقّق كلّ شيء في أوانه؛ وما على الإنسان إلاّ أن يقف، فقط، الموقف الّذي وقفته والدة الإله، مريم، عندما جاءها ملاك الرّبّ، وأخبرها بأنّها ستحبل بالرّوح القدس، وتلد ابنًا، ويُدعَى اسمه “يسوع”؛ لأنّه يخلّص شعبه. وفي نهاية المطاف، قالت له: “ليكن لي بحسب قولك”. نحن، سواء فهمنا أم لم نفهم، عرفنا كيف أم لم نعرف، المهمّ أن نتعلّم كيف نُسلم حياتنا إلى الله، وكيف نصدّق الكلام الإلهيّ، وكيف نسلك فيه، وكيف ننتظر تحقيقه في حياتنا. وكلام الرّبّ لا بدّ من أن يتحقّق، لنا شخصيًّا كأفراد، وكجماعات، في أوانه. والسّبح لله دائمًا.

الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي
دوما – لبنان
15 أيار 2016

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share